استيقظت ببطء من نومها.
تصلبت أكتاف ماريان وهي تدفن نفسها تحت الأغطية دون وعي. كانت كتفيها العاريتين باردتين دون قميص. البرد الذي يلامس مؤخرة رقبتها جعل نعاسها يتلاشى في لحظة.
برزت عيناها الزرقاوان من بين جفنيها المفتوحين.
نظرتها، الممتلئة بالحرج والإثارة، تجولت في الفراغ.
ثم …
“…”
وقعت عينا ماريان على الفراغ بجانبها. مدت يدها ببطء و تحسست الملاءة. بدا وكأنه استيقظ منذ فترة طويلة لأن الدفء في الفراغ قد اختفى.
أظلمت عيناها فجأة. لم تكن هذه المرة الأولى التي تُستقبل فيها ببرودةٍ بجانبها بعد ليلةٍ من الحبّ الآسر.
لكونه أكثر رجال العاصمة انشغالًا ، لم يكن لدى كريستوف وقت فراغ كافٍ للاستمتاع باللحظات الهادئة. ماريان كانت تعرف ذلك جيدًا.
لكن هذا لم يعني أنها لم تكن وحيدة أيضًا.
كلما علمت ببرد الغطاء، شعرت وكأنها تُرمى أرضًا.
“أوخ”
ارتعش طرف أنفها، وشعرت بحرارة في عينيها.
ضمت شفتيها وحاولت تهدئة انفعالاتها المضطربة.
لحسن الحظ، كان تحمّل هذه اللحظة بمفردها من أفضل ما استطاعت ماريان فعله. التفتت و أخذت نفسًا عميقًا.
تك-!
“!…..”
انفتح الباب.
اتسعت عينا ماريان، ورفعت رأسها. التقت عيناها بعيني كريستوف عندما دخل الغرفة بعفوية.
توقف في مكانه. تحوّل تعبير كريستوف من جامد إلى أجمد.
مال رأسه وهو يحدق في ماريان بعينين داكنتين ثاقبتين.
“ماذا يحدث هنا؟”
كان صوته منخفضًا، عميقًا، وثقيلًا.
حدّقت ماريان فيه بعينيها المفتوحتين. ب
دت عاجزة عن فهم سبب بقاء كريستوف هناك.
“ألم ترحل …؟”
“…”
لم ينطق كريستوف بكلمة.
حدّق بها فقط، غير قادر على فهم ما كانت تفكر فيه.
“اعتقدتُ أنّكَ غادرت”
“هل تريديني أن أرحل؟”
“لا، أنا …”
صمتت ماريان وأخفت نظرها. راقبها كريستوف.
هل كان تعبيرها هكذا و هي في السرير بدونه؟
حزينة ووحيدة. بدت وكأنها وحيدة تمامًا في هذا العالم.
كريستوف الغبي.
لعن نفسه مجددًا. طعنه الإرتداد في قلبه مرارًا و تكرارًا ، و كل ما استطاع فعله هو التألم من شدة الألم في كل مرة.
لم يستطع أن يتصرف كالأحمق. كل هذه كانت بذورًا زرعها.
رفعت ماريان نفسها ببطء.
ظهر كتفها المستدير من خلال الشراشف المتقلبة.
“اهم!”
سحبت الملاءة بسرعة ولفتها حول نفسها. كان مؤخرة رقبة ماريان متوردة، وكتفيها أكثر احمرارًا من المعتاد.
سار كريستوف نحوها، متسائلاً كيف احمرّ كتفيها أيضًا.
وقبل أن تلتقي أعينهما، أطلّت ماريان بنظراتها من النافذة بغرابة.
كان غروب الشمس البرتقالي واضحًا من خلال الستائر المفتوحة قليلاً. عبست حواجبها بخفة.
“هل حان وقت العشاء؟”
“تم تسخين الماء. هل ترغبين في الاستحمام الآن؟”
“!….”
اتسعت عينا ماريان مجددًا عند سماع كلماته. انتقلت عيناها الزرقاوان من النافذة إلى كريستوف، ولمعت في نظراتها لمحة دهشة.
“من قِبَل من؟ أنت؟”
“…لويس”
بالطبع كان كذلك.
تنفست ماريان براحة. كان كلامه أكثر إقناعًا.
ضحكت ضحكة خفيفة مع تلميح من التذمر.
“كنت أعرف ذلك. من المستحيل على شخص لا يستطيع حتى ملء خزان الوقود في السيارة أن يسخن ماء الاستحمام”
“لقد كان لدي أشياء أكثر أهمية للقيام بها.”
ردّ كريستوف بضعف. بدا طفوليًا على غير عادته. أمالَت ماريان رأسها وهي تكتم ضحكتها التي كادت أن تخرج.
“ما هو الأكثر أهمية؟”
فجأة؟
امتلأت رؤيا ماريان بالزهور الوردية فور سؤالها.
وعبقت رائحة الزهور الرقيقة في أرجاء الغرفة.
“هذا هو…”
توقفت ماريان عن الكلام. بقيت عيناها على الباقة للحظة ، ثم التفتت إلى كريستوف ، الذي أومأ برأسه ببطء.
“إنها زهرة أنف التنين”
فرك كريستوف ذقنه بيديه الجافتين قبل أن يفرق شفتيه ليتحدث بعد لحظة طويلة من فقدان ذكائه.
“هل تعلمين أن زهرة أنف التنين لها معنى آخر غير الفخر؟”
“…”
“الرغبة”
لمعت عيناه الداكنتان ، و عادت أحداث اللحظات الماضية إلى ذهنها بوضوح. سخّن هواء الغرفة على الفور.
“زهرة أنف التنين تعني أيضًا الرغبة في لغة الزهور، ماريان”
“…أنا أعرف”
أومأت ماريان بهدوء. رفع كريستوف نظره للحظة وكأنه لا يعرف كيف يعبر عن مشاعره.
ناموا و هم مُلتفّون حول بعضهم البعض.
استيقظ كريستوف قبل قليل.
لقد حصل للتو على نوم عميق لمدة ساعة أو نحو ذلك ، لكن عقله كان أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، ورؤيته أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.
كانت ماريان لا تزال بين ذراعيه، تتنفس بصعوبة وهي تحتضن وجهها في صدره. لم تكن هناك كلمات تصف شعوره حينها.
لم يستطع كريستوف بعدُ إيجاد الإجابة. أحيانًا كان يشعر بالشبع كأن معدته ممتلئة، وأحيانًا أخرى كان يشعر بالارتياح كأنه في أريح مكان في العالم. في الوقت نفسه، كان لا يزال عطشانًا بسبب عطشه الذي لا يُروى.
راقب كريستوف بصمت بينما أصبحت السماء صافية في وجهها، تمامًا مثل اليوم الذي شاهد فيه الفجر يشرق في وجهها.
ثم نهض ببطء. قبّل جبين ماريان برفق وهي نائمة بأنفاس خفيفة، وجمع ملابسه الجافة قليلاً.
عندما استيقظت، أراد أن يفعل لها شيئًا، أن يُشعرها بما يشعر به. لذلك، تجوّل في الشوارع بعد توقف المطر، ودخل بالصدفة محلّ زهور.
“مهما كان الأمر، فسيكون لي إذا أردته”
أومأت ماريان برأسها بتعبيرٍ عابر.
كريستوف هو من يُلقَّب بالمختار. كان يملك كل شيء: المال، والسلطة، والشهرة، وحتى قدراته الخاصة.
“لم أرغب بشيءٍ بهذه الشدة حتى الآن. هو بين يدي قبل أن أشتهيه”
لو قالها شخص آخر لكان ذلك غرورًا، لكن لو قالها كريستوف لكان تصريحًا متواضعًا. ضحكت ماريان ضحكة خفيفة، وبدا صوتها خفيفًا من شدة غرورها.
“لكن هناك شيءٌ واحدٌ أشتهيه بشدة. هل تعرفين ما هو؟”
“…”
صمتت ماريان.
اختفى التعبير من وجهها كما لو أنها خمنت ما سيقوله.
همس كريستوف ،
“أنتِ يا ماريان. هناك رمز واحد فقط لرغبتي ، ماريان شنايدر”
ليست ماريان كلوز، ولكن ماريان شنايدر.
شعرت بإصرار كريستوف في تعليقه ، وإصراره على أن ماريان لا تزال ملكه.
حتى بعد أن احتضنها، ظلّ عطشه لها لا يلين. مهما عضّها، لم يشبع جوعه تمامًا. كان الشبع مؤقتًا، وسرعان ما أدى إلى جوع أكبر.
لم يكن يعلم لماذا يجب أن تكون ماريان. لم يستطع تسمية هذا الشعور أيضًا. وجد كريستوف الكون في عينيها الزرقاوين الشاحبتين عندما وقعت عيناه عليها لأول مرة.
تقدم لخطبة ماريان فور تخرجه. دفعه صبره غير المبرر إلى ذلك. شعر أنه إن تأخر ، سيخطفها مايكل منه.
بعد زواجه منها، شعر أخيرًا بالارتياح.
تبدد القلق الذي كان يطارده، وخرج منتصرًا.
ماريان ستكون بجانبه للأبد، كزوجته.
…حسنًا، لقد كان يعتقد ذلك، إلى أن رمت ماريان أوراق الطلاق وهربت.
“لقد قمنا بالفعل بتبادل زهور أنف التنين مرة واحدة، لذلك دعينا نبدأ من هناك مرة أخرى”
أعادت ماريان نظرها إلى الزهرة التي أصبحت بداية كل شيء.
كان الرجل المتغطرس والأنانيّ يُهديها زهور أنف التنين.
توسل إليها أن تبدأ من جديد ، كاشفًا عن رغبته.
عندما لم تقبل الزهور فورًا، فرك كريستوف ذقنه.
تنهد بنظرة فارغة وتأمل.
“أنا الرجل الأكثر حماقة في العالم”
“…أنت؟”
تحدثت ماريان ، و هي مذهولة من الكلمات التي لم تتوقع أبدًا أن تخرج من فمه.
كان ذلك سخيفًا. لم ترَ ماريان رجلاً بمثل ذكائه من قبل.
لو كان غبيًا، لكان الجميع أغبياء أيضًا.
“حسنًا، ماريان.”
كان صوت كريستوف منخفضًا. لم تكشف عيناه الداكنتان عن عمقهما. لمعت مشاعر عديدة في عينيه الغامضتين.
“أحتاج منكِ أن تعلميني”
“أعلمك ماذا؟”
“كيف أجعلكِ تحبيني”
“…”
“علميني كيف أحبكِ”
“أوه…”
أطلقت ماريان تأوهًا مُحبطًا. من هو الرجل الجالس أمامي بنظرة متوترة على وجهه؟ لم تكن لديها أدنى فكرة.
كشف كريستوف أخيرًا عن يأسه بعد فرك زوايا حاجبيه.
“لم يُعلّمني أحدٌ ذلك قط. لذا ، عليكِ أن تُعلّميني. لا أريدكِ أن تشعري بالحزن مُجددًا”
قضمت ماريان شفتها السفلى بشدة. لم تطلب من كريستوف شيئًا حتى الآن. لقد تحملت كل شيء بمفردها و تحمّلته.
بإعتبارها شخصًا من خلفية عامة الناس، اعتقدت أن كلماتها وأفعالها قد تصبح عيوبًا في كريستوف.
وهكذا، تحمّلت ما أراده منها أن تقوله وفعلت ما أراده منها.
وظلّت تُكذّب نفسها بأن ذلك كان من أجل كريستوف.
ظنت أن كل شيء سيكون على ما يرام. لكن الأمر لم يكن كذلك. أفعالها لم تُغطِّ المشكلة، ولم تُحلَّ شيئًا.
كان هناك نقص في التواصل بينهما، ولم يكن ذلك خطأ كريستوف وحده. ربما كانت ماريان نفسها تشعر بالخجل الأكبر من خلفيتها.
هل سيكون مقبولا أن نبدأ من جديد؟
هل يمكنهم تقديم أداء أفضل للمرة الثانية؟
“بالطبع …”
“أخبريني ماريان”
فهم كريستوف كلماتها بسرعة. مدت ماريان يدها ببطء.
ضمت شفتيها بتردد وهي تمسك الباقة.
“ابقَ معي حتى أستيقظ. الصباح الذي أقضيه بعد ليلةٍ معًا … أشعر بالبرد يا كريستوف”
“نعم أعدكِ”
تمتم كريستوف بصوت أجش.
“أعدكِ يا ماريان”
أنزل رأسه ببطء. أغمضت ماريان عينيها عندما شعرت بثقل خفيف على شفتيها. كان شعورًا مريحًا.
لم تكن القبلة كبحرٍ هائج. كانت القبلة البطيئة التي جعلت شفتيها ترتجفان. لم تكن بسكويتات السكر التي أكلتها بالأمس أحلى من هذا.
***
التعليقات لهذا الفصل "99"