النار كانت تتّقد في المدفأة السرّية للمقرّ الريفي.
روزنتين لم تشرب رشفة واحدة من الشاي الذي أحضرته الخادمة. وكذلك شارتوس.
رأت أنّ الوقت قد حان.
“سأشرح كلّ شيء بنفسي، سموّ الأمير.”
“أمازلتِ تجهلين آداب الحديث؟”
كان من الواضح أنّ هوستانغ قرّر أن يهاجمها هذه المرّة، بعدما خسر أمام العجوز سابقًا، أراد أن ينقضّ على الفتاة الأصغر سنًّا.
لكن لسوء حظّه، كانت هي والعجوز شخصًا واحدًا.
روزنتين ردّت بهدوء، وكأنّها تسدّد لكمة مباشرة:
“ما زلت أتعلم، لا أعرف الكثير. لكنني أعرف كيف أملأ جيبي.”
“تفكيرك سوقي ووضيع.” قالها هوستانغ وهو يعقد حاجبيه.
لكن روزنتين لم تهتم على الإطلاق.
‘ما الذي تعرفه عن الرأسمالية، أيها الغبي؟’
كانت تنوي أن تعلّمه الآن مرارة الحياة، هو الفارس النقيّ الذي لا يعرف شيئًا عن الإنترنت أو قوّة المال.
“المعرفة ضروريّة لفهم الآخرين، سيدي الفارس. لذا دعني أعلّمك طريقة التفكير السوقيّة تلك.”
أردفت شفهيًا: ‘لسموّ الأمير خاصّتك’.
توسّعت عينا هوستانغ، بينما اعتدلت روزنتين ورفعت ذقنها قليلاً. كانت تستعدّ لبدء المعركة.
لقد أتت إلى هنا لتنجو بنفسها… وإن أنقذت شارتوس في طريقها، فلا بأس.
كان ذلك مجرد ثمن جانبيّ في سبيل الوصول إلى الكنز، لا أكثر.
“كما توقّعتم، أستطيع التنبؤ بالخطر، تمامًا كما كانت جدّتي. لكن قواي أضعف منها، لذا لا أستطيع إلا رؤية الخطر الكبير فحسب.”
“عديمة الفائدة إذن.”
قال شارتوس وهو يريح ذقنه على يده، واضعًا ساقًا فوق ساق.
كان يهمس بسخرية واضحة.
روزنتين فكّرت في أنّ وضعية جلوسه غير لائقة بفارس، لكنها لم تكن تتوقّع منه أدبًا.
هي ليست النبيلة روزنتين الآن، بل فتاة من نسل عرّافات متشرّدات تُدعى “روان”.
“في هذه اللحظة، أرى خطرًا يهدّد سموّ الأمير.”
قالتها بنبرة ناعمة، ولكن واثقة تمامًا.
سواء كانت قواها مفيدة أم لا، فهي ضروريّة لشارتوس حاليًا.
كانت تملك مفتاح الباب الذي يريد أن يفتحه.
وكانت واثقة أنه لن يقطع رأسها طالما تملك هذا المفتاح.
وقفت على ساحة معركة، تستخدم فيها لسانها وموقفها كسلاح.
وإن كان هو مبارزًا، فهي تحارب من أجل البقاء.
“لِنرَ…” فكّرت روزنتين.
ثمّ فجأة، ضحك شارتوس لأوّل مرّة.
صوت رجوليّ بارد وعميق انساب من فمه.
توسّعت عينا روزنتين من الصدمة.
كان وجهه، حين يبتسم، كلوحةٍ فنيّة حيّة.
حتى هوستانغ بدا وكأنه سُحر من مظهره.
‘هل واجهت النساء اللواتي اقتربن منه هذا الوجه ونجون؟’
“هل براعتك بالكلام ورثتِها من العائلة؟”
“…إنها وسيلة للبقاء، سموّ الأمير.”
أجابت روزنتين بصعوبة، وهي تتمنى لو أنّه لم يبتسم، على الأقلّ الآن.
لن يكون هناك وقت للاستمتاع بجماله إلا حين تُؤمّن حياتها.
سعلت بخفّة وعبست، متظاهرة بأنّها لا تريد تحدّي شارتوس، بل تتوجّه إلى هوستانغ.
الذي، بالمناسبة، ما زال يحدّق بذهول في الأمير.
“ثمّ؟”
“أستطيع الإحساس ببعض خيوط هذا الخطر.”
“هذا كلّ شيء؟”
“وأنا نفسي أيضًا… ذكيّة بعض الشيء.”
أضافتها روزنتين بابتسامة خفيفة.
هوستانغ فتح فمه من الدهشة، بينما لم تُفلح في قراءة تعبير شارتوس.
كانت ممتنّة لأنّ هوستانغ حضر، لأنه لو لم يكن موجودًا، لربّما رمشت بعينها للأمير.
روزنتين استمرّت في تصرّفها الجريء والمراوغ، وهو أمر نادر أمام أمير ملكيّ.
فهي، مهما كانت من سلالة دوق، تبقى أقلّ مقامًا.
من المؤكّد أنها الوحيدة التي تعامل شارتوس بهذا الشكل.
لكنها في الواقع، امرأة من القرن الحادي والعشرين، تحمل عقلية مختلفة تمامًا.
وكانت تحاول عمداً أن تمزج بين الجدّ والهزل، لترى ردّ فعله… لكنه لم يتأثّر قط.
“سموّ الأمير! لا يمكن الوثوق بهذه المرأة!”
نعم، هذا ردّ الفعل الطبيعيّ.
روزنتين حكّت رأسها بوقاحة، وهوستانغ عبس من جديد.
بالنسبة له، لم تكن سوى ساحرة تُمارس الشعوذة.
والناس بطبعهم يخافون ما يجهلونه، ويكرهون ما يخافونه.
كانت تحاول إيجاد ثغرة، لكنّ خصمها كان “الفارس الذي لا يُهزم”.
لو لم يسمح شارتوس بوجودها، لكان هوستانغ قد طردها.
“سأربط الخيوط معًا وأقضي على الخطر الذي يحيط بسموّ الأمير.”
“إذن الخطر مصدره البشر.”
“كما هو متوقّع منكم.”
ذكيّ فعلًا.
روزنتين همّت بأن تقول المزيد، لكنها أغلقت فمها فجأة.
شعرت بقشعريرة في جسدها.
ابتسمت بهدوء.
‘أهو الأذكى؟’
شعرت بالخطر.
والخطر الذي هدّد شارتوس جاء برسالة من أحد خصومه.
وقد وعدت بإزالته.
من هذه التفاصيل فقط، استنتج أنّ ما يهدّده هو مؤامرة، وأنّ قبولها في هذا العمل يعني أنها ستُقيم في القصر وتعمل لأجله.
ورغم حديثها عن ذكائها، إلا أنّ قوّتها الحقيقية تكمن في الاستماع والكلام والرؤية.
المعلومات التي سمعتها من الأشباح ستُقدَّم في صورة عبقريّة مقنعة.
لذا، لم تخبره بعد أنّ هناك من يخطّط لاغتياله،
بل ركّزت على شيئين: كشف المؤامرة، وإخفاء حقيقتها عنه.
“هل أنتِ واثقة؟”
سؤال جدّي بنبرة فارسٍ يبايع سيّده.
نظرت إليه.
وجهه بلا تعبير، لكن هالته قوية ومهيبة.
ربّما هذه هي قوّة الأقوياء؟
عدّلت روزنتين وقفتها مجددًا.
شارتوس رمقها بنظرة خاطفة.
“إنّها مسألة حياة أو موت بالنسبة لي.”
لم تقل: “سأنقذك”،
بل أوضحت: “أنا مجبرة على إنقاذك لأنّ مصيري متعلق بك”.
لم تكن تصدّق بشعارات الولاء أو خدمة العائلة الملكية.
ولم يكن ليصدّقها هو أيضًا.
كانت صادقة بشيء واحد:
أنها مصمّمة بشدّة على إنقاذه.
ضحك شارتوس من جانب فمه.
التفتت روزنتين فورًا إلى هوستانغ بعبوسٍ خفيف.
كان وجه الأمير وسيمًا بشكل يثير الغضب.
تبادل هوستانغ تعابير غريبة معها، وكأنه تلقّى صفعة بصريّة.
“لابدّ أنكِ تطلبين شيئًا بالمقابل.”
“كما توقّعتم، صحيح.”
كانت رغبتها واضحة:
ضمان حياتها وحياة أسرتها، وعدم استخدام أي فضيحة أو حادثة ضدّها لاحقًا.
لكن بما أنها لا تستطيع إعلان هويتها الحقيقية الآن، فعليها التفاوض بذكاء.
ابتسمت بابتسامة تاجر، بينما هو ارتدى ملامح الحاكم.
“وما خطّتكِ؟”
“ذكريات الماضي. أرِني الرسالة التي تركها الكونت المرت.
سأحلل من خلالها التهديدات التي تُحيط بكم.
وسأنطلق من دليلين: الرسالة، والمكتبة الخاصة بكم.”
“وتعرفين حتى موقع التمثال.”
“لأنها قدرتي.”
التقت عينا روزنتين الزرقاوين الحادتين بعيني شارتوس مباشرة.
كان يراها تحمل نفس عيني جدّتها.
“روان”، أهذا اسمها؟
بينما هو يسترجع اسمها، كانت عيناها تدوران بسرعة.
لم يكن بحاجة لإخبارها بأسراره، لأنها ستكتشفها بنفسها.
أشباح القصر كانت تملّ من الوحدة، وستقول لها أي شيء إن وجدت اهتمامًا.
لكنّ روزنتين كانت تخشى مصير “كلب الصيد بعد انتهاء الصيد”.
الذين يعرفون أسرارًا كثيرة، يُنظر إليهم كخطر.
وإن عرف هويتها الحقيقيّة، فربما تنقلب الأمور.
كانت بحاجة إلى دليل حاسم، ودافع قويّ للاستمرار.
“موافق.”
بعد صمتٍ ثقيل، وافق شارتوس بكلمة واحدة.
كادت روزنتين أن تتنهّد براحة.
هوستانغ كان يحدّق فيها بذهول، لكنه لم يعترض،
ممّا يدلّ على ثقته في الأمير.
تمّت الصفقة.
والآن حان وقت مناقشة التفاصيل.
تنفّست روزنتين بعمق، ونظرت إلى شارتوس.
فالروعة تكمن دائمًا في التفاصيل.
أنزل شارتوس يده من ذقنه، وأسندها إلى ذراع الكرسي.
حركة بسيطة لكنها مخيفة لها.
“نادراً ما أُبقي خادمًا إلى جانبي. إن أردتِ شيئًا، قولي الآن.”
“أطلب شيئًا واحدًا فقط، سموّ الأمير.”
“وهو؟”
“نوقّع عقدًا.”
تعلمت في كوريا أن العقود تُكتب على الورق.
الرأسمالية تبدأ من التوثيق.
رفعت أطراف تنّورتها قليلاً.
تحيّة أدبيّة كانت قد ادّعت جهلها بها سابقًا.
هوستانغ عبس على الفور، وارتجف خدّه من الغضب،
لكنها سُرّت بذلك.
شارتوس أمره:
“أحضِر قلمًا وورقة.”
كانت روزنتين مندهشة من قدرة شارتوس على الحفاظ على هدوئه حتى الآن.
ابتسمت بخفّة، لتُخفي رعشة قلبها.
هل ستنجح؟ لا تدري.
وإن لم تنجح، فالموت مصيرها.
عندها، تكلّم شارتوس:
“قبل أن نكتب… دعيني أقول شيئًا.”
أدركت أن اللحظة الحاسمة جاءت.
حتى هوستانغ لم يلتفت.
“أتمنى أن تكون ثقتك بنفسك ليست غرورًا. لأنك إن فشلتِ…”
ابتلعت ريقها.
نعم…
“ستموتين.”
قالها في اللحظة ذاتها التي فكّرت فيها.
بردت عينا روزنتين فجأة.
تذكّرت ذلّ حياتها السابقة، وجهدها في “أكرانا”.
لطالما كانت وحيدة وسط الأحياء… قبل أن تُبعث من جديد.
ورغم حياتها التي تتطلّب الحذر، إلا أنها لا تريد أن تخسر ما بنته.
هذه الجسد، روزنتين، هو ملكها.
لن تسمح لأحد أن يسلبه منها.
“أعلم ذلك.”
أجابت بجمودٍ شديد.
“مصمّمة إذن.”
قالها بنبرة رتيبة.
“لكن إن نجحتِ، فستعيشين.”
يا صاحب السلالة الملكيّة، ما أطلبه هو حياة لي ولأسرتي، لا أكثر.”
أزالت روزنتين ابتسامة التاجر.
لم يعد هناك سوى إنسان، يحاول حماية ما يخصّه.
شارتوس نظر في عينيها المشتعلتين.
إنها أول مرّة يرى فيها عيني ساحرة.
لم يكن يعرف ما الذي يجعلها بهذا الإصرار.
جدّة وحفيدة، كلّ من أزعجوه في الليلة الماضية يشعلون النيران حوله.
“آمل أن تتذكّروا، سموّ الأمير… نحن الاثنان وضعنا حياتنا في هذا العقد.”
“هل عقدكِ عليه تعويذة سحرية؟”
‘يا ليت!’ فكّرت.
لكنها هزّت رأسها بهدوء.
“وقحة. هل أنتِ واثقة إلى هذه الدرجة من موتي؟”
ما كانت واثقة منه هو شيء واحد:
أنّ هذا المخطط ليس مجرّد محاولة اغتيال بسيطة.
المتآمر المجهول كان يسعى جديًّا إلى قتل شارتوس،
وقد يكون من أنصار وليّ العهد المريض…
وربما هو نفسه وليّ العهد!
وإن لم يكن هو، فالمصيبة أكبر.
لقد سمعت إشاعة الاغتيال من سبعة أشباح مختلفين.
وكانت الصدمة:
ثلاث مؤامرات منفصلة لاغتيال الأمير الثاني تحدث في الوقت نفسه!
واحدة لا تكفي، ولا اثنتان… ثلاث دفعة واحدة.
من ذا الذي يخطّط لموته بهذا الإصرار؟ ولماذا؟
“ستُغتال، سموّ الأمير. إن لم أكن موجودة.”
التعليقات لهذا الفصل " 8"