شحب وجه ماريان.
شد كريستوف زاوية فمه، وانحنى قليلًا للأمام، ثم تكلم.
“ما الأمر يا ماريان؟”
بدا صوته كنفاد الصبر. أو ربما كان قلقًا.
ماريان ، التي كان فمها مفتوحًا قليلًا، التفتت إليه بعينيها.
التقت أعينهم. تجولت عيناه الداكنتان عليها لفترة وجيزة.
ضغطت ماريان على شفتيها في فزع.
“عندما أنزلنا جثة إليزا من برج الجرس ، رأيت قلادة تتدلى من رقبتها”
عبس كريستوف توترًل من تعليقها المفاجئ. و بدلًا من أن يتنهد بإرتياح، ردّ بعبوس أوضح من ذي قبل.
“نعم، أتذكر. انحنَيتِ بجانب الجثة ونظرتِ إلى شيءٍ ما”
“القلادة لم تتناسب مع فستانها”
لم يُبدِ كريستوف أي رد. حتى أنه لم يُوبِّخ ماريان على انفعالها المفاجئ بشأن القلادة.
بل استمع بهدوء إلى ملاحظاتها.
ففطنة ماريان كانت دائمًا تتجاوز توقعاته.
“ظننتُ أنني رأيتُ شيئًا مشابهًا للرمز في مكان ما. مع ذلك، لم أستطع تذكره بسهولة. علاوة على ذلك، لم يكن لديّ وقت للتفكير في القلادة آنذاك”
كان كريستوف ، الذي أصبح شاحبًا ومتعبًا، أمامها، ولم تتمكن ماريان من التفكير في أي شيء آخر غيره.
“لم أستطع أن أتذكر أين رأيت الرمز … ولكن، الآن أتذكر”
“أين رأيتِه؟”
فتحت فمها بقبضتيها المشدودتين بإحكام و ارتجفت شفتاها.
“في دفتر فيرونيكا”
“في دفتر فيرونيكا؟”
ارتعش حاجبا كريستوف كما لو أنه لم يتوقع الإجابة إطلاقًا.
أومأت ماريان برأسها بثقة.
“التقيتُ بها ذات مرة في مقهى قرب مدرستها. أتت فيرونيكا إلى هناك و هي تحمل كتبًا ودفترًا بعد انتهاء محاضرتها. تصفحتُ دفترها بعد أن تحدّيتها قائلة: “لنرَ مدى جدّيتكِ في الدراسة”، وعندها وجدتُ نفس رسم الرمز المُستخدم في القلادة”
“استمري يا ماريان.”
“مازحتُها قائلة: “لا بد أنكِ لم تُعرِفي انتباهًا للمحاضرة ، و اكتفيتِ بالرسم في دفاتركِ”. لكنها فزعت و انتزعت دفترها مني. مع أنني ظننتُ أن رد فعلها غريب، إلا أنني ظننتُ أنها تشعر بالحرج من أن أُمسك بها وهي تُرسم أثناء المحاضرة. ثم غيّرتُ مسار الحديث بسرعة ونسيتُه – حتى اليوم”
أغلقت ماريان عينيها بقوة عندما ظهر وجه فيرونيكا في ذهنها.
“كان رمزًا لأفعى تعض ذيلها. كان هناك صليب بأربعة رؤوس مدببة داخل الأفعى الدائرية. أنا متأكدة تمامًا أنه كان هو نفسه”
“أوروبوروس”
“… ما هذا؟”
بدت ماريان في حيرة من الكلمة الغريبة التي نطق بها كريستوف. واصل حديثه وهو ينقر بإصبعه على الطاولة.
“يُطلق على الثعبان الذي يعض ذيله اسم أوروبوروس. وهو يرمز إلى الخلود أو الكمال، مشيرًا إلى أن البداية والنهاية هما الشيء نفسه”
“ماذا عن الصليب ذو الأطراف المتشعبة؟”
“ليس لدي أي فكرة”
كريستوف حَشَرَ دماغه لكنه لم يستطع تذكر الصليب ذي الأطراف المتشعبة. رفع عينيه لينظر إلى ماريان.
“أكثر من ذلك، بناءً على كلماتِكِ …”
لقد بدا صوته و كأنه أعطى تلميحا ذا معنى.
“هل تقولين أن هناك علاقة بين وفاة سلفتي* و إليزا شولز؟”
(*السِلفة هي أخت الزوجة)
“…لا أعرف.”
هزت ماريان رأسها بشك.
بدت مرتبكة هي الأخرى و رمقت الطاولة بنظرة مرتعشة.
ضمت ماريان يديها المرتعشتين معًا بإحكام.
“لا أعرف يا كريستوف. لم تغادر فيرونيكا العاصمة قط. لكن هذه بلاوبيرج. ربما لم تلتقي أختي و إليزا قط. لذا، لا يمكن الربط بينهما بأي شكل … علاوة على ذلك، ما زلنا لا نعرف معنى الرمز”
العلاقة بين الغرباء.
خطرت في ذهن كريستوف فكرة واحدة: لو لم يعرف الضحايا بعضهم بعضًا قط، لما بقي سوى استنتاج واحد.
ارتباطهم بالقاتل.
هل من الممكن أن يكون القاتل الذي قتل فيرونيكا في العاصمة قد وصل إلى بلاوبيرج؟ كلا ، فالاستنتاج بهذا الشكل سيكون متسرعًا.
هز كريستوف رأسه ببطء.
أدرك أنه كان يحاول أن يُحسّن الأمور لصالحه.
عندما يتقبل العقل البشري افتراضًا مُقنعًا ، يتوقف عن التفكير في خيارات أخرى. كان كريستوف حذرًا من هذا.
كان محاميًا عليه أن يدرس جميع الاحتمالات.
رفع كريستوف عينيه و توقف. تغيّرت نظرة ماريان بقلق و عضّت شفتها السفلى بقوة.
توك-! توك-!
مدّ كريستوف يده وطرق على الطاولة أمامها. رفعت ماريان نظرها، وقد استعادت وعيها. التقت عيناها بعينيه الداكنتين مباشرةً.
لم ترتجف عينا كريستوف. كان واثقًا كعادته.
همس بصوت عميق.
“ماريان”
أغمضت ماريان عينيها بإحكام وفتحتهما عند سماعه نداءه.
ثم حدقت في عينيه الداكنتين اللتين تعكسان قوامها.
“سوف نصل إلى الحقيقة في نهاية المطاف”
“…أنا أعرف”
أومأت برأسها بتردد.
“لا يمكنكِ رؤية الحقيقة بوضوح عندما تكونين غارقة في مشاعرك. عليكِ فقط أن تكوني أكثر منطقية الآن”
اتسعت عينا ماريان قليلًا قبل أن تبتسم بنظرة ناعمة.
ضيّق كريستوف عينيه.
“لماذا تبتسمين؟”
“لأنه أمر طبيعي جدًا بالنسبة لك”
“… هل فكرتِ للتو أنني أفتقر إلى التعاطف مرة أخرى هذه المرة؟”
رفع كريستوف حاجبه و برزت تجعّدتان على جبهته.
“ماذا أقول في مثل هذه الأوقات؟ علميني يا ماريان”
“لا بأس.”
نظرت إليه ماريان بحنان وحذر، وهي تمد إحدى يديها. ثم ضغطت برفق على ظهر يد كريستوف على الطاولة.
“أنتَ بخير كما أنت”
عبس كريستوف بشكل خافت.
“لو كنتُ مكانكِ لما هربت في المقام الأول”
“…”
أشاحت ماريان بنظرها للحظة قبل أن تنظر إليه.
كانت التجاعيد على جبينها قد اختفت حينها.
“عليكِ أن تعلمني كيف أواسيكِ في مثل هذه الأوقات”
“إذا نظرت إلي واستمعت إلي كما تفعل الآن، فلن يكون لدي ما أطلبه منك أكثر من ذلك، كريستوف”
النظر إليها و الاستماع إليها.
لقد كانت تلك دليلاً على أنه لم يفعل الكثير حتى.
لم يفعل شيئًا من ذلك ، بل كان يأمل أن تنظر إليه عيناها بحنان، وأن يسمع صوتها العذب وهي تناديه باسمه.
لم يفعل كل ذلك بحجة الانشغال.
“أنتِ سهلة جدًا”
خرجت ضحكة خفيفة من شفتي كريستوف. اختفت الابتسامة الفارغة بنفس السرعة التي ظهرت بها.
“أنتِ لستِ جشعة جدًا ، ماريان”
لا، لقد كانت جشعة – الشخص الأكثر جشعًا في الوجود – لأنها أرادت حب كريستوف، الرجل الذي كان الجميع يشتهونه.
لم تكن ماريان راضية بالمال الفاحش أو السلطة الباهرة. لا مال ولا سلطة تُرضيها. كل ما أرادته هو أن يُفكّر كريستوف وينظر إليها.
لذا، كانت أكثر امرأة نهمة في العالم.
نظرت إليه ماريان بعينين توحيان بأن لديها الكثير لتقوله، لكنها لم تنطق إلا في النهاية.
لم تُرِد أن تكشف جشعها الحقيقي. لم تُرِد أن تُريه ما في باطنها من بشاعةً. لم تُرِد أن تُخيّب آمال كريستوف.
لقد غيّر الموضوع كما لو كان على إشارة.
“أين تلك القلادة الآن؟ أُفضّل رؤيتها بنفسي”
هزت ماريان رأسها ببطء عند هذا السؤال.
“ليست لدي القلادة”
“ها؟”
تم رفع أحد حواجبه السميكة قليلاً.
“عندما وصلت الجثة إلى غرفة التشريح ، كانت القلادة مفقودة بالفعل. ظنّوا أنها سقطت أثناء نقل الضباط للجثة”
“غرفة التشريح”
ضيّق كريستوف عينيه فجأة.
كاد أن يغرق في أفكاره عندما ظهر أحدهم.
“أوه، لقد وصلت أولاً. سيدتي شناي … آه، ماريان. والسيد كريستوف.”
وصل فلوريان متأخرًا وجلس على كرسي فارغ. تجوّل بنظره في أرجاء الطاولة بلا مبالاة قبل أن يتوقف عند شيء ما.
أدركت ماريان أنها لا تزال تمسك بيد كريستوف ، فسحبتها بسرعة.
تظاهر فلوريان بالغفلة و طلب وجبة خفيفة و شايًا من النادلة. ثم نادى النادل ليطلب حلوى أيضًا.
ما المشكلة؟ فكّر فلوريان.
كريستوف شنايدر موجود هنا.
بالتأكيد لن يطلب من فلوريان الدفع.
أخرج فلوريان منديله ومسح العرق من جبهته.
“الجو حارٌّ جدًا بالفعل. أشعر وكأن الصيف قد حلّ. بالمناسبة، هل فكّرتم في شيء؟”
نظر إليهم بوجهٍ شاحبٍ كجثة.
لم يكن وجهه يتناسب مع شمس أوائل الصيف الساطعة.
لم تُجب ماريان على سؤاله بينما كانا غارقين في أفكارهما.
واصل فلوريان تناول شطيرته بهدوء وهو يهز رأسه.
كان صوت مضغه هو الصوت الوحيد الذي كسر الصمت الثقيل.
***
سارت عربة ماريان وكريستوف لبعض الوقت. وخلافًا لتوقعاتها، سلكت طريقًا غير مألوف بدلًا من التوجه إلى دار الضيافة. بدا الطريق مشابهًا لقلعة شنايدر، لكنه ليس كذلك.
“إلى أين نحن ذاهبون، كريستوف؟”
كانت هذه هي المرة الثالثة التي تسأل فيها ، لكن كريستوف رفع حاجبيه قليلًا و لم يُجبها. بدلًا من ذلك ، حدّق في ماريان بإهتمام.
في النهاية، لم تتمكن من تحمل نظراته والتفتت إلى النافذة.
“أوه…!”
توقفت العربة في اللحظة التي أطلقت فيها ماريان تعجبًا قصيرًا. فتح لويس باب العربة بإبتسامة على وجهه.
خرج كريستوف أولاً ومدّ يده إليها. أمسكت ماريان بيده قبل أن تنزل من العربة وتنظر حولها بإعجاب.
كانت بحيرة. كانت صافية لدرجة أنها استطاعت رؤية القاع.
كانت الأمواج مغطاة بصبغة حمراء تحت غروب الشمس، وكانت خضرة الأشجار نموذجية للصيف.
كانت أشعة الشمس دافئة، وتمايلت الأمواج برفق، وكان النسيم الذي يلامس خديها ترحيبيًا،
“تشتهر بلاوبيرج ليس فقط ببحرها ولكن أيضًا ببحيراتها.”
“لم أكن أعلم أن هناك مكانًا مثل هذا.”
“الأرض التي تقع فيها هذه البحيرة ملكٌ خاصٌّ للماركيز. إنها المكان الذي لا يمكن لأحدٍ آخر الوصول إليه بحُرِّية”
“أوه، يا إلهي…”
انخفض فك ماريان أثناء النظر حول البحيرة التي تبدو بلا نهاية.
كان القارب مربوطًا تحت رصيف خشبي. صعد كريستوف بسلاسة على القارب المتمايل، وأمسك بيدها.
“دعينا ندخل.”
حدقت ماريان في القارب المتمايل بقلق.
“…”
عندما أدركت أن كريستوف يحدق بها دون أن ينطق بكلمة، نهضت أخيرًا. كانت قبضته قوية، كما لو أنه لن يفلتها أبدًا حتى لو سقطت في البحيرة.
***
التعليقات لهذا الفصل "108"
هل هذا يعني ان ليام هو القاتل ؟ ولو كان هو الي قتل البنتين يعني كمان هو الي قتل أهله؟ واو