الفصل ٥٠ : إلى زهرَتي البنفسجيّة…
بعد أن انتهت الحفلة التي كانت مشحونة بالأضواء والموسيقى الصاخبة، شعرت إيلينا وكأنها خرجت من عوالم متعددة.
كان الجو حولها لا يزال يملؤه صخب الحفل، لكنها لم تكن قادرة على تحمل المزيد من الأنظار التي تلاحقها.
كانت خطواتها متثاقلة وهي تتجه إلى جناحها، تحاول الهروب من عيون الآخرين والابتعاد عن الكثافة التي كانت تشعر بها، كان الحفل قد انتهى بالنسبة لها منذ لحظات.
دخلت الجناح بهدوء، فأغلقت الباب خلفها برفق وكأنما تغلق معها لحظاتٍ من عالمٍ آخر.
كانت بحاجة لأن تكون بمفردها، بحاجة لأن تخلع عنها العباءة الثقيلة التي كانت قد ارتدتها طوال المساء.
أغلقت عينيها لبضع ثوانٍ وكأنها تحاول إخراج ما تبقى من تفاصيل ذلك الحفل من ذهنها.
كانت قد شعرت بأنها مختلفة عن الجميع، وفي تلك اللحظة فقط، أدركت كم كانت بعيدة عن نفسها في كل تلك الأوقات.
خلعت فستانها المزين بالخرز اللامع، كان ثقيلاً عليها كأنما يثقل روحها.
شعرت بأن تلك الأقمشة التي كانت تلمع تحت الأضواء لم تكن تعكس سوى صورة زائفة لم تكن ترغب في رؤيتها بعد الآن.
شعرت براحة كبيرة عندما ارتدت ملابسها البسيطة، تلك التي كانت دائمًا تفضلها، التي تشعرها بأنها هي نفسها.
ارتدت ثوبًا بسيطًا ولونًا هادئًا، وكأنها تعيد إحياء جزء من هويتها المفقودة في ضجيج الحياة.
بعد أن انتهت من تغيير ملابسها، لم تستطع أن تبقى في غرفتها أكثر.
كان لديها شعور لا يمكن تفسيره، شيء يدفعها للذهاب إلى القبو، إلى المكان الوحيد الذي تجد فيه الهدوء، حيث لا أحد يراقبها، ولا أحد يتوقع منها أن تكون أكثر مما هي عليه.
كانت تعرف جيدًا أين سيجعلها القبو تشعر بأنها في أمان.
فكرها منصب الآن على إيثان، ذلك الشخص الذي كانت تشعر معه بأنها يمكن أن تكون هي نفسها، بلا أي قناع.
عبرت عبر الممرات المظلمة، ثم هبطت الدرجات ببطء، ومع كل خطوة كانت تقترب أكثر من إيثان، كانت تتنفس بشكل أعمق، كما لو أن الهواء في القبو يمكن أن يزيل عن قلبها كل ما حملته طوال اليوم.
عند وصولها إلى أسفل السلم، كان إيثان جالسًا في زاوية القبو، يقرأ كتابًا بصوت خافت، مغمض العينين كما لو كان يحاول أن يستغرق في عالمه الخاص بعيدًا عن كل شيء آخر.
عندما رفع رأسه ورآها، كانت عيناه تتسعان قليلاً، ثم نظر إلى الأرض لحظة وكأنما شعر بشيء غير مألوف بالنسبة له.
كان يراها، لكن بطريقة جديدة، كما لو كانت إيلينا التي عرفها، ولكنها الآن تملك شيئًا مختلفًا.
فستانها اللامع، مجوهراتها التي كانت تتألق تحت ضوء الشموع الخافتة، جعلتها تظهر وكأنها شخص آخر، لم يكن هو المعتاد عليه. [يتذكر]
كانت أكثر نضجًا، وأجمل، وكان لوجودها هذا الفارق الواضح تأثير قوي عليه.
إيثان: إيلينا…
همس باسمها بصوت خافت، ولم يستطع أن يمنع ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيه، تلك الابتسامة التي كان يشعر بها، لكنه لم يكن يجرؤ على إظهارها بشكل واضح.
كانت مجرد نظرة خاطفة في عينيها كفيلة بأن تجعل قلبه ينبض بشكل أسرع، وكان يشعر بشيء غريب يحيط به، شعور بالخجل الذي لم يكن قد اختبره من قبل.
إيثان: كيف كان الحفل؟
سألها بصوت هادئ، محاولًا أن يخفي التوتر الذي شعر به.
إيلينا، التي كانت تعرف تمامًا أن إيثان لا يحب أن يتحدث كثيرًا عن مثل هذه الأمور، ابتسمت بلطف وأجابته
إيلينا: كان غريبًا. الكثير من الناس، الكثير من الأنظار، شعرت وكأنني كائنًا غريبًا في تلك اللحظات.
كانت تشعر وكأنها تتحرر من الضغوطات التي أحاطت بها في الحفل.
لكن إيثان، رغم خجله، كان قادرًا على سماع تلك الهمسات التي اختبأت وراء كلماتها، فكلماته كانت أكثر هدوءًا من أي وقت مضى
إيثان: لكن… أظنكِ كنتِ جميلة جدًا. كان الجميع يراقبكِ، وكانوا يتحدثون عنكِ.
نظر إليها بسرعة، ثم عاد لينظر إلى الأرض، وكأنما لا يستطيع أن يلتقي بعينيها مباشرة، يشعر بشيء غير مألوف في قلبه.
إيثان: أنتِ أكثر من رائعة، إيلينا.
قالها، وهو يحاول أن يبدو هادئًا، لكن نبرة صوته كانت تحمل شيئًا من الخجل، شيء غريب عليه.
ابتسمت إيلينا بخفة، وكانت في عينيها لمحة من الحيرة.
إيلينا: أعتقد أنني لم أكن أعرف كيف أتصرف، كيف أكون. كنت أشعر أنني مجرد صورة في الحفل، لستُ أنا.
قالت هذه الكلمات وكأنها تعترف لنفسها، أكثر من كونها تعترف له.
ظل إيثان صامتًا لفترة، يراقبها وهو يحاول أن يجد الكلمات المناسبة ليرد بها.
كان يشعر بأنها تبحث عن شيء لا تستطيع أن تجده في مكان آخر.
وكانت هي، أيضًا، بحاجة لأن تستمع إلى كلمات تهدئها، تطمئنها.
إيثان: إيلينا، أنتي… ليست مجرد صورة. أنتِ أكثر من ذلك.
قالها بصدق، وهو يرفع عينيه إليها أخيرًا، ويبتسم.
إيثان: أنتِ رائعة كما أنتِ. لا أحد يستطيع أن يكون مكانك.
كان إيثان في تلك اللحظة أكثر خجلًا من أي وقت مضى.
كانت نبرته هادئة، لكنها تحمل الكثير من المشاعر التي لم يكن يعرف كيف يعبر عنها.
شعر وكأن قلبه يتسارع بينه وبين نفسه، وكان من الصعب عليه أن يقول الكلمات التي طالما أراد أن يقولها.
ضحكت إيلينا برقة، وأخذت خطوة للأمام نحو إيثان، كأنها تطلب منه أن يقترب أكثر، حتى يستطيع التحدث بشكل أعمق.
إيلينا: أنت دائمًا صادق معي، أليس كذلك؟
قالتها بهدوء، مع ابتسامة صغيرة.
إيثان: أنتِ تستحقين الحقيقة فقط.
أجاب إيثان وهو يبتسم، وأخيرًا تجرأ على النظر في عينيها دون أن يشعر بالخجل.
كان هذا الحوار بينهما يحمل عمقًا غريبًا، شعورًا بالراحة والطمأنينة التي افتقداها طوال اليوم.
وبينما كانت إيلينا تبتسم، كانت تشعر بشيء مختلف في قلبها، شيئًا لم تكن قد اختبرته من قبل، ومع كل كلمة يتبادلها مع إيثان، كانت تحس وكأنها تعود إلى مكانها الطبيعي.
تذكرت شئ ما
“غريب… لطالما شعرت أن هناك شيئًا غير طبيعي في تصرفاته… لكني لم أمتلك الشجاعة لأفكر به بعمق.”
أخفضت عينيها إلى الأرض، وارتجفت شفتاها وكأنها على وشك الانهيار.
جلست إيلينا بجانبه في صمت، لتريح نفسها المتعبه بعد ليلة طويلة من المجاملات، الرقص، والنظرات الفضولية.
نظرت إلى إيثان، الذي جلس أمامها متكئًا على الجدار، وعيناه تتفادى عينيها بخجلٍ غريب، كأنه لم يعتد رؤيتها بهذا الشكل…
متألقة، مختلفة، وكأنها خرجت من قصة لم تُكتب بعد.
كان يحاول أن يبتسم، لكن ارتباكه لم يخفَ عنها.
ملامحه كانت أهدأ، أكثر صفاء، رغم شحوبٍ خفيف لا يزال يلازمه.
في لحظة سكون، وبين همسات أفكارها، عادت ذاكرتها إلى ذلك اليوم…
قبل خمسة أشهر.
قبل خمسة أشهر فقط، اكتشفت الحقيقة المروّعة…
اكتشفت أن والدي…
ذلك الرجل الذي وثقت به ذات يوم، كان يضع أدوية مجهولة في طعام إيثان.
لم تكن أدويةً للعلاج، بل أدوات… أدوات صُمّمت ليسلب بها من إنسانٍ مشاعره، ووعيه، وإرادته.
كان يريد أن يجعل منه دمية… خالية من أي رغبة أو روح.
فقط جسدٌ يتحرك بأوامره. مجرد ظل.
صرخة داخلها لا تزال تحترق، كانت قد زارت السوق ذات يوم لتشتري أعشابًا جديدة له، وعندما مرت من أمام كشك للعلاجات القديمة غير معروف، سمعت اسم مكون مألوف…
ذلك الاسم الغريب الذي وجدته مرة في خزانة والده، مرفقًا بملاحظات طبية مشفّرة.
تحدث العشّاب عن خطورته، وعن كيف أنه يسبب الهلوسة، والحمى، وتلف الأعصاب إذا استُخدم لفترة طويلة.
شعرت وقتها بأن الأرض اهتزت تحت قدميها.
“هل يمكن… أن يكون هذا ما يحدث لإيثان؟”
تذكّرت حينها كل الليالي التي كانت تمسح فيها جبينه وهو يهذي.
تلك النظرة الزجاجية في عينيه، تلك اللحظات التي يرتجف فيها دون سبب.
كانت تظنها آثار الصدمة…
آثار الحبس الطويل…
لكنها الآن تفهم.
كان جسده يحارب.
كان عقله يقاوم.
لم يكن فقط سجينًا داخل قبو…
بل سجينًا داخل جسده.
شعرت بحرقة في صدرها…
بعجزٍ قاتل.
لكنها كانت تعطيه الأعشاب، خلسة، بصبرٍ وأمل.
وها هو جسده قد بدأ يتحسن، تدريجيًا.
كان أحيانًا يبتسم.
وأحيانًا يعيد نبرة صوته الحقيقية.
حتى وإن ظل متعبًا، على الأقل…
لم يعد ميتًا من الداخل.
“كان دائمًا يشعر بالحمى… وكان يرى أشياءً غير موجودة… وكنت أظن أنها مجرد آثار ذكريات مؤلمة… لم أكن أعلم أن جسده يصارع الموت بصمت.”
وضعت يدها على قلبها، وكأنها تحاول أن تهدئ الألم فيه.
“أقسم… أنني لن أسمح لأحد بأن يؤذيه بعد الآن.”
يتبع…….
_______________________________________
[نهاية الموسم الأول]
اسم رواية: خفايا القصر المؤلم
اسم الكاتبة و المؤلفة: [كم]
ها نحن نصل إلى الخاتمة المؤقتة، إلى هذه الصفحة التي تُغلق على كثير من الحيرة، والدموع، والابتسامات الخافتة التي كُتبت بين سطور الصمت، وإلى هذا الفصل الخمسون، حيث يسكن الضوء الأخير للموسم الأول من حكاية إيلينا…
وحكاية القصر، بما فيه من جراح صامتة، وخفايا لم تُبح بعد.
لا أستطيع إنكار أن قلبي يرتجف وأنا أكتب هذه السطور، وكأنني أودّع صديقة عشتُ معها ليالٍ طويلة، وقاسيتُ بصحبتها كل ما كتبته من ألم، وراقبت معها وجوه الشخصيات تنمو، وتتشقق، وتغفو على سرير من الأسرار.
إيلينا، تلك الفتاة التي بدأت قصتها بريبة، وقلق، وحبٍّ ، تجد نفسها الآن تقف على مفترقٍ جديد…
قلبها لم يعد كالسابق، وعيناها أبصرت ما لم يكن بالحُسبان.
وإيثان، ذاك الظلّ المنسي في قبوٍ بارد، ينسج الآن مشاعره للمرة الأولى، لا كعبدٍ، بل كإنسانٍ يحاول أن يكون حيًّا.
أنا، كاتبة هذه الرواية، كنت كل لحظة أضع قلبي بين السطور، أزرع الأمل في الزوايا القاتمة، وأترك أثرًا من النور في كل عتمةٍ عبرتموها معي.
لم أكن وحدي… 🥹💞
أنتم كنتم هناك، تقرؤون، تتابعون، تنفعلون، وتُرسلون لي كلماتكم التي كانت تُضيء لي الطريق حين يتعب قلمي.
أعلم أنّ القصة لم تنتهِ، وأن هناك الكثير من الأسرار ما زالت تتنفس بصمت…
أعلم أن هناك حبًّا لم يولد بعد، ودموعًا لم تُذرف، وانتقامًا لم يُستكمل، وخلاصًا ينتظر أن يُكتب.
لكنني الآن أودّعكم مؤقتًا، كما تودّع الأم طفلها حين ينام، وهي تهمس له: “سأكون هنا حين تستيقظ.”
سأتوقف قليلًا، لأعود إليكم بكل حبّ واشتياق في الثامن والعشرين من يونيو 2025/6/28، بعد أن أُنهي دراستي، وأتفرغ مجددًا لنسج بقية الفصول التي تستحقونها.
شكرًا، من أعماق قلبي، لكل من قرأ، وتفاعل، وانتظر، وشعر مع إيلينا، وإيثان، وكل تلك الأرواح التي ما زالت تبحث عن نورها وسط هذا القصر المؤلم.
ابقوا بقربي، وابقوا مع قصتي.
دمتم بخير حتى نلتقي.
محبتكم الكاتبة [كم.]
شكراا من كل قلبي🥹🫂💞
التعليقات لهذا الفصل "50"