الفصل : قصرٌ يزهر… و سجنٌ يذبل
مضى عامٌ كامل.
عام منذ أن فتحت إيلينا باب القبو بأمل مرتجف، وهمست: “تعال، هذه فرصتك”.
عام منذ أن خطا أولى خطواته نحو المجهول، بعيدًا عن الجدران التي اعتاد ألمها، وحضنها البارد.
عام…
لم تنطفئ فيه الذكرى.
الثلوج غطّت أراضي الدوقية، الأشجار كانت ساكنة، والهواء يملؤه الصقيع، لكن إيثان كان أكثر بردًا من ذلك كله.
كان في مكتبه الكبير، يُطل على السهول البيضاء، يضم ذراعيه إلى صدره، ويتأمل بخدر.
في الدرج الصغير بجواره، تقبع القلادة البنفسجية، تلك التي أعطته إياها إيلينا يوم وداعهما الصامت.
كان يُخرجها كل ليلة.
يلف السلسلة حول يده، ويتأمل الحرف “إ”.
ليس لأنه نسيها…
بل لأنه يخشى أن ينساها.
لقد أصبح يملك كل السلطة.
في ليل ذلك اليوم، جلس في عربته المتجهة نحو مزرعة قريبة لتفقد أحوال الأرض.
كانت الطرق مغطاة بالثلوج، والعربة تهتز فوق الأحجار.
لكنه لم يكن يشعر بشيء.
أخرج من جيبه، القلادة.
ضمها.
كانت رائحة الكتب، الحنان، الورود البيضاء، والحزن.
همس وكأنها أمامه:
“أتمنى أنك بخير…”
أغمض عينيه.
وتخيلها.
وجهها، شعرها الوردي فاتح، عينيها…
حتى نبرة صوتها وهي تقول: “إيثان، لا تنساني، لكن لا تعش مقيّدًا بالذكرى…”
أغمض عينيه أكثر.
وقال:
“ما زلت أعيش بكِ، لا بكلماتك…”
ثم عاد الصمت.
………
في قصر مهجور، في جناح علوي لا يدخله الضوء، كانت إيلينا جالسة على الأرض.
مرت سنة.
سنة كاملة منذ أن أُغلقت الأبواب عليها، وسُحبت السجادة من تحت حياتها.
مرت ستة أشهر منذ أن ضُرب رأسها على الجدار، حتى سال وجهها بالدماء.
من يومها، شيءٌ انكسر.
شيء لم يُصلح.
صارت تنام وتصحو دون أن تفرّق.
كل ما تراه هو الجدار.
الجدار.
تلك الزاوية الصغيرة فيه، التي تتغير فيها الظلال حسب ضوء الشمعة.
صارت تراقب الظلّ كما يراقب عاشقٌ عيون محبوبه.
تتحدث إليه.
تبتسم له.
أحيانًا…
تبكي.
لكنها لا تبكي لأنها حزينة.
بل لأنها لا تعرف لماذا تبكي.
كانت الجدران صديقاتها الوحيدة.
تسألها:
“هل أنا هنا؟”
“هل أنا ما زلت إيلينا؟”
لكن لا جواب.
في الأشهر الأخيرة، لم تعد تتفاعل.
حين يدخل الخادم بطعامها، لا تنظر إليه.
حين تُفتح النافذة قليلاً، لا تلتفت.
لم تعد تنتظر.
حتى الذكريات، بدأت تتلاشى.
لم تعد تتذكر وجه إيثان بوضوح.
ولا حتى صوته.
هي فقط… موجودة.
كزهرة ذابلة في سجن.
لا تموت.
ولا تنمو.
في إحدى الليالي، كانت الشمعة تهتز، تذوب، وتذرف دمعتها الحارة على الحديد.
صوت خطوات ديمتري خلف الباب، كعادته.
تدخل.
لكنه يقول
ديمتري: إيلينا، هل تسمعينني؟ أنا أحبك…
ولا رد.
لم تعد تكرهه.
لم تعد تخافه.
لم تعد تتمنى موته.
فقط…
لم تعد تملك أي مشاعر.
مرت سنة.
وإيلينا تحوّلت من فتاة نبيلة محبوبة…
إلى طيف يسكن جسدًا بلا صوت.
_______________________________________
نهاية الفصل…
عامٌ كامل فصل بين الحرية والسجن.
بين من وجد اسمه، ومن نسيت حتى وجهها.
بين رجلٍ يعلو فوق قصره، يهمس باسمها كل ليل…
وفتاة لا تدري إن كان هناك أحدٌ يهمس باسمها أصلاً.
لكن الزمن لم ينتهِ.
وكل ثانية تمر، تقترب اللحظة…
التي فيها، قد تلتقي القلوب التي تمزّقت،
لتعرف إن كانت ما زالت قادرة على النبض.
أو لا…
يتبع…
التعليقات