بعض الوثائق ذكرت شفاء المرضى، بينما لم تذكر أخرى أي شيءٍ من هذا، بل تحدّثت فقط عن أنّ من أحضر الخزانة أُعدم بتهمة الخيانة.
ولأنّها لم تُذكر إلا مراتٍ نادرة، كانت الموادّ عنها قليلة.
لكنّ شيئًا واحدًا كانت روزنتين تعرفه.
“طريقة الاستخدام الصحيحة.”
فمن يعرف كيف تعمل الآلية، يمكنه أيضًا أن يبتكر طريقة لاستخدامها.
كانت خزانة عاج مورا تبدو كخزانة عادية، غير أنّ كل آلياتها كانت مضمّنة في الجزء السفلي — في الموضع الذي لا تُحفظ فيه الأشياء عادة.
فإذا ما أدخل أحدهم يده في جذر الكرمة، أمكنه تحريك الكأس الكبيرة المنقوشة في منتصف قاعدة الخزانة.
وعند صبّ سائل داخل الكأس، تتحرك الآلية بفعل كتلة السائل، فتُطلِق مادة علاجية في النبيذ.
غير أنّه في اللحظة التي ينتشر فيها الدواء في النبيذ، تمرّ إبرةٌ سامةٌ فوق اليد الموضوعة داخله.
لم يكن أحد يعلم مدى سُمِّيّتها، ولا إن كان لها ترياقٌ أصلاً.
وإن كان السمّ قاتلاً في ثوان معدودة، فلن يجدي نفعًا تقديم الترياق كحل.
نظرت روزنتين إلى شارتوس.
كان وجهه، الذي بدا الآن أكثر إنسانيةً من قبل، أكثر سحرًا بفضل تلك الحيوية التي أضفاها عليه، الأمر الذي أثار فيها ارتباكًا خفيفًا، لكنها لم تحِد بنظرها عنه، بل تلقّت نظراته كلّها.
كان شارتوس متكئًا جانب خزانة العاج، وذراعاه متشابكتان وهو ينظر إليها من علٍ.
خصلات شعره الفضية انعكست فوق العاج، كما لو أنّها جزءٌ من تصميمه الأصلي.
“أسلوبكِ…”
“…”
“أظنّني بدأتُ أفهمه.”
نطق شارتوس ببطء، بكلمات غامضة بعد لحظة صمت طويلة كان خلالها غارقًا في التفكير وهو يحدّق فيها بثبات.
شعرت روزنتين بأنّ عينيه تلمعان بحرارة لم ترَها من قبل.
تلك النظرة لم تكن هي نفسها التي رأتها منه حين قبض على جاسوس أو حين استأجرها.
عيناه كانتا تذكّرانها بجليد نادر في مكان لا تطأه الأقدام، لامعتين كالجواهر.
ركّزت روزنتين في ذلك الوميض الخافت الذي تراقص داخل بريق عينيه، وأحسّت بأنّ يدها الملامسة للعاج أخذت تسخن شيئًا فشيئًا.
وفي النهاية، عرفت الكلمة الأقرب لوصف ما رأت في تلك النظرة:
غضب.
‘ولِمَ؟’
لم تفهم السبب، لكنّ شارتوس اقترب منها بخطواتٍ بطيئة حتى وقف أمامها.
امتدّت يده ببطءٍ لتلمس وجهها، ثم وضع أصابعه عند أسفل ذقنها ورفعها برفقٍ نحو الأعلى، لتلتقي عيناهما مباشرة.
شعرت بقشعريرةٍ تسري في جسدها.
“قولي لي… أهو أمرٌ تُخاطرين بحياتكِ من أجله أيضًا؟”
خدش صوته العميق الهواء بنغمة منخفضة.
كان صوته يشبه ذاك الذي يستخدمه لتهديد الجواسيس، لكن نبرته هذه المرّة حملت شيئًا مختلفًا — دفئًا خفيًّا امتزج بانفعالٍ غامضٍ جعل صدر روزنتين يرتجّ من الاضطراب.
تسلّل البرد إلى عمودها الفقري، وأحسّت بإحساسٍ غريب.
أطبقت شفتيها مرتبكة، غير قادرة على الكلام.
لقد خيّم الصمت.
لم تكن تستطيع النفي او الايجاب، فكلتا الإجابتين بدتا ناقصتين.
اكتفت بالرمش وهي تحدّق فيه، فابتسم شارتوس ابتسامةً قصيرةً خافتة.
“يبدو أنّ الإجابة نعم.”
“……لا أعني أنني أريد أن أموت تمامًا.”
خَفَت صوت روزنتين شيئًا فشيئًا.
ورغم أنّها لم ترَ كلامها عذرًا واهيًا، إلا أنّ نظرات شارتوس الحازمة جعلتها تشعر وكأنّها ترتكب خطأً ما.
أخذت تراجع كلماتها واحدة تلو الأخرى.
لقد قالت إنّها لن تُحطّم الخزانة الجميلة تلك، وإنّها لن تُتلف الدواء الذي سيصل إلى وليّ العهد.
فلمَ إذًا تشعر بالذنب؟
رفعت بصرها من جديد لتجد شارتوس ما زال ينظر إليها بثبات.
“هل لديكِ ما تقولينه؟”
“ما أودّ قوله…”
رفع شارتوس حاجبه الأيسر قليلًا.
كان وسيمًا إلى حدٍّ يخطف الأنفاس، غير أنّ روزنتين، وهي تحدّق فيه، التزمت الصمت تمامًا بعد سؤاله الأخير.
كانت عيناها الزرقاوتان تقولان بوضوح إنها لا تفهم.
شارتوس بدوره نظر إليها صامتًا، وراح حاجباه ينقبضان ببطء.
كان نادرًا أن يُفتح فمه ويُغلق، لكن حتى في ذلك بدا عليه الاضطراب الطفيف.
هذه المرة، كانت روزنتين هي من رفعت حاجبيها.
‘انظر إليه، هو نفسه لا يعرف ما يقول.’
ذلك ما خطر في بالها.
“… أليس هذا خطرًا؟”
قال شارتوس بعد صمتٍ طويل، كأن لا حيلة له سوى التفوّه بتلك الكلمات.
كان جوابه بعيدًا عن توقّعاتها بُعد الأرض عن الشمس.
فيما رمشت هي مرة، مرتين، بقي هو صامتًا.
نظر إليها بعينين أقلّ حرارة من قبل، وما زال حاجباه متجهمين بخفّة.
ولأنها نسخت تعبيره دون وعي، عقدت روزنتين حاجبيها أيضًا وأمالت رأسها باستغراب.
“لكنّ سموك في وضع خطر أيضًا.”
كادت تقول: ‘أنا أريد إنقاذ أخيك، فلماذا تتصرّف هكذا؟’ لكنها أمسكت لسانها في اللحظة الأخيرة.
حين بدأت موجة التوتّر تخفّ عنها، صارت يدُه الممسكة بذقنها تُزعجها بشدّة، وكذلك قربه منها.
لكنها لم تشأ أن تقول ذلك، لأنّها كانت واثقة أنه إن شعر بانزعاجها فسيتحوّل الموقف في لحظة إلى مجالٍ للسخرية منها.
مهما بدا الآن متجهّمًا وغير راضٍ، إلا أنه من النوع الذي يستغلّ الموقف.
لذا، بدلًا من التراجع، تقدّمت هي خطوةً نحوه، تقلّصت المسافة بينهما.
لم تستطع أن تفهم أبدًا ما يدور في رأسه، بينما هو ينظر إليها بوجه هادئ غير متأثر.
“لكن… أنت لا تعرف الطريقة!”
“يمكنك أن تعلّميني، أليس كذلك؟ أنتِ أيضًا لم تستخدمي هذه الآلية من قبل، فلا فرق من يقوم بالتنفيذ ما دام يعرف الخطوات.”
“لكن إن حدث خطأ…”
“إن حدث خطأٌ ومات أحدنا، فسواء كنتِ أنتِ أم أنا، فالمصير واحد.”
ما لم يكن الحديث عن العيش ثانية واحدة أكثر، فالأمر فعلاً كذلك.
صحيح أن موتها يعني أن الأمير سيواجه تهديد التسمم القادم ويموت هو الآخر،
لكنها فكّرت أنه إن نجحا في تعطيل فخّ الخزانة الآن، فلن يتبقّى سوى محاولة تسميمٍ واحدة.
ربما كان تفكيرها خاطئاً.
ربما هذا الأمير ببساطة لا يهتمّ بالموت أصلًا.
ولو كان كذلك لما استأجرها من البداية، لكنها لم تكن متأكدة بعد.
“لم يسبق لي أن فشلت في استخدام أداة بعد أن عرفت طريقتها.”
قال شارتوس بابتسامة خفيفة على شفتيه.
ضحكت روزنتين بخفّة متوترة.
نعم، ربما كان هذا صحيحًا — فسمعته كفارسٍ لا يُهزم كانت تدعم قوله تمامًا.
لم تكن تدري إن كانت تلك البراعة تمتدّ إلى جميع الأدوات أيضًا، لكنها كانت واثقة أن قدرته على الحكم والفهم لم تكن شيئًا يُستهان به، ومع هذا الإصرار من صاحب العمل، لم يكن يسهل عليها أن ترفض الأمر بشكل قاطع.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
التعليقات لهذا الفصل " 38"