حتى خلال الانتظار، لم يبعد شارتوس نظره عنها. تلك العيون التي تبحث دائمًا عن ما وراء الظاهر في اللحظات الحاسمة.
كلك!
صدر صوتٌ خافت. رفع هوستانغ رأسه.
“هل تمّ الأمر؟”
“واحد!”
صرخت روزنتين فجأة.
الناتئ الذي تحسّسته بأطراف أصابعها كان مستقيمًا —
بقي موضعٌ أخير فقط، والكمية المتبقية من النبيذ لن تمنحهم حتى دقيقة واحدة.
حين يبدأ الدواء بالتسرّب، ستتهيّأ الآلية لإطلاق السمّ.
حدّق شارتوس بالكأس بتركيز حاد، مستعدًّا لإيقاف العملية في أي لحظة.
“أبعدوه.”
قالها بسرعة حاسمة.
أومأ لوسين وهوستانغ وبدآ بالتحرّك لإبعاد النبيذ.
لم تكن يد روان وحدها في الداخل — بل يد شارتوس أيضًا.
طالما أن سيدهم أدخل يده، فأولوية الجميع لم تعد الحصول على الدواء، بل حماية الأمير أولاً.
مهما كانوا قد عانوا في سبيل الحصول على هذه الخزانة، فحياة الأمير أسمى من حياة ولي العهد نفسه.
“انتظروا لحظة.”
أوقفتهم روزنتين.
مدّت يدها ولمست حافة الموضع الأخير.
رفع شارتوس يده الحرة ليمنع لوسين وهوستانغ من التدخّل.
ورغم عضّه على أسنانه، أطاع لوسين الأمر.
في تلك اللحظة، أدارت روزنتين الترس.
‘الآن… أظهِر نفسك!’
دعاءٌ خافت خرج من أعماقها.
كانت هذه مغامرة، لكنها لم تكن تُفكّر بالموت أبدًا.
صدر صوت احتكاكٍ خافت بينما دار الترس ببطءٍ غير مستقر.
كان الفراغ ضيّقًا، لكنها ضغطت بيديها وفتحت الطريق لتلمس الداخل.
وجدت نتوءًا ذا شكلٍ صليبيّ، الموضع الذي توجد فيه الإبر السامّة.
“إنه هنا!”
“لقد امتلأ الكأس بالنبيذ. الدواء بدأ ينتشر!”
كانت لحظة حاسمة على وشك الانفجار. كان الدواء قد بدأ فعلاً بالانتشار. سمعت روزنتين صوتًا غريبًا. من داخل الخزانة الملاصقة لأذنها، دوّى صوت آلة أخرى تعمل — كانت تلك الإبر السامّة. شعرت بذلك غريزيًّا، ورفعت يدها لتحطّم الموضع الذي استهدفته. لكنها لم تكن تعرف إن كان الوقت سيسعفها أم لا.
“ابتعدي.”
تحرّك شارتوس في تلك اللحظة. تحرّك بسرعة لم تُرَ بالعين، فسحب ذراع روزنتين أولاً. وفي اللحظة نفسها، امتدّت يده إلى الفراغ الذي خرجت منه يدها وأعمل قوّته فيه. سُمِع صوتُ تحطّم حادّ يتبعه صوت سقوط شيء ما. حاولت أن تمنعه بدهشة، لكن حين استوعبت ما جرى، كان كلّ شيء قد انتهى.
حين سحب شارتوس يده، كان يمسك في قبضته جزءًا من الآلة. كان تمامًا ما رأته روزنتين في المخطّط.
طَك!
تراخت أنفاسها فجأة. أحسّت أن جسدها المشدود توتّرًا قد انحلّ بألم. وبغير قصد، أسندت رأسها على كتف شارتوس.
كانت ذراعها تؤلمها قليلاً بعد أن سُحبت بقوّة، لكنّها أدركت. لو لم يوقف الإبر السامّة في تلك اللحظة، لكان شارتوس هو من أصيب بدلاً منها بعد أن أخرجت يدها.
حقًا… كان الوضع مقلوبًا رأسًا على عقب.
“لقد أفزعتني حقًا.”
“أليس الأجدر أن أُمدَح على صبري حتى تلك اللحظة؟”
“إذا أُشهر السيف، فلا بد أن يقطع شيئًا، أليس كذلك؟”
“كأنكِ محاربة.”
“فلنقل إذن إنني إن مسستُ شيئًا، فعليّ أن أترك عليه لعنة قبل أن أخرج.”
حين رفعت رأسها عن كتفه ونظرت إليه، كان شارتوس يبتسم برضا واضح. بل حتى وضع يده على مؤخرة رأسها وضغطها قليلاً لتعود إلى كتفه. زفرت روزنتين تنهيدة طويلة، لم يكن لديها طاقة ولا رغبة لتُبعد نفسها عنه. كان كتفه الصلب مكانًا مريحًا لترك رأسها عليه.
“تتبادلان المزاح وتتركاننا نحن الذين احترقت أعصابنا قلقًا!”
“هاها! كنت أعلم أنكم ستنجحون. هل هناك شيء يعجز سموّك عنه؟!”
شعرت روزنتين وكأنها تنظر إلى مثالٍ حيّ على الضعف والبساطة في شخصَيهما. ارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ خفيفة وهي تسمع صوت هوستانغ الجهوري. كان للضجيج الذي تلا النجاح طعمُ احتفال مبهج.
رفع شارتوس يده عن رأسها وربّت على كتفها. في الحقيقة، لولا وجوده لكانت المهمة أصعب بكثير.
“هل نرفع كأس النخب مجددًا؟”
هزّ هوستانغ زجاجة النبيذ التي بيده، فاهتزّ السائل في داخلها. حدّق لوسين إليه، أو بالأحرى إلى الزجاجة ذاتها، بنظرة قاتمة. كان السائل الداكن في الزجاجة الخضراء يبدو أسود تقريبًا.
“لو بيدي، لألقيتُ بهذه الزجاجة من أعلى قصر الإمبراطورية.”
“ها… ها… لوسين، عيناك مخيفتان الآن.”
ألقى شارتوس نظرةً على الجزء الميكانيكي الذي أمسكه بيده. كان قد كسره على الفور، والآن تتساقط قطعٌ معدنية صدئة مع شظايا خشب على الأرض.
“يبدو أن استخدام هذا الدواء أصبح صعبًا قليلًا الآن.”
كانت بعض قطع الخشب جزءًا من العمود الذي أمسكه قبل قليل. وبما أن الكأس لا يتحرّك إلا عبر تلك الآلية، فإن تحطّمها يعني أن عاج مورَا الأسطوري أصبح نصف خرافة فقط. قلّب شارتوس البقايا بأصابعه قليلا، ثم تركها تسقط على الأرض.
“إذن، سيكون هذا آخر الأساطير.”
اقتربت روزنتين من الخزانة، وألقت نظرة على عاج مورا الذي أخرجوه. داخل الكأس الذي مُسح للتوّ، كان النبيذ يتلألأ بهدوء كأنه لا يدري ما حدث. لونه مال إلى الخضرة قليلًا. لا شك بسبب اختلاط ترياق مورا به.
“هل سيكون فعّالًا؟”
“لن نعرف حتى نجرّبه.”
قال شارتوس بلهجة باردة، فأومأت روزنتين بدورها. قيل إن فيه سمًّا، لكن أسطورة الشفاء كانت ترافقه دومًا.
مرّت أصابع روزنتين بخفّة على حافة الكأس. لم تُجهد نفسها بكلّ هذا فقط لأن شارتوس أراده.
صحيح أنه إن مات وليّ العهد ستعمّ الفوضى لفترة قصيرة قبل أن يعتلي شارتوس العرش، وهو ما كان يصبّ في مصلحتها ويجعلها أكثر أمانًا.
لكن لو لم تكتشف هي هذه الطريقة، لكان شارتوس سيقدّم الدواء لوليّ العهد ويموت هو نفسه بعد ذلك.
‘إذن، ما الفائدة التي سيجنيها من ذلك؟’
خطر ببالها احتمال. رمقت شارتوس بطرف عينها.
لو كان وليّ العهد هو الفاعل حقًا، فبعد أن يتكبّد شارتوس كلّ هذا العناء في الحصول على الدواء، سيموت بطريقة نظيفة لا تُثير الشكوك.
هل يمكن أن يكون الأمر كذلك فعلاً؟
كان من السهل الشكّ في وليّ العهد. فالحفلة التي حضرها الجميع سواه، والفخّ المزروع في شيءٍ أُعِدّ خصيصًا له، بدا كأن شخصًا ما أراد بوضوح أن يُوجّه أصابع الاتهام نحوه.
صحيح أن معرفة الخطة بالكامل وحدها كانت كفيلة بكشف علاقته بها، لكن رؤية ذاك الطرف الذي يقطع ذيله في كلّ مرة كانت تثير في نفسها ريبة يصعب تجاهلها.
‘ربما يكون وليّ العهد إِسوار حقًّا هو من يقف خلف هذا.’
إن صحّ ذلك، فعلى شارتوس أن يقرّر بنفسه كيف سيتصرّف.
لكن روزنتين لم تكن تُحبّ أن تشعر وكأنها تتحرّك وفق إرادة شخص ما من خلف الستار.
ولذلك، لم تُنقِذ شارتوس فحسب، بل حصلت أيضًا على دواء الأسطورة الذي لطالما كان يسعى إليه.
انعكس وجه روزنتين على سطح النبيذ الأحمر، ثم ظهر خلفها وجه شارتوس. فتحت شفتيها وقالت:
“وهل سيُرسل هذا الآن إلى سموّ وليّ العهد؟”
“لقد صُنع لأجل ذلك بالضبط.”
“الذي قدّمه لسموّك هو هيرمان، والمستلم سيكون وليّ العهد نفسه، أليس كذلك؟”
“هيرمان شخصٌ مفرط في التخطيط، لا يمكنه أن يُدبّر اغتيالاً بهذه الطريقة.”
“وماذا عن سموّ وليّ العهد؟”
كانت تسأله عن وليّ العهد إسوار كارتاجين. كانت قد رأته من بعيد في السابق، لكن منذ أن مرض ولزم الفراش لم ترَ وجهه قطّ.
ومع ذلك، كانت تعرف من الشائعات ذكاءه ودماثة خلقه. قيل إنّه حتى أثناء مرضه، واصل دراسة السياسة، وإنه لطيف مع من حوله.
“لا أدري…”
أغلق شارتوس عينيه ببطء ثم فتحهما من جديد، وفي عينيه الزرقاوتين الخافتتين انعكست صورة روزنتين. وبعد لحظة من التحديق فيها، ضحك ضحكة قصيرة كأن فكرة طريفة خطرت بباله.
“ربما من الأفضل أن تريه بنفسك. أليست عينا الساحرة أدقّ من غيرها في الحكم؟”
“هاه؟”
مرةً أخرى، ارتجالٌ مفاجئ. تبادلت روزنتين نظرات مذهولة مع لوسين وهوستانغ، وفكّرت بيأس:
لا بدّ أن وجهي يبدو غبيًّا مثل وجه هوستانغ الآن.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
التعليقات لهذا الفصل " 40"