الفصل: همسات الكتب في الليل
في الليل، لا تنتهي همسات الكتب. تتردد في الأرجاء، تملأ الزوايا المظلمة بمعلومات وأسرار، تهمس بحكايا غريبة لا يعرفها أحد سواها.
الزمن في القبو ليس كما في الخارج، حيث تحبس الساعات نفسها في مكان ضيق، يسير ببطء كأنه يتجنب مواجهة الحقيقة.
عامًا كاملاً مرّ منذ أن بدأت إيلينا زياراتها إلى هذا القبو المظلم، لكن تلك الأيام كانت تذوب في بعضها البعض، كأنها مجرد فصول في كتاب لا نهاية له.
…..
مع مرور ٣٦٥ يومًا، أصبح القبو أكثر من مجرد مكان.
أصبح عالمًا مشتركًا بينهم.
فبين جدرانه المظلمة، كان كل شيء مختلفًا.
الكتب، التي كانت بالنسبة لهم مجرد صفحات مملوءة بالكلمات، أصبحت مفتاحًا لعالم آخر.
كتاب تلو الآخر، كانت تلك الكتب تسرد له قصصًا عن عالم لا يعرفه، عالم مليء بالمعاني والألوان التي لم يختبرها في حياته المظلمة.
وفي كل ليلة، عندما كانت إيلينا تأتي حاملة الكتب، كان إيثان ينتظرها بشغف لم يشعر به من قبل.
في البداية، كان يلمس الكتب كما لو كانت شيئًا غريبًا، كأنها شيء لم يعتد عليه، لكن مع مرور الوقت أصبح يتعامل مع تلك الأوراق بحذر، وكأنها جزء من حياته الجديدة التي بدأ يكتشفها شيئًا فشيئًا.
كانت إيلينا تشرح له كل كلمة، كل جملة، كل فكرة.
كلماتها كانت تتنقل بينهما كخيوط غير مرئية، تربطها علاقة غامضة وفريدة، تلك العلاقة التي بدأت تتطور من مجرد تعليم إلى شيء أكثر عمقًا، شيء غريب.
كانت تعلم أنه ليس مجرد فتي يحتاج إلى تعلم القراءة، بل شخص محاصر في الظلام، في عزلته، وكان يعلم أنها كانت أمله الوحيد للخروج من ذلك القبو المظلم.
في بعض الليالي، عندما كانت تتركه ليكمل قراءته، كان يتنهد، وكأنه يتأمل شيئًا بعيدًا عنه.
ولكن في تلك اللحظات، كان يجد نفسه أكثر قربًا منها، يشعر كما لو كانت كلمات الكتب تملأ الفراغ الذي تركته سنوات من العزلة.
كان يتذكر الأوقات التي قضياها معًا، تلك اللحظات التي كانت مليئة بالتوتر والصمت، ولكنها كانت في نفس الوقت مليئة بشيء آخر: أمل.
أمل بأن هناك شيئًا جديدًا ينتظره في المستقبل.
وبينما كان هو يغرق في عالم الكتب، كانت إيلينا تشعر بشيء آخر، شيء لم تستطع تفسيره بعد.
في كل مرة كانت تغادر القبو، كان هناك شيء يبقى وراءها، شيء يشبه جزءًا من روحها.
كانت يديها ترتجفان عندما تلمس الجدار البارد للمغارة الصغيرة، وكأنها تترك شيئًا من نفسها في هذا المكان الذي أصبح يشهد على تحول شيء أكبر من مجرد لقاءات.
كان يشهد على تحول داخلي، تحول في إيثان، وأيضًا في إيلينا نفسها.
لم تكن تعرف كيف حدث هذا، لكنها كانت تشعر أن كل لحظة تمر فيها مع إيثان كانت تحمل معاني جديدة، معاني تتجاوز مجرد تعليم القراءة والكتابة.
كانت تشعر أن كل كلمة كانت تكتب في تلك الكتب كانت تكتب في قلبها أيضًا، وكأن هناك رابطًا غير مرئي يتشكل بينهما، رابط لا يمكن فكه أو تفسيره.
كانت تراعي كل خطوة تخطوها، وكل كلمة تخرج من فمها، لأن كل شيء كان مؤثرًا في هذا العالم الجديد الذي بدأ يتكون ببطء.
في البداية، كان يلمس الكتب بحذر، ولكنه مع مرور الوقت، أصبح يسأل عنها، يسأل عن المعاني، عن الشخصيات، عن أشخاص الذين كانت تتحدث عنهم الكتب.
كان يكسر الصمت الذي كان يملأ الغرفة بأسئلته المتوالية.
“إيلينا، هل يمكن أن أكون مثل هؤلاء الأشخاص؟”
كان يسألها في بعض الأحيان، وعينيه مليئة بالفضول والحيرة.
لكن إيلينا كانت تبتسم بلطف، وتجيب عليه بهدوء،
“كل شخص لديه القدرة على أن يكون بطلًا في حياته، إيثان.”
في تلك اللحظات، كانت تشعر أن كلامها لا يقتصر على إيثان فقط، بل كان يمتد إليها هي أيضًا.
كان كلامها يحمل معاني أكبر مما يمكن أن تشرحه الكلمات.
كانت تعلم أنها هي الأخرى كانت بحاجة إلى أن تجد نفسها في هذا العالم الذي كانت تتعلم فيه من إيثان كما يتعلم هو منها.
ومع مرور الأشهر، أصبحت تلك الليالي أكثر سكونًا، ولكن في هذا السكون كان هناك نوع من الانفجار الداخلي.
كانت كل كلمة تقال في القبو تحمل بين طياتها ثقل اللحظات الماضية، وكأن كل لحظة كانت تقربهما أكثر من الحقيقة التي كانت مختبئة في الظلال.
وكان إيثان يقترب من فهم جزء من هذه الحقيقة، جزء من ماضيه الذي ظل غامضًا طوال هذه الفترة.
لكن، في أعماق قلب إيلينا، كان هناك تساؤل دائم:
هل حان الوقت لكي تعرفه الحقيقة كاملة؟ هل يجب أن تخبره عما يجهله عن نفسه؟ كانت تعرف أن الوقت قد يكون قريبًا، وأنها ستضطر قريبًا إلى أن تواجه تلك اللحظة التي ستغير كل شيء بينهما.
لكن في نفس الوقت، كانت تشعر بالقلق.
هل هو مستعد لتلك الحقيقة؟ هل سيظل كما هو بعد أن يعرف من هو حقًا؟ وهل ستكون هي قادرة على التعامل مع هذا التغيير الذي سيطرأ عليه؟
كانت أسئلتها تتراكم مع مرور الوقت، ولكن لم يكن هناك جواب شافٍ.
كلما اقتربت من الحقيقة، كلما شعرت بالضياع أكثر.
ومع مرور الأيام، أصبحت اللقاءات بينهما أكثر تكثيفًا.
( بل أصبح إيثان يتقاسم معها أفكاره، مشاعره، وتغيراته.)
(كان يتحدث عن الأمل، عن المستقبل، عن الأشياء التي يريد أن يفعلها عندما يخرج من هذا القبو. )
كانت تلك الكلمات تجلب الدفء إلى قلبها، ولكنها كانت تعرف أن هذا ليس كافيًا.
هناك شيء أكبر ينتظرهم.
وبينما كانت تتركه في تلك الليلة، كانت تشعر بشيء مختلف، كأن هذه المرة ستكون الأخيرة ، لكن هل ستكون مستعدة لذلك؟ وهل هو مستعد؟
كانت الأيام تتساقط كأوراق الخريف، وها هو العام الأول ينقضي.
لكن الحقيقة لا تزال تختبئ بين الكتب، بين الهمسات التي كانت تتردد في صمت، تنتظر اللحظة التي ستتغير فيها كل شيء.
يتبع…..
التعليقات لهذا الفصل "29"