ركضَت هيئةٌ صغيرة داخل غابةٍ رطبة.
كان صوتُ خطواتِ امرأةٍ تشقّ الضبابَ المتسلّل بين الأشجارِ.
وفي أعقابها، لاحَ ظلُّ وحشٍ أسودَ يطاردها.
“آه…!”
انخلعَ حذاؤها، وخلّفَت قدماها الملطختان بالدم آثارًا حمراء على الأرض،
كأنّها ترشدُ الوحشَ لمكانِها.
كلبُ الصيد، ذو الأذنين المنتصبتين، لم يفوّت رائحة الدم المعدنية،
وظلَّ يُلاحقها من على مقربة.
ارتفعت وتيرةُ خفقاتِ قلبها مع صوتِ قوائم الوحش الأربع تضرب الأرض.
“هاه… هاه…!”
تناثرَ شعرُها البنيّ الداكن المبتلّ بالعرق،
وانجرحَ جلدُها الأبيض من الأغصان الخشنة.
لكنّها نسيت الألم، وركضت بكلِّ ما أوتيت من قوّة، حتى كاد صدرُها ينفجر.
مرّت بالأشجارِ الممدودة مستقيمةً وسريعةَ الخُطى بجانبها.
كانت تقف كقضبانٍ من حديدٍ ممتدةٍ بلا نهاية، لا يُرى لها طرف.
وأخيرًا…
-نباح!
مع صوتِ نباحِ كلبِ الصيدِ خلفها مباشرة،
شعرت بألمٍ يخترق ساقها.
وفي اللحظةِ نفسِها، ترنّح جسدُها وسقطَ إلى الأمام.
“آه!”
ارتطمت بالأرضِ بكلِّ قوتها، وخرجَ منها أنينٌ مكتوم.
عندما أدارت رأسَها، التقت عيناها ببريقٍ متوحّشٍ لا يعرف الرحمة.
كان الكلبُ الضخمُ يعضُّ ساقها النحيلة،
وجعلَ فمهُ الملطّخُ باللعابِ يختلجُ بخفّة.
حين أدركت أنّ الهروبَ لم يعد ممكنًا، قفزَ كلبٌ آخر كان يطاردها، مستهدفًا عنقها.
“أرجوكَ…!”
في اللحظة التي أغمضت فيها عينيها بإحكام…
سمعت صوتَ نباحٍ متألمٍ.
ثمّ سُمِعَ صوتُ اختراقٍ عميقٍ “فُق!”
وفي ذات اللحظة، شعرت بفكِّ الكلبِ المرتكزِ على ساقها ينفصل.
-سحق!
تناثرَ دمٌ ساخنٌ فوقَ ثيابها الممزقة.
فتحت المرأةُ الهاربة عينيها ببطء.
كانت جثةُ كلبِ الصيدِ الكبير تتدحرجُ فوق التربةِ المبللةِ بالدم.
نسيت الألمَ المغروسَ في ساقها، ورفعت رأسَها تدريجيًا.
على بعدِ خطوات، كان هناك رجلٌ واقف.
يلبسُ عباءةً سوداء، وشعرُه حالكُ السواد، تمامًا كالظلّ الذي يُغلفه.
جلست على الأرضِ و تمسّكت بالطينِ الرطب تحت يديها.
عندها، أدار الرجلُ سيفَه ببطء، وأدار رأسَه نحوها.
حين لمعَت عيناه البنفسجيّتان فوقَ ظلّه القاتم، بدأ قلبُها ينبض بعنف.
‘لماذا…؟!’
أخفضت رأسها بسرعة،
كما لو كانت لصّةً كُشِفَ أمرُها، وغطّت وجهها بخصلات شعرها.
صدى خطوات الرجل فوق بركةِ الدمِ سُمِع وسط الغابةِ الهادئة.
كان هواءُ الغابةِ المظلمةِ مُثقلًا بالكآبة،
وألمُ ساقها ينبض كأنّه على وشكِ التمزق.
جلست القرفصاء فوق بركةِ الدم، واحتضنت جسدها بانكماشٍ شديد.
الهواءُ الرطبُ المتشبّعُ بالضبابِ الثقيل، ضغط على رئتيها.
ثمّ خيَّم ظلٌّ فوق ظهر يدها البيضاء النحيلة.
تمنّت من قلبها أن يتجاهلها ذلك الظلّ القاتم ويمضي.
لكنّ الحذاءَ الأسودَ اللامع، داسَ بلا رحمةٍ حتى على النسيم، وتوقّف أمامها.
“لم أتوقع أن نلتقي في مكانٍ كهذا.”
قطرةُ دمٍ لم تبرد بعد، تقاطرَت من طرف سيف الرجلِ الذي ينتمي لذلك الظل.
ثمّ امتدّت يدٌ مغطاةٌ بقفازٍ أسود، أمسكت بذقنها، ورفعتها بقوة.
وهناك، رأته.
تلك العينان البنفسجيّتان المتألّقتان وسط عالمٍ باهتٍ مغطّى بسُحبٍ رمادية.
شيد ليستر
دوقٌ يحكمُ أراضي ليستر في الشمال، يُلقَّب بـ “سيف الشمال”.
وفي الجانب الآخر، هو عبدٌ سابق، يحملُ دماء شعبِ “لوفوس” البربريين،
ويُلقّب بـ “الذئب الأسود”.
ازدواجيّةُ اسمه كانت مادة دسمة لثرثرات المجتمع الراقي، وقلّما يخلو مجلسٌ من ذكره.
لكن بالنسبة إليها، لم يكن شيد مجرّد شخصِ غريب.
“آنستي، هل أنتِ بخير؟”
ذكرياتٌ دفنتها طويلًا، بدأت تنسابُ إلى سطحِ عقلها كأنها تنتظر اللحظة المناسبة.
سدُّ النسيانِ الذي بنته بعنايةٍ بدأ بالتصدّع.
الذكرياتُ المتسرّبة من الشقوق، ما لبثت أن أغرقت ذلك السدّ،
لتفيضَ كالسيلِ وتملأ رأسها بالكامل.
وقد بلغَت الذكرياتُ حنجرتَها حتى كادت أن تبتلعها تمامًا.
جالت العيونُ البنفسجية على جسدِها بنظرةٍ جافة، فكاد نَفَسُها ينقطع.
“لقد اختفيتِ بعدما تخلّيتِ عنّي.”
تحرّكت شفتاه الهادئتان، كما لو كانتا صفحة أفقٍ ساكن، ببطءٍ شديد.
“……وها أنتِ بهذا المنظر؟”
كان في نبرته الرتيبة شيءٌ من السخرية.
ظهر وجهها، وقد كشفته خصلات شعرها المتشابكة.
خدٌ متورّم محمر، شفاهٌ دامية، ثوبُ خادمةٍ ممزّق،
فردةُ حذاءٌ ضائع لا يُعرَف أين فُقِد، وقدمان مثخنتان بالجراح،
وساقٌ ملطّخة بالدماء حيث عضّها الكلب.
أغمضت عينيها بقوة وأشاحت بوجهها.
كانا يعرفان بعضهما جيدًا.
لكن لم ترغب هي في لقاءٍ كهذا أبدًا.
لم ترد أن يراها وهي غارقةٌ في هذا الوحلِ، ملوّثةً إلى هذا الحد.
بل لم يكن ينبغي أن تلتقيه بأيِّ حالٍ من الأحوال.
فكم عانت لتفرَّ منه…
تلوّت محاولةً أن تفلت من نظره.
فتقلّصت حدقة عينيه البنفسجيّتين.
“لويزا.”
خرج اسمها القديمُ من شفتيه.
ذلك الاسم المهجور زلزلَ قلبَها من جديدٍ.
اسمُ المرأةِ التي أُعدِمت منذُ زمنٍ بعيد بتهمةِ الهرطقة.
اسمُ الخائنة التي لم يعد ينبغي أن يُلفظ في هذا العالم.
“لويزا إيديانا.”
أجبرها على إدارة رأسها من جديد، ليصطدم نظرها بعينيه مباشرة.
وفي نهاية تلك النظرة العنيدة، ارتسم على شفتيه ابتسامة ملتوية.
“لقد ظننتُكِ ميتة.”
كان صوته منخفضًا وهو يلفظ تلك الكلمات التي طعنَت قلبها.
لم تعد لمسة يدِه التي أمسكت بعنقِها تحملُ شيئًا من الدفءِ.
ولا كان في عينيه ذلك الصفاء الذي كان يلمع قديمًا في أقاصي ذاكرتها.
“كان عليكِ أن تموتي، لكن بعد أن تمنحيني فرصة الانتقامِ.”
مرّت ابتسامة باردة على وجهه الجامد.
ارتياحٌ لأنه لم يفقد تلك الفرصة.
وانتصارٌ لأنه لم يُفلت فريسته.
ذلك الصفاءُ القديمُ، وذلك الدفء الطفولي، لم يعودا يليقان به.
لقد استبدل بسذاجته القديمة وغروره المتعالي، زينةً من التهكّم البارد المتأنّق.
تغيّر الكثير، وهي أيضًا لم تكن كما كانت.
“ليانا…”
خرجَ الصوتُ من بين شفتيها المرتجفتين، كأنّه أنينُ ضحيّة تُساق إلى مذبح.
“أنا… ليانا سيرفنس.”
كان لفظ الاسم مؤلمًا كأنّه يجرح لسانها.
ليانا سيرفنس، هذا ما اعتاد الجميع أن يناديها به.
أما لويزا إيديانا، المذنبة بالخيانة والهرطقة، فقد اختفت من الوجود.
لم يتبقَّ سوى الخادمة العامية المسماة ليانا.
امرأةٌ متدنية لا علاقةَ لها بالنبلاءِ.
“يبدو أن سموّك قد ظنّني شخصًا آخر.”
خفضت ليانا رأسها، متظاهرةً بأكبر قدر من الجسارة.
ذكّرت نفسها من تكون الآن.
لا شعرًا بلاتينيًّا ناعمًا، بل خصلاتٌ بُنيّة داكنة كأوراقٍ ميتة.
لا فستانًا نقيًّا أبيض، بل ثوبَ خادمةٍ ممزق متّسخ.
ولا حذاءً جلديًّا مصقولًا، بل حذاء من قماشٍ متهالك،
بل لم يعد حتى كاملاً، إذ ظهر كعبها ملوّثًا بالدماء والوحل.
أما لهجتها، فقد تركت تلك الغربية الرقيقة،
واستبدلتها بلهجة الجنوب الهادئة اللامبالية.
ولهذا، لم يتعرّف عليها أحد.
لم يتعرّف عليها أيّ أحد، مطلقًا.
لكن…
“أتقولينَ أنَّ ظنّي خاطئ؟”
وميضٌ خافت مرّ تحت رموشه الطويلة.
وفي اللحظة نفسها، انزلقت أصابعه الطويلة من ذقنها إلى أسفل رقبتها.
كان ملمسها حارًّا وباردًا في آن واحد،
كأنّها نصل سيف.
تجمّدت ليانا في مكانها.
“لا يمكن أن تخدعيني، لويزا.”
أمسك ياقة ثوبها ومزّقها بعنف.
تبعثرت الأزرار المرهَقة بلا مقاومة.
ظهر الكتف وعظمة الترقوة البيضاء، خالية من الزينة.
وتوجّه نظره إلى بقعةٍ صغيرة فوق الترقوة.
بقعةٌ سوداء على شكل هلالٍ مقلوب.
“أنتِ تعلمين أن عليكِ ألّا تكذبي عليّ، أليس كذلك؟”
شدّ ياقة ثوبها كما لو كان يسحب حبل فريسة وقعت في الفخ.
الدليل المنقوش على جسدها لم يكن قابلًا للإنكار.
أمسكت الياقة المرتخية بسرعة وهي تحاول تغطية نفسها.
“دعني أذهب…”
“……أنا؟ أدعكِ؟”
اختفى ذلك التمرّد التافه تحت قسوة يده.
“عليّ أن أعود…”
“إلى أين؟ إلى منزل البارون غودوين؟”
سأل شيد ليستر بنبرةٍ ساخرة، فرفعت إليه عينيها المتّسعتين بدهشة.
“كيف…؟”
كيف عَلِم أنني أعمل خادمةً في منزل البارون غودوين؟
حين ارتسم الشكّ في عينيها المرتجفتين،
أشار شيد بلا اكتراث إلى كلب الصيد الملقى أرضًا.
كانت على عنق الكلب الميت قلادةٌ تحمل شعار عائلة غودوين،
واضحةً وضوح الشمس.
وفوق ذلك، كان فستان الخادمة الأسود المُلطّخ بالدماء يحمل أطرافًا من الدانتيل الريفيّ الغليظ،
المميّز لهذه المنطقة تحديدًا.
لم يكن هناك شكّ، كان ثوب خادمةٍ من قصر البارون غودوين.
“رغم ما حدث لك، ما زلتِ ترغبين في العودة إلى قصر البارون؟ يا له من ولاءٍ عظيم.”
“……لأنّ سيدي البارون يعتني بي.”
قبضت ليانا على طرف تنّورتها المتّسخة بيدٍ مرتجفة.
عندها ضاقَت عينا شيد بتوجّس.
“يعتني؟”
تفحّصها من خلال عينيه الضيّقتين.
يا لها من هيئةٍ بائسةٍ لخادمةٍ يزعم أنها تحظى بعناية سيّدها.
“حقًّا، يثير فضولي مدى تلك العناية التي يحظى بها أمثالكِ.”
ارتسمت ابتسامةٌ ماكرة على شفتيه، وأخذ يمرّر أصابعه ببطءٍ على مقبض سيفه.
وحين أدركت ليانا ما ينويه، هزّت رأسها على الفور.
“سيدي لا يمكن أن يؤذيني…!”
“هل تقلقين من أن ينتقم منّي البارون غودوين؟”
ضحك شيد ليستر ضحكة خافتة، ثم جذبها من عنقها فجأة.
فسقط جسدها نحو الأمام، واقتربت المسافة بينهما إلى حدّ أن أنفاسه كادت تلامس خدّها.
شهقت ليانا، وقد اختلطت في أنفها رائحة الغابة الثقيلة برائحة الدم المعدنية.
نظر شيد إلى عينيها، وهي بالكاد تتنفّس.
“إن كنتِ ترينني ذلك العبد القديم، فقد أسأتِ الظنّ، يا آنسة.”
همس بصوتٍ خافتٍ يبعثُ القشعريرة.
ارتعشت شفتا ليانا دون أن تنبس بكلمة.
“كلما سقطتِ أنتِ، ارتفعتُ أنا.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات