كان النقش المحفور على عنق الرجل بالفعل شعار مملكة فيشتيان، لكن ذلك كان يُعدّ سرًّا بالغ الأهمية. فأيّ مملكة في العالم تُرسل جواسيسها إلى بلادٍ أخرى وهي تضع شعارها الوطني على أجسادهم؟
غير أنّ هناك شيئًا واحدًا لم يكونوا على علم به.
رفع لوسين كتفيه باستهزاء، ثم كشف عن كتفه مبرزًا نقشًا صغيرًا محفورًا عليه.
“ما زالوا يستخدمون هذا الشعار، على ما يبدو. أما أنا، فقد نُقش عليّ منذ صغري.”
اتّسعت عينا الرجل دهشةً، بينما واصل شارتوس الحديث وهو يميل برأسه قليلاً.
“قلتَ إنك تحتفظ به كوسامٍ على نجاتك… والآن ها هو ينفعك بهذه الطريقة.”
ابتسم لوسين بسخرية خافتة:
“كان في الماضي وسمًا على عبيدٍ أُسروا… لكنه تحوّل لاحقًا إلى شعارٍ لمنظمة سرّية.”
كان الوسم على كتف لوسين يبدو مشوّهًا كأنه أثرُ حرقٍ بالنار — وذلك طبيعي، فهو بالفعل ندبةٌ من كَيٍّ بالنار.
حوّلت روزنتين نظرها عن كتفه وحدّقت في الرجل أمامها. كان هذا الشكّ يلازمها منذ زمنٍ طويل، منذ اللحظة التي أخبرها فيها لوسين بقصّته. فتذكّرت حديثه المتردّد في الرواق في ذلك اليوم.
‘شكرًا لكِ.’
قالها حين طلب منها أن تُقدّم المساعدة لأحياء الفقراء. كان يسير خلفها بهدوءٍ دون أن يتقدّم خطوة.
عرفت روزنتين غريزيًا أنّه بحاجةٍ إلى الوقت، فتابعت السير صامتة.
كان الرواق الطويل يمنح إحساسًا غريبًا بالسكينة. ثم سمعت صوته الهادئ من خلفها، يروي لها عن طفولته مع شارتوس.
‘قد لا يبدو مهمًا، لكنني من حيّ فقراء.’
توقّفت روزنتين فجأة، فاقترب لوسين منها حتى صار على مقربة منها، وعيناه بلون المستنقع تلمعان تحت الضوء الخافت. كانت قد رأت تلك النظرة فيه من قبل — مزيجًا من الحزن والسكينة.
وبينما كانت تحدّق في تلك العينين، أدركت أخيرًا ما انتبهت إليه خلال حفلة أفينتوا. لم يكن لوسين من النبلاء، بل لم يكن ينتمي إلى القصر الإمبراطوري أصلاً. لولا شارتوس لما كان هنا أبدًا.
‘هذه العينان… يُطلق عليها بين الفقراء لون النحس.’
ارتسمت على وجهه الرقيق ابتسامةٌ حزينة. تذكّرت روزنتين أنها قرأت عن ذلك من قبل، عندما علمت أنها تُصنّف كـساحرة، بدأت تتعمّق في كل الكتب التي تتناول تلك الأمور.
صحيح أنّها مجرد شائعات، لكن كل شائعةٍ بالنسبة إلى أحدهم هي حقيقة.
تطلّع لوسين أمامه بعينيه الخضراوتين القاتمتين، كأنه يستحضر ذكرى بعيدة، وابتسم ابتسامةً غامضة. ثم بدأ يروي قصّته ببطء.
‘ورثت هذا اللون عن والدتي. كما تعلمين، كارتاجين تُبدي حساسيةً مفرطة تجاه السحر، وكلما كنتِ تنتمين إلى الطبقات الأدنى، ازداد كرههم له.’
‘السحر…’
ردّدت روزنتين الكلمة متفاجئة، وسارت بجانبه مجددًا. ضحك لوسين بخفةٍ.
‘كانت أمي امرأة جوّالة. دخلت إلى حيّ الفقراء وهي تبحث عن مأوى بعد أن حملت بي. ساعدها بعض الناس بدافع الشفقة، وكانت تحاول تربيتي بينهم، لكن من الصعب العيش قرب العاصمة بعينين كهاتين.’
أصغت روزنتين بصمت. فكرة أنّه من أصلٍ فقير — مثل آرون — كانت كافية لتجعلها تتريّث. لم يكن في الرواق سوى صوت خطواتهما وصوت لوسين العميق المليء بالهدوء.
‘وحين بدأت المشي قليلاً، أخذتني أمي وغادرنا حيّ الفقراء. كانت تؤمن أنّ وراء البحر، في مملكة فيشتيان، لن يتعرّض السحرة للتمييز، وأن هناك الأمل. لكنّنا لم نملك مالاً كافيًا لركوب السفينة…’
سكت قليلاً، فتصوّرت روزنتين أمّه — لا بدّ أنّها كانت جميلة تشبهه، ذات عيونٍ خضراء قاتمة، وملامح حزينة. ماذا كانت امرأةٍ كهذه يمكنها أن تفعل لتعيش وهي تعيل طفلاً؟
لمحَت في ملامحه صورةَ الطفل الذي كانه. وتابع بصوتٍ متزنٍ كأنه يحكي قصة عادية.
‘صعدنا على سفينة تنقل العبيد.’
‘العبيد؟’
‘نعم. كانت متجهة إلى فيشتيان. كانت تمارس أعمالاً غير قانونية، لكن لم تكن تفتقر أبدًا إلى الركّاب، فالجوع في حدود الإمبراطورية كان فظيعًا.’
مرّت أطيافٌ باهتة حوله كأشباح، لا صوت لها. بدا لوسين كأنه يتلاشى في ذكرياته، يغيب في الزحام. وسط تلك الأطياف، برزت صورةُ امرأة ذات شعر طويل أسود.
كانت فيشتيان بلد يشرّع نظام العبودية. يختلف عن كارتاجين، لكنّه نظامٌ قائم. لذلك ربما رأت أمّه أنّ مصير العبيد هناك أهون من مصير السحرة في الإمبراطورية.
“تعرّضنا للوسم.”
كشف كتفه ببطء أمام روزنتين، مُظهرًا النقش القديم — عصًا سوداء تعبر خطًّا مائلاً. كان أثرًا باهتًا من الماضي، لكنه ما زال واضحًا.
‘ثم لم يعد هناك مكانٌ لنا على السفينة. كان القرويون في الميناء خائفين من السحرة. وهناك رجلٌ صاح: تلك العيون نذيرُ شؤم!’
لم تكن مناطق كثيرة تؤمن بأنّ العيون الخضراء نذيرٌ مشؤوم، لكنّ الحظ لم يحالفهم. وماتت أمّه بسبب ذلك الخوف. وجاء دوره بعد قليل.
لم يمدّ له الوطن يدَ العون. وما حمله الطفل في صدره لم يكن سوى برودة الكراهية. لكن، كأنّ القدر قرّر المزاح، ظهر الأمير الإمبراطوري في تلك اللحظة.
ذئب الأسطورة، أو لنقل النور النازل من السماء. تذكّر لوسين تلك المعجزة بابتسامةٍ باهتة. كائنٌ نبيل هبط كالشيطان وأنقذه، وطرد كلّ من اعتدى عليه.
من دون أن يرفع صوته، جعل الناس يخضعون بنظرةٍ واحدة. صوته البارد الجليدي وسيفه المسلول أرعبا الجميع.
حين صرخ أحدهم:
“هذا الطفل ابنُ ساحرة!”
أجابه شارتوس بصوتٍ أشدّ برودةً من الثلج
“أثبِتْ ذلك.”
ضحك لوسين بخفة.
” كانت جملةً واحدة، لكنها جعلت الجميع يصمتون. لم يكن أحدٌ قادرًا على الردّ، وأنا كنتُ أبكي بنصف وعي، و وجهي مليء بالكدمات.”
حتى لو كان قادرًا على استخدام السحر، لم يكن ليستعمله في تلك اللحظة. كان واضحًا أنّ شارتوس قرّر إنقاذه من البداية، بغضّ النظر عمّا يكون.
“رفع سيفه الحقيقي — لا سيفًا احتفاليًا — وصوّبه نحو عنقي. ثم سألني.
ما اسمك؟”
كانت نبرته مهيبة رغم صغر سنّه. كان مولودًا ليكون سيّدًا، ولم يبدُ عليه أيّ قلقٍ من حجمه الصغير.
ركع الجميع من حوله، فأجبتُ، ووضع السيف على كتفي.
لم يهمس أحد. الصمت عمّ المكان، والهواء كان متجمّدًا كالغضب المتحجّر.
سألني الأمير الشاب إن كنتُ أرغب في أن أصبح تابعه.
كان الفجر يغمره ضبابٌ رماديّ ورائحة دمٍ خفيفة.
وأيًّا كان من يكون، وفي أيّ زمان، كان لوسين آينا ليجيب: نعم.
وهكذا أصبح مستشار الإمبراطورية.
‘ما زلتَ كما كنتَ إذًا.’
‘نعم. سيدي كان — وما زال — سيدي منذ تلك اللحظة.’
ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ دافئة تخالطها ذكريات الماضي.
كان قد عاش طفولته ضائعًا، ثم تمسّك بالحاضر أخيرًا.
وعندما تحدثت روزنتين عن حيّ الفقراء، شعر لوسين وكأنها أعادت إليه جزءًا من ذاته التي حبسها طويلاً داخل أعماقه.
كان الأمر صادمًا له — وكأن الضوء اخترق ظلامه فجأة.
حياة النبلاء غريبةٌ حقًا، وقد اضطرّ دائمًا إلى الدراسة والاجتهاد كي لا يشكّل أصله عبئًا على شارتوس.
الدم الوضيع الذي احتواه جسدُ تابعٍ لسيدٍ عظيم.
ورغم أن أصله ظلّ سرًّا مطويًّا، إلا أنّ القلق ظلّ يطارده كظلّه. حاول نسيانه، لكنه لم يستطع. حتى التظاهر بالتجاهل كان أمرًا مؤلمًا وشاقًّا.
“لا يمكنني إنكار أن موطني هو تلك الشوارع.”
“ما كنتُ أهتمّ به حقًّا هو طفل واحد رأيتُه هناك، وفي الوقت ذاته، رأيتُ النور في كلّ طفل وُلِد وسينشأ في تلك الشوارع.”
توقّف لوسين عن السير.
وتوقّفت روزنتين هي الأخرى، وقد أسَرها نظره.
تأمّلها لبرهة، ثم رفع بصره نحو الفراغ قبل أن يعيده إليها مراتٍ عدّة.
كانت نظرته كما لو أنّه يرى شيئًا لا يمكن لمسه، شيئًا يشبه محاولة الإمساك بندى الصباح.
مدّ لوسين يده ببطء وأمسك بأطراف أصابع روزنتين، ثم انحنى بأدبٍ بالغ ليقبّل ظهر كفّها.
“شكرًا لكِ. أظنّ أنّني الآن فقط أستطيع أن ألتفت قليلاً إلى ماضيّ.”
نظرت إليه روزنتين بنظرة حادّة وواضحة، بينما أطلق لوسين تنهيدة إعجاب خافتة في نفسه، وابتسم ابتسامة لم تُخفِ السرور المتسرّب من وراء رهافته.
لم يكن السبب في تذكّره لأول مرةٍ التقى فيها بشارتوس شيئًا آخر، بل لأنّه وجد بينهما شبهًا.
لقد رآهما متشابهين — تلك الساحرة الصغيرة التي تقف أمامه الآن منتصبة الجسد، وتلك اللحظة التي التقى فيها بسيده حينذاك.
ذئبٌ من الأساطير، أو ربما نورٌ نزل من السماء.
فكرة عاطفية إلى حدٍّ مبالغ فيه، لكنه لم يستطع أن يراها بغير ذلك.
على الأقل بالنسبة له، فقد كانا يشعّان بذلك الضوء حقًّا.
“أتظنّ أن لديك بعد الآن مكانًا آخر للهروب؟”
قالت روزنتين ببرود في غرفة مظلمة، موجهة كلماتها إلى الجاسوس والقاتل في آن واحد.
كانت نبرتها تحمل شيئًا من السخرية؛ فبعد كلّ ما عانته بسببه، لم يكن ممكنًا أن تتحدث بلطف.
كم من الجهد بذلته كي لا تشكّ في فيشتيان، وكم من الحيل نسجتها كي تربط الأدلة المتناثرة التي قادتها إليه في النهاية.
نقر الرجل بلسانه غيظًا، لكنه لم يستطع مقاومة نزع سلاحه.
كان ذهنه يدور بسرعة محاولاً كسب الوقت بالكلام.
“كيف بحقّ السماء…؟”
“الشيء الوحيد الذي سأخبرك به هو أنّ طريقة موتك ستعتمد على ما إذا كنتَ ستبوح بالباقي أم لا.”
قالت روزنتين بحزمٍ شديد.
كانت تتحكّم في مجرى الحديث، وتفرض على الجاسوس قرارًا مصيريًّا ضمن حدود المعلومات التي سمحت له بها.
لم يهمّها كم سيطيل في المماطلة، فمهما يكن، فإنّ قتله لن يتطلب أكثر من ضربةٍ واحدة.
لكن بعد ثلاث سنواتٍ قضاها جاسوسًا لدولةٍ أخرى، فلا شكّ أن لديه معلوماتٍ تستحقّ أن تُنتزع منه قبل موته.
صحيحٌ أنّ فيشتيان كانت تُضمر عداءً خفيًّا للإمبراطورية، لكنها لم تجرؤ على حدّ الظنّ أن تصل بها الجرأة إلى محاولة اغتيال الأمير نفسه.
لذلك كان لابدّ من معرفة تفاصيل أكثر.
“يبدو أنّ خادمتنا الموقّرة كانت تعلم كلّ شيء منذ البداية، أليس كذلك؟”
التعليقات لهذا الفصل " 49"