رفع شارتوس زاوية فمه بابتسامة مائلة وقال بلهجة حادة، ألقى كلماته بلا مبالاة، غير أنّ أثرها كان عميقًا.
فإن اندلعت حرب بين القوتين الأعظم في القارّة، فستجرف نيرانها كلّ أراضي أكرانا.
ابتلعت روزنتين ريقها وهي تواجه تلك الحقيقة التي كانت تحاول تجاهلها عمدًا.
منذ البداية، لم تشكّ مباشرة في فيشتيان بسبب تلك المخاطرة بالذات.
نظرت روزنتين إلى لوسين بطرف عينها.
منذ اليوم الذي رأت فيه الشعار على كتفه، لم تستطع التوقف عن التفكير في فيشتيان، وكأنّ الأمر أصبح غريزة لا يمكن كبحها.
وكلّما فكّرت أكثر، ازداد تعجبها من كونها لم تدرك ذلك في وقتٍ أبكر.
العدو كان يعرف تفاصيل القصر معرفة دقيقة.
ولأنّها رأت في ذلك دليلاً على عدوٍّ داخلي، فقد استبعدت احتمال وجود أكثر من جهة واحدة، لكنها بدأت الآن تشكّ في ذلك.
فالمكائد كانت بالغة الدقّة، وإذا فكّرت بحجم رأس المال والقدرات التي استُخدمت، لكان من المنطقي افتراض وجود قوّة كبرى وراء الأمر.
فيشتيان والشعار…
راحت روزنتين تعبث بظهر يدها.
أحسّت بحرارةٍ غريبة في الموضع الذي طبع عليه لوسين قبلة احترام.
كان ذلك شعورًا أربكها، فالأمر الذي قامت به فقط لتشعر بالراحة قوبل بامتنانٍ مبالغٍ فيه.
لكنّها كانت تعلم مدى عمق تلك التحية.
كانت تعلم ما يعنيه أن يفتح شخص يحمل سرًّا كهذا قلبه أمامها.
فهي أيضًا وجدت ذاتها ذات يوم في قلب آرون.
“هل أرسلكم الملك؟”
كانت فيشتيان دولة قويّة، حتى إنّ ملكها يُلقّب بـ”الإمبراطور”.
ومع ذلك، تعمّدت روزنتين أن تُسميه “ملكًا”، لا “إمبراطورًا”.
تجهم وجه الرجل، كما لو أن الكلمة أهانته، وهو ردّ طبيعي بلا شك.
لكن بعد أن واجهت مرّتين كراهية تلك المملكة، لم تعد تفكر في منحه أي احترام.
فليدعوا حاكمهم إلهًا إن أرادوا، لا يهمها الأمر.
بالنسبة لها الآن، لم يكن سوى وغدٍ بغيض.
رفع شارتوس حاجبه باهتمامٍ بارد، بينما بدا الارتجاف على يدي هوستانغ ولوسين.
“اللعنة…”
ارتجف الرجل عندما سمع كلمة حرب.
تبادل شارتوس وروزنتين نظراتٍ سريعة.
إن كانت فيشتيان تستعدّ فعلاً للمواجهة، فسيكون الوضع خطيرًا للغاية.
لكن من ملامح الرجل، لم يبدُ الأمر كذلك.
كان واضحًا أنّه هو الآخر لا يرغب في الحرب.
كارتاجين كانت أقوى دولةٍ في القارّة، الإمبراطورية الوحيدة وسيدة الجميع، ولن تتردد في تدمير المملكة البحرية حتى النهاية.
تردّد الرجل طويلاً قبل أن يزفر بعمق وينطق بالحقيقة.
“الأمر من الأمير الثاني… لا علاقة له بالدولة مباشرة.”
“من الأفضل أن يكون الأمر كذلك.”
“تحدث بوضوح، مصير القارّة بأسرها معلّق بكلماتك.”
لم يزل هوستانغ يوجّه سيفه نحو الرجل دون أن يُنزل حذره.
نظر الأسير نحو النافذة، محاولاً تقدير المسافة بينه وبين الأربعة الآخرين، ثم هزّ رأسه مستسلمًا.
فحتى لو وُجدت ثغرة، فالخصم أمامه هو الفارس الذي لم يُهزم قطّ، والهروب مستحيل ولو كان معه ثلاثة رفقاء.
لابد أن من استخدمه أمره بتجنّب المواجهة المباشرة.
نقر الرجل بلسانه مرّة أخرى، وتجرّع مرارةً داخله.
لم يعد بإمكانه حتى أن يسمي من استخدمه “سيّده” بعد الآن، لقد أُسِر، ومن يحاول اغتيال أحد أفراد العائلة الإمبراطورية لا مفرّ له سوى الموت.
كان قاتلاً مدرّبًا، معتادًا على التعذيب، لكنه أدرك أن كتمان الحقيقة سيجرّ عواقب تمسّ القارّة بأسرها.
فجسده نفسه قد يصبح دليلاً.
لم يتخيّل قطّ أن يُكشف عن الجهة التي دبّرت محاولة التسميم بهذه السهولة.
رفع نظره قليلًا نحو لوسين.
عبدٌ سابق من فيشتيان… لا يمكن أن يكون في القصر أصلاً.
لم يكن يومًا يتوقع أن يسمع عن المنظمة التي يعمل فيها من فم نبيلٍ من دولةٍ أخرى، فحتى أعظم تجار المعلومات لم يعرفوا أصل ذلك الشعار.
‘هل كان الأمير يعلم؟’
هزّ رأسه في صمت.
لم يستطع معرفة حدود توقّعات سيّده الحقيقي.
فالأمير الثاني من فيشتيان لم يكن ذكيّ، بل بالأحرى… كان مجنون.
ولن يتردّد في إشعال حرب، فإذا حدث ذلك…
“هاه…”
“إجابتك؟”
“…سأتحدث.”
“يبدو أنك لا ترغب في الحرب إذًا.”
قال هوستانغ بنبرةٍ تحمل شيئًا من الدهشة.
كان يتوقع من جاسوسٍ مدرّب أن يعضّ على السمّ ويموت فورًا بدل الاعتراف، لكنه بدا مترددًا حقًا.
ربما لأنّها حرب قد تبتلع القارّة بأكملها.
***
قبل ثلاث سنوات.
بعد تدريباتٍ قاسية، علّمه سيّده كيف يمتلك رغبات البشر حتى لا يبدو غريبًا في القصر الإمبراطوري.
وفي تلك الفترة، تعرّف إلى امرأة.
امرأة ضعيفة كانت ستموت بسهولة في الحرب لو لم يحمِها.
لم يسمح له سيّده بالذهاب إلى كارتاجين مطمئنًّا.
فالأمير الثاني لمح عن وجودها، وهدّده بوضوح قائلاً إنّها ستُقتل إن فكّر بخيانة الأوامر.
كانت تهديداتٍ ماكرة، لكنها مألوفة لديه.
غير أنّها، مع مرور الوقت، أصبحت قيدًا يُكبّله.
“…كلّ المخطط كان بأمرٍ مباشر من الأمير الثاني.”
“احترم مقامك.”
ضرب هوستانغ ركبته فأجبره على الركوع أرضًا.
أطلق الرجل أنينًا خافتًا ورفع رأسه ناظرًا إلى شارتوس.
“كلّ المخطط، تقول؟”
“لقد بدأنا نخطط منذ خمس سنوات، وجنّدنا الرجال…”
قطّب هوستانغ حاجبيه، فسارع الرجل لتصحيح نبرته.
كانت قبضةٌ واحدة على صدغه كافية لتذكيره بأنّ أيّ خطأٍ سيكلّفه غاليًا.
أما ولاؤه لسيّده، فقد تلاشى منذ زمن تحت وطأة قسوته.
كان لا يزال يحتفظ ببعض الحنين لوطنه، لكنه كان يعلم أن الحرب ستفني الجميع، فلا معنى للوفاء بعد الآن.
كان المهم الآن هو تحميل الأمير الثاني المسؤولية كاملة.
تقلّصت عيناه، ثم بدأ يبوح بما في ذاكرته ببطء.
“إذًا، الخطّة كانت من جهة الأمير الثاني، والدولة لم تتدخّل رسميًّا؟”
“الأمير الثاني يخطط للإطاحة بوليّ العهد.”
“صراعٌ على الخلافة إذًا. وما الهدف الدقيق؟”
خفض الرجل رأسه.
الهدف الذي أُمر به هو قتل الأمير الثاني من كارتاجين، لا أكثر.
لم يكن مسموحًا له أن يقدّر أو يتجاوز أوامره، لكنه مع ذلك كوّن تخمينًا خاصًا.
ربما كان الأمر حقًّا صراعًا على الخلافة.
بلّل شفتيه الجافتين وقال ببطء:
“الأمر الذي تلقيته هو اغتيال شارتوس كارتاجين لا أكثر.”
“إذن فسّر لنا التفاصيل.”
جلس شارتوس إلى جانب روزنتين، ورفع ساقًا على الأخرى في جلسته المعتادة، تنبعث منها هيبة طاغية.
أن يخطط أميرٌ من دولةٍ أخرى لاغتيال أميرٍ إمبراطوري في صراعٍ على العرش… أمرٌ يبعث على الريبة حقًّا.
بدأت صورةٌ واضحة تتشكّل في ذهن روزنتين.
كانت تعرف أن شارتوس سيلتقط المعاني الخفية في كلام الجاسوس مهما حاول التلاعب.
ولم يكن أحدٌ في الغرفة يجهل ذلك.
لقب الفارس الذي لم يُهزم من كارتاجين لم يُمنح عبثًا.
لذلك صمت الجاسوس طويلاً، ثم أنهت روزنتين الحديث ببطءٍ مدروس:
“على الأقل لدينا محاولة تسميم، وجاسوسٌ آخر على الأرجح.
إن كنتَ من فيشتيان، فلا بد أن هناك من يعرف القصر من الداخل.”
كانت نبرتها ناعمة على نحوٍ مقلق.
تحرك شارتوس قليلاً، ثم عاد السكون يخيّم على المكان.
وفي هذا الصمت الثقيل، انحنى الرجل حتى لامس جبينه الأرض.
وفي النهاية، لم يخرج من فمه سوى الحقيقة التي أرادوا سماعها، من هو المحرّك الحقيقي وراء كلّ هذا.
شعر ببرودةٍ تقشعرّ لها عظامه، إذ أدرك أنه كان يُحرّك كالدمية بين أصابعهم منذ البداية.
منذ متى؟ لا يدري.
لكنّه اضطرّ للاعتراف أخيرًا: حتى آخر ورقةٍ له كُشفَت على يد فرد من كارتاجين.
‘لا.’
مع هذه الفكرة، رفع الرجل نظره الكئيب نحو المرأة التي أمامه. خادمة الأمير الثاني الخاصة. المرأة التي كان كل ما في القصر الإمبراطوري يتحرك وفق ما يدور في رأسها.
من أين ظهرت؟ ومتى بدأت تلاحظ المؤامرة؟
نظرات الرجل التي أظهرت أفكاره بوضوح قُطعت حين نهض شارتوس واقفًا ليحجبها عنه.
التعليقات لهذا الفصل " 50"