“…”

 

لم تقل نادية شيئًا. تحدث فيرجير على عجلٍ حين رأى الشك في عينيها. ارتسمت على عينيه نظرةٌ متلهفة.

 

“أنا متأكد من أن الأميرة ستكون سعيدة”

 

“تُروّج شائعات كثيرة عن ” ليلة نهر موزيل” ، لكن لم يُكشف عنها للجمهور قط. أحيانًا، يدّعي البعض أنها لم تُنتج قط. ربما بعد بضع سنوات، سيقبل الجمهور هذه الحجج. لكن، هل تعتقد أنك قادر على تدبيرها؟ هل تتوقع مني أن أصدق كلامك بتهور؟ لست من النوع الذي يُحب المخاطرة. لا أصدق إلا إذا رأيته بعيني”

 

“ماذا ستفعلين لو كنتُ أملكها بالفعل؟”

 

“هل تقصد أن تخبرني أن هناك لوحة في أيدي تاجر الفن الخاص ببلاوبيرج ، و التي لم يتمكن تجار الفن في العاصمة من الحصول عليها؟”

 

كان صوت نادية مشوبًا بلمحة من السخرية.

 

“هذا صحيح.”

 

أجاب فيرجير بثقة لكن نادية لم تخفّ من حدة تعبيرها الحازم.

 

حاول فيرجير إخفاء قلقه من خلال الاستمرار على عجل.

 

“هل ستصدقين لو أحضرتُها لكِ؟” 

 

“هممم.”

 

توقفت نادية بنظرة تأمل على وجهها، ثم أومأت برأسها.

 

“إذا استطعتَ إحضارها لي، فسأقبلك. ما أجمل من تعليق لوحة “ليلة نهر موزيل” في الردهة؟ سيسعد الماركيز بذلك. الدفعة الأولى ستكون من نصيبك”

 

“انتظريني من فضلِكِ. سأعود قريبًا باللوحة. أوه ، خطرت لي هذه الفكرة للتو”

 

قاطعها الراعي و ابتسم من شدة الرضا.

 

“أود أن أخبركِ أن إجراء مقابلة مع تاجر فني آخر لن يؤدي إلا إلى إضاعة وقتِكِ”

 

“حسنًا ، لا أعرف. لنرَ”

 

بعد أن انحنى لها باحترام، غادر فيرجير الصالون من الباب الذي دخل منه سابقًا. شد طرفي فمه بهدوء و هو يواصل خطواته السريعة.

 

كان يتطلع إلى اللحظة التي يستطيع فيها أن يُذلّها. ففي النهاية، كانت مجرد حمقاء جاهلة، مغرورة، أنانية، لا تعرف شيئًا عن الرسم.

 

***

 

وضع فيرجير يديه في جيبيه وهز كتفيه. 

ظلّ ينظر حوله بينما كانت ساقاه تتحركان بسرعة.

 

لم يُعره أحد اهتمامًا. مرّت دراجة محملة بسرعة ، و عربة محملة بالفاكهة فتحت دكانها في الشارع. فاحت رائحة سمك كثيفة من الرجل الذي يحمل السمك في البرميل الخشبي.

 

كان مشهدًا عاديًا. لم يكن هناك ما يبدو غير عادي. ثم فتش جيبه و أخرج مفتاحًا. استخدمه لفتح باب المعرض.

 

صرير-! 

 

دخل الراعي إلى المبنى بسرعة بعد أن ألقى نظرة حوله.

 

“أوه”

 

تنفس براحة أخيرًا بعد أن أغلق الباب خلفه. جالت عيناه في أرجاء المعرض بنظرة رضا. لم يتغير شيء منذ المرة السابقة.

 

“أظن أنني لم أُكتَشَف بعد. لا بد أن الكونتيسة أخذت بنصيحتي”

 

لكن ارتياحه لم يدم طويلاً ، و كان صوته يحتوي على لمحة من السخرية.

 

“بالطبع، الكونتيسة لا تُجيد الرسم. إنها مجرد شخصٍ بائس لا يعرف حتى ما هي اللوحة الحقيقية… حسنًا، والأميرة كذلك. بفضلها، أمتلك الآن ثروةً طائلة. مئات الملايين من الذهب”

 

ضحك برونو فالكنهاين، وهو يرتدُّ على قدميه، وكأنه أصبح غنيًا فجأةً.

 

فجأةً، وقع نظره على اللوحة المُعلّقة على الحائط. كانت من أعماله. لوحته شيءٌ لم يُرهق أحدٌ نفسه قطّ بالنظر إليه.

 

أصبحت عيون برونو متوترة للوهلة الأولى.

 

أحتقر المتغطرسين الذين لا يعرفون شيئًا عن الفن. إنهم لا يعرفون حتى التركيب أو المنظور. إن تظاهرهم بالاهتمام بالفن لمجرد مكانتهم كنبلاء أمرٌ مقزز. إنهم لا يدركون حتى القيمة الحقيقية لأعمالي.

 

نقر برونو بلسانه مرةً و انصرف. فتح الباب الثاني وسار مباشرةً إلى منتصف الغرفة.

 

أمسك بطرف السجادة وسار بخطى ثابتة. كان يحمل الإزميل الذي أحضره من السقيفة. 

لوّى الإزميل في الفجوة بين الأرضية الخشبية.

 

“جيني لن تستطيع الهرب على أي حال. لن تملك القوة الكافية لذلك”

 

لا. ربما يكون قادرًا على الاستفادة منها أكثر قليلاً.

 

لم يُبخل في إنفاق أي مبلغ على العمل، إذ قيل إنه مُخصص لفندق شنايدر. كان بإمكانه بيع نسخ من أعمال أخرى و لوحات “ليلة نهر موزيل” إذا لاقت نجاحًا.

 

“نعم، سيكون ذلك رائعًا. سأطلب من جيني أن ترسم أكثر. لو استطاعت تقليد جوشوا هانس ، لكان الأمر أسهل على الفنانين الآخرين” 

 

ارتفعت الألواح الخشبية ، و اتسعت حدقتا عينيه السوداوان.

كان هذا سبب توقيعه عقد الإيجار.

 

لم يُدرك صاحب المنزل الأمر ، لكنه لاحظه فور رؤيته. 

وجود قبو هنا يعود إلى اختلاف طفيف في صدى الخطوات.

 

كونه ابن صاحب نُزُل ، كان يعلم بوجود قبو أسفل منزله لحفظ البراميل. و قد دخل القبو و خرج منه طوال حياته ، لذا لم يكن هناك مجال لعدم تعرّفه عليه. 

 

عندما فتح الباب، تسللت رائحة زيتية نفاذة إلى أنفه. كانت الرائحة تُثير الحنين. أغمض برونو عينيه وأخذ نفسًا عميقًا.

ارتعشت أصابعه.

 

“اللعنة”

 

عادت الذكريات السيئة تتدفق. 

ضحك الأساتذة على لوحته ، و كذلك رسامو نهر موزيل.

 

حدّق برونو في الأرض. 

كان الظلام حالكًا لدرجة أنه لم يستطع رؤية الزاوية بوضوح. نقر بلسانه وهو يمد يده إلى المصباح ويخطو بخطى سريعة.

 

“جيني؟”

 

كانت شبه غائبة عن الوعي عندما رآها آخر مرة. لم تتعرض لأشعة الشمس منذ زمن طويل، وبالكاد تناولت طعامًا، لذا لم يكن الأمر مُستغربًا.

 

عندما عرض على جيني أن ترسم حسب رغبة قلبها ، تبعته طواعية للهروب من المنزل.

 

“حسنًا ، كان عليها أن ترسم حتى لو لم تكن ترغب في ذلك”

 

كانت معجزة. حقيقةٌ اعترف بها حتى برونو المتغطرس.

 

لكن لم يُعرها أحد اهتمامًا. كان الفن حكرًا على الرجال، لذا لم يُسمح بنشر لوحات النساء.

 

ومع ذلك، كانت لا تزال عبقرية. العبقرية التي جعلت برونو يشعر بعدم الأمان. لم يعد بإمكانه حمل الفرشاة بسبب جيني.

 

“جوشوا هانسن كان السبب وراء بدايتي”

 

رأى صدفةً لوحةً للفنان جوشوا هانسن ، بعنوان “ليلة القديسة” ، أهداها أحد النبلاء للمعبد.

 

في تلك اللحظة، شعر برونو بقشعريرة لا توصف تسري في جسده. ارتعشت أصابعه لرغبة ملحة في الإمساك بالفرشاة.

 

بدا الأمر نفسه بالنسبة لجيني. 

وقفت هناك، جامدة في مكانها، تحدق في اللوحة.

 

ثم عادت إلى منزلها وبدأت بالرسم ، واختفى الأكل والشرب تمامًا من ذهنها. كان على برونو أن ينظر إلى لوحاتها ويشعر بالصدمة التي تسري في جسده.

 

كانتا متطابقتين لدرجة أنه لم يستطع التمييز بينهما. أنجزت جيني في بضع ساعات ما لم يستطع تحقيقه ، حتى لو بذل جهدًا كبيرًا طوال حياته.

 

كم من الناس استطاعوا التركيز على عملهم بعد رؤيته؟ أو هل كان ذلك ممكنًا أصلًا؟ أن ينموا في صمت بينما يواجهون عيوبهم؟

 

على الأقل برونو لم يكن واحدًا منهم. لقد أصبح بائسًا و مكتئبًا.

 

من بينهم ، كان أكثر ما يُحزنه هو حبها للرسم. لم تكن تُبالي بالنتيجة، تمامًا مثل برونو، بل أحبت الرسم من أجلها فقط.

 

لم تكن تهتم إن كان أحدٌ يُعِرها اهتمامًا. كانت راضيةً بما يكفي لتُفرغ ما في قلبها على اللوحة. لم يكن مديح الناس و إعجابهم من اهتماماتها.

 

هذا هو سبب تألق لوحاتها. القوة التي لم يجرؤ برونو على بلوغها. القدرة على تحريك قلوب الناس.

 

كان عليه أن يعترف بأن هناك جدارًا منيعًا بينهما.

 

“…جيني، هل أنتِ على قيد الحياة؟”

 

لامست قدما برونو الأرض الصلبة. 

ظلّ يستمع ، لكنه لم يسمع شيئًا.

 

أضاء الضوء الخافت القادم من الأعلى المناطق المحيطة، لكنه لم يصل إلى كل زاوية وركن من القبو.

 

رأى رسمًا على الأرض و حاملًا مقلوبًا. بنظرة واحدة، ظن أنه يستطيع أن يلمح تنورة في زاوية القبو. ربما كانت جيني مستلقية هناك.

 

أدار برونو وجهه عنه وراح يفتش في الفوضى. 

كان عليه أن ينشغل بأمور أهم من التفكير في جيني.

 

“أين كانت … ليلة نهر موزيل”

 

كانت لوحة “ليلة نهر موزيل” مثالية في نظره. مع ذلك، قالت جيني إنها تفتقر إلى شيء ما. هذا هو الفرق بينهما. رأت شيئًا لم يستطع برونو رؤيته حتى بعد استيقاظه من الغيبوبة.

 

الفرق بين العبقرية و المبتدئ. 

 

عادت جيني للرسم في النهاية، وتركت لوحتها غير المكتملة على الأرض. قال برونو إن اللوحة التي لم يستطع رسمها مهما حاول، ستُعامل كقمامة لا محالة.

 

و مع ذلك ، سيخرج فائزًا. 

هو من سيصرخ من فوق أسطح المنازل ، و ليس جيني.

 

شكرًا جيني.

 

“ها هو ذا. هذا كل ما أحتاجه …”

 

بينما كان يلتقط الرسمة من الأرض، اقترب منه شخص من الخلف. تكلم برونو بنظرة حنون على وجهه. 

كما لو كان رجلاً لطيفًا غارقًا في الحب.

 

“جيني؟ هل أنتِ بخير؟ أحضرتُ لكِ شيئًا لتأكليه ، لكن … آه!”

 

في تلك اللحظة، أمسك أحدهم بذراعيه. 

وفي لحظة، ركله على ركبتيه، وارتطم وجهه بالأرض.

 

“اوه.”

 

تأوه برونو من الألم الذي لمع أمام عينيه. كان كما لو أن حجرًا ثقيلًا يسحق جسده بأكمله. شعر بدوار في رأسه، وانحبس أنفاسه في حلقه. كانت أضلاعه تنبض، وفكه يرتجف.

 

لا يزال برونو غير قادر على فهم ما حدث.

 

“جيني، ماذا تفعلين بحق الجحيم …”

 

ثم جاء صوت أنثوي هادئ من فوق رأسه.

 

“هل أخضعته؟”

 

“أجل، كيف تظنين أنني سأفقد هذا الوغد لأنني لا أستطيع فعل شيء حياله؟ لا تنسِ أنني مختلف تمامًا عن مُحبي القراءة! لا تحلمي حتى بأخذ مكاني!” 

 

زمجر مكسيم كالكلب الذي ديس على ذيله. نظرت ماريان إلى أسفل بتنهيدة هزيمة. لم يُجبها مكسيم بلطف قط.

 

تحدث كريستوف بصوت منخفض بحيث لا تستطيع سماعه إلا هي.

 

“ألا تعتقدين أنه يجب علينا إبلاغ الماركيز؟”

 

“…”

 

“أرجو إبلاغي في أي وقت تُغيّرين فيه رأيكِ. يُمكنني التحدث نيابةً عنكِ. لا يبدو أنه شخص مناسب لوظيفة ضابط الشرطة”

 

دفعت ماريان رأسها إلى القبو و تحدثت. 

 

“أخرجوه. لنسمع ما يقوله”

 

“سأُخرجه حتى لو لم تُملِ عليّ ذلك. لا تُملِ عليّ ما أفعل! تذكّري ، المفتش نيكولاس هو الشخص الوحيد الذي يملك الأوامر!”

 

زمجر مكسيم مرة أخرى و أغلقت ماريان أذنيها بانزعاج.

 

عندما التقت أعينهم ، رفع كريستوف زاوية حاجبيه بخفة كما لو كان يقول أنه سيتحدث نيابة عنها في أي وقت.

 

كان الانسحاب مغريًا. لكن ماريان تمالكت نفسها. 

 

صعد مكسيم الدرج بخطوات ثقيلة ، غير مدرك أن مسيرته المهنية بين يديها.

 

بعد أن قام مكسيم بإمساك برونو من رقبته بيد واحدة ، قام أخيرًا برميه على الأرض.

 

“اوه”

 

تأوه برونو و هو يترنح و ينهض على قدميه. 

وقف ساكنًا أمام مكسيم و بدأ وجهه يتورم.

 

رفع كريستوف حاجبيه مرة أخرى بصوت خافت و همس بصوت صغير لم تسمعه إلا ماريان مرة أخرى.

 

“سمعتُ أناسًا يقولون إن حتى الكلاب مفيدة. فرغم جهله وقوته، فإن مارتن مفيد في النهاية”

 

“… اسمه مكسيم”

 

ألقت ماريان نظرة خاطفة عليه.

 

كريستوف رفع حاجبيه بخبث ، رغم علمه أن اسمه الحقيقي مكسيم.

 

“ما الذي تحتاجين إلى معرفته؟”

 

هزت ماريان رأسها في عدم تصديق.

 

***