تأمّلت بدقّة كلّ تفصيل من النقوش الدقيقة التي بدت تنبض بالحياة.
أغمضت عينيها قليلاً وهي تلمسها بأطراف أصابعها، محاولةً أن تشعر بروح الفنّ الكامنة فيها.
لم تستطع أن تتخيّل مقدار الجهد والاستعداد الذي بذله الأمير ليحصل على قطعةٍ كهذه، خرجت من رحم الأسطورة.
وحين كان الجميع مأخوذين بجلال العاج، فتحت روزنتين عينيها ببطء وتكلّمت:
“فيها فخّان.”
“تبدئين مباشرةً في الشرح إذًا.”
أومأت روزنتين برأسها.
ورأت أنّ الوقت قد حان لتُفصح عمّا تعرفه واحدًا تلو الآخر.
فقطعة عاج مورَا كانت تمنحها طاقةً تكفي لتُستخرج منها كلّ قدراتها.
أطال شارتوس النظر إلى وجهها — يخشى أن تُرهقها هذه المهمّة بعد انتهائها.
وأثناء انشغالها بالكلام، تذكّر صورتها في أزقّة الأحياء الفقيرة.
تحرّكت أصابعها على النّقوش كما لو أنّها تعزف لحنًا. كانت تلمس الجزء العلوي من الكأس وجذور كرمة خشبيّة متشابكة.
‘إنّ عاجَ مُورا مسروقٌ بالقوّة.’
هكذا قال الشبح الجامعُ. فتّحت روزنتين عينيها دهشةً. كان ذلك مختلفًا عمّا تعرفه من الأسطورة. فقصّتها كانت تدور حول جنودٍ شجعان أبحروا نحو أرض الآلهة.
وكأنّها أوديسا أخرى، فقد هزم أولئك المحاربون وحشًا ذا ثلاثمئة عينٍ يحرس العاج، ونالوا “عاجَ مُورا” مكافأةً لهم.
وقيل إنّ من يحدّق في عيني الوحش يُصاب بمرضٍ غريب، وإنّ هذا العاج هو الذي شفى المرضى من ذلك الدّاء.
‘……يمكن القول إنّه من وجهةُ نظر أخرى.’
‘عاجُ مُورا أقربُ إلى غنيمة تاريخيّة منه إلى أثر أسطوري.’
كانت الأسطورة تقول إنّها نتيجة حرب بين قبائلَ عاشت في أوروغا، ثمّ حُرّفت مع مرور الوقت حتّى صارت أشبه بخرافة مرويّة. أمّا حقيقتها فليست سوى صراع غزو واستيلاء.
مع اتّساع القبائل، بدأت أراضيها تتلاصق، ولا أحد يعلم لِمَ تحوّلت حكايةُ الصّحراء إلى حكايةِ بحر، لكنّ وصفها يدلّ على ذلك بوضوح.
‘ولهذا فهي ليست بركة خالصة.’
‘ماذا تعني؟’
‘إنّها فخّ. مقابل كلّ بعثٍ للحياة، موتٌ آخر. تلك هي حقيقة الأسطورة.’
أي إنّ اليد التي تُحرّكُ الخزانةَ لإطلاقِ قوّة الشّفاء، تُصاب بالسّمّ بدلاً من ذلك. كان كلامًا لا يُصدَّقُ بالنّسبة إلى روزنتين.
خطَر ببالها أنّ من خطّط لهذا كلّه لا بدّ أن يكون مهووسًا إلى حدٍّ يفوق التّدبير، أقربَ إلى مريضٍ نفسيٍّ منه إلى استراتيجيّ. هل يمكن عدّ هذا نوعًا من الاغتيال؟ لقد بدت لها طريقةُ قتل خارجة من قصصِ الأشباح.
استحضرت روزنتين ما ورد في الأسطورة عن “الطريقة الصحيحة للاستخدام”، وسألت:
“كم استغرق الحصول على هذه الخزانة؟”
“قرابة عامٍ ونصف.”
“وماذا تعلم عن طريقةِ استخدامها؟”
“تضع يدك في الجذر، وتسكب النبيذ فوق الكأس. عندها يمكن تشغيلُ الآليّة من الداخل، أو هكذا سمعنا.”
“وهل صدّقت ذلك؟”
“كانت الشّائعاتُ منتشرة، ولم يكن هناك خيارٌ آخر.”
ربّما كان شارتوس في وضعٍ يائسٍ حينها. رأت روزنتين الأمر أقربَ إلى محاولةِ اغتيال، فأومأت برأسها.
لقد كان ذلك الرّجل خبيرًا بشؤون القصر، ولو أنّه أشاع الشّائعة وجهّز الخزانة في الوقت نفسه، لكان الأمر ممكنًا جدًّا.
ما أغضبها أنّ هذا الرّجل هادئ المظهر قد استُغلَّ من حيثُ تعلّقه العاطفيّ بالأمر. خطَر ببالها أنّه، حتّى لو كان يعلم الحقيقة كلّها، لكان وقع في الفخّ على أيّ حال. غلَت الدّماء في صدرها، فقالت بأسلوب حاد كمن يعضّ كلماته:
“مقابل بعثٍ واحدٍ للحياة، موتٌ آخر.”
“ما الذي تقولينه؟”
“……أهذا هو الفخّ إذًا؟”
اقترب لوسين وراح ينظر إلى الخزانة بقلق. لم يكن بمقدوره، مهما شكّ، أن يكتشف ما في داخلها من آليّاتٍ خفيّة.
حفل الأميرة أفينتوا، وخزانةٌ مخصّصةٌ لوليّ العهد — كلّها أمورٌ لا يملك شارتوس إلّا أن يخوضها بنفسه. كان وجهُ هوستانغ قد تصلّب تمامًا.
وفي تناقضٍ صارخ مع اندفاعه السّابق، استلّ سيفه. دوّى صوتُ المعدن الحادّ في الغرفة العابقة برائحة عتيقة.
“سأقطعها.”
“لنحطّمها إذًا.”
هذه المرّة تقدّم الاثنان معًا. وافقت روزنتين على ذلك، غير أنّها التفتت نحو شارتوس قبل أن يُقدِما.
كان لا يزال ينظر إلى تابعيه الثلاثة الذين نهضوا دفاعًا عنه بوجهٍ لا يُقرأ، كما لو أنّه حتى في لحظة الموت سيبقى متماسكًا، في هيئة تامّة الكمال.
“……انتظر لحظة.”
لكنّ ما تغيّر هو أنّ روزنتين لم تكن تنوي التراجع بعد الآن. نظرت إليه بثبات، وابتسمت وهي تلتقي بنظراته.
إن كان هو مهووسًا، فهي تملك أدواتٍ تفوقه حيلةً — أشبهُ بورقةٍ رابحةٍ خارقة.
“ما دام بين أيدينا، فلنستفد منه.”
“أتستطيعين التخلّص منه؟”
“سأحاول.”
قالت روزنتين بحزمٍ، بصوت جعل الرّجلين ينزلا سيفيهما.
رمقها شارتوس بنظرة طويلة، وعلى وجهه الهادئ كالنّحت بدأت ترتسمُ حركةٌ خفيفة. كان فيها حياةٌ أجمل من حياةِ عاجِ مُورا ذاته.
“ماذا تعنين بالاستفادة؟”
“ألستَ ترغب في إنقاذِ سموّ وليّ العهد؟”
صمت شارتوس وهو يحدّق فيها.
من تلك النّظرة، أدركت روزنتين ضمنًا إقراره، فعادت لتضع كفّها على العاج مرّةً أخرى.
“سأجعلُه لا يفقد الأمل.”
لم يكن أحدٌ يعلم ما إذا كان عاجُ مُورا سيوفّرُ حقًّا قوّةَ الشّفاء التي تحكيها الأسطورة. حتّى الشبح الجامع نفسُه لم يكن يعلم.
فبحسب قوله، كانت السّجلات تذكر ضحايا القوّة أكثر ممّا تذكرُ من شُفوا بها.
إذ كانت بعض الوثائق تروي شفاءَ مرضى، في حين أنّ وثائقَ أخرى لم تذكر شيئًا من ذلك، بل تحدّثت فقط عن أنّ من جلب الخزانة أُعدم بتهمة الخيانة.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
التعليقات لهذا الفصل " 37"