الفصل ٧٨: عيون لا تُخطئ
مرَّت ثلاثة أشهر منذ أن وطئت قدما إيثان تلك القرية الصغيرة في الشمال.
قرية يغلفها الضباب كل صباح، وتُعطرها رائحة الأرض المبللة كل مساء.
لم تكن سوى بقعة بعيدة عن الخريطة، ينام سكانها على صوت الريح ويستيقظون على وقع خطى ماشيتهم.
في البداية، لم يكن أحد يثق بإيثان.
شخص صامت، بملابس رثة ونظرة باردة، وعينين بنفسجيتين غريبتين تخترقان كل من يحدّقهما.
لكنه لم يتكلم كثيرًا، فقط ساعد.
كان يحمل الخشب، يحرث الأرض، يعيد بناء الأسوار، يبتسم للنساء العجائز حين يقدمن له الخبز، ويواسي الأطفال حين يبكون على لعبهم المكسورة.
شهرٌ بعد شهر، لم يعد غريبًا.
صار له اسم، مكان، وسرير خشبي قرب النافذة.
كانت القرية تنبض بحياة بسيطة، لكن صادقة.
وإيثان، رغم كل شيء، شعر للمرة الأولى أنه يعيش بلا خوف.
لكنه لم ينسَ.
كل ليلة، حين يطفئ مصباح غرفته، ينظر إلى السقف ويهمس في الظلام:
“هل أنتِ بخير، إيلينا؟”
وفي تلك الليلة بالذات، كان القمر بدرًا.
ونسيم الليل يحمل شيئًا من دفء غريب.
في اليوم التالي، دخل رجلٌ غريب إلى القرية.
كان طويل القامة، شعره اشقر ذهبي على جانبيه، مشيته واثقة لكنها مرهقة.
عيناه ذهبيتان، فيهما حدة التجربة وثقل السنين.
اسمه: تشارلز.
لم يكن يبدو كفلاح أو تاجر.
لكنه لم يتحدث كثيرًا.
سأل شيخ القرية إن كان يستطيع المبيت ليوم أو اثنين.
قال إنه مسافرٌ عبر الشمال، يبحث عن شيء ضاع منذ زمن.
وافق الشيخ.
تشارلز جلس في الزاوية، يشرب حساء العدس بصمت، لكن عيناه لم تكونا ساكنتين.
كانتا تبحثان.
وفي السوق الصغير، كان إيثان يحمل صندوق تفاح لامرأة مسنّة، ينحني ليضعه على عربتها الخشبية، ويبتسم لها.
حينها، رآه.
من خلف الظلال، كان تشارلز قد توقّف.
الزمن توقّف.
الفتى.
شعره اسود الداكن.
وجهه الغريب.
لكنه…
“…العيون.”
كانت بنفسجية.
صافية، نادرة، لا تخطئها ذاكرته.
فقط عائلة المالكه يملكون تلك العيون.
شقيقه الراحل…
وطفله المختفي منذ سبعة عشر عامًا.
ارتجف قلبه.
لم يتحرك.
لم يقترب.
لكنه أمسك طرف مقعد خشبي وجلس ببطء، يحاول أن يلتقط أنفاسه.
تذكّر…
كيف هرب من مسؤليته.
كيف حمل جسده المجروح، وقسم أن يعود يومًا ويجد الطفل.
والآن، أمامه، يقف شابٌ يحمل التفاح…
ويمتلك تلك العيون.
“هل يمكن أن يكون هو؟”
لكنه لم يتحرك.
راقبه فقط، طوال اليوم.
رآه يضحك قليلاً، يتحدث بلباقة، يطأ الأرض بتواضع المزارعين، لكنه يحمل في كل حركة منه شيئًا لا ينتمي لهذا المكان.
شيئًا ملكيًا.
تشارلز لم ينام في تلك الليلة.
جلس في غرفته، يحدّق في سقف خشبي بالكاد يقي من البرد، وقلبه ينبض بقلق غريب.
إن كان هذا هو إيثان…
ماذا سيقول له؟ كيف سيعرفه بنفسه؟
هل سيصدق؟ هل سيهرب؟
في قلبه، شعور واحد كان يعلو:
“لن أتركه يضيع من جديد.”
يتبع….
التعليقات