روزنتين نظرت حولها ببطء، وقد بدت عليها علامات الرضا التام.
لم تكن بحاجة إلى التأكد بعينيها لتعلم أن جميع الأنظار كانت مسمّرة على تلك الجوهرة وحدها.
الآن، البداية الحقيقية قد حانت.
كانت تنوي أن تجعل كلّ من حضر هذا المكان يرغب في الحصول على ذلك البروش.
“إنّه جوهرٌ مميّز يا سيّدة أَرولنيه.”
“مميّز؟”
“نعم. إنّه جوهرٌ اختفى منذ نحو مئتي عام.”
اعتدلت روزنتين في جلستها، ورفعت ظهرها باستقامة.
وفجأةً، لفّها جوٌّ جاذبٌ للأنظار، لم يكن موجودًا قبل لحظات، وجعل الحاضرين يركّزون أنظارهم عليها.
أمالت روزنتين زاوية البروش قليلًا لتجعل الضوء ينعكس عليه بصورة أجمل، فتناثرت أشعّة النور في أرجاء المكان، وأطلقت بعض السيّدات القريبات منها صيحات إعجاب.
“يُقال إنّ معناه هو ‘البركة الأبدية’.”
“لم أسمع بمثل هذه الجوهرة من قبل.”
“ولا أنا، لقد قرأت قصّته مصادفة في أحد الكتب، وتدور حوله حكايةٌ جميلة.”
‘حسنًا، كيف سأعيد صياغة قصّة الجدّ الآن؟’
فكّرت روزنتين وهي تحرّك عينيها في تأمّلٍ خفيف.
الأساس موجود، وما تبقّى هو أن تنشد الحكاية كما لو كانت شاعرةً جوّالة لا تلقي خطبة.
ثم همست بصوت ناعم كأنّها تدندن:
“كان هناك منذ زمن بعيد نبيلٌ عظيم وزوجته الكريمة، ويُقال إنّهما كانا عاشقين منذ الطفولة.
لكن للأسف، كان ذلك النبيل الشهم يعاني من مرضٍ خطير.”
تعالت همهمات الأسف بين الحاضرين.
حبٌّ مأساويّ بين نبلاءٍ اعتادوا على زيجات المصلحة — إنّها رومانسية نادرة.
بدأت روزنتين تُرتّب في ذهنها ما يجب أن تحصده في هذه اللحظة: اهتمام الجميع بها، ثم إشعال تلك الشائعة التي على أَرولنيه مولد أن تُتقن إدارتها.
كان عليها أن ترفع من شأنها وفي الوقت ذاته تكسب ودّ السيّدات الأخريات اللواتي أردن الابتعاد عن صراعات الغيرة.
لذلك رأت أنّ هذه القصّة هي الأنسب تمامًا.
ولم تبتعد روايتها كثيرًا عن الأصل، سوى أنّها بدّلت اسم “أرجين” إلى “نبيلٍ مجهول الاسم”.
وربما، فقط ربما، سيتعرّف أحدهم إلى من تقصده القصّة في الحقيقة.
فكّرت روزنتين في ذلك، وإن حدث، فإنّ هذا “النبيل المجهول” سينال بعض الإنصاف في نظر البعض.
ورغم مرضه، فقد حقّق بطولاتٍ شجاعة كليثٍ في ساحة المعركة.
حبّهما كان قصيرًا، لكنّه كان عاطرًا كأزهار الحديقة التي كانت تعتني بها زوجته.”
نعم، لا بدّ أنّ الأمر كان كذلك.
فلولا ذلك، لما استطاعت السيدة أن تروي تلك القصص بتلك الملامح الهادئة.
تذكّرت روزنتين شبح السيدة النبيلة في القصر، التي كانت تحدّق دومًا بعينيها الذهبيتين نحو البعيد حين تستعيد ذكرياتها، وكان في نظرتها حنوّ عميق يجعل من يشاهدها يتساءل:
أيّ قدرٍ من الجمال في الذكريات يمكنه أن يمنح إنسانًا مثل هذا البريق؟
ابتسمت روزنتين بلطف، وقد انسكب الدفء على ملامحها.
وانسابت في القاعة نظراتٌ حالمة من السيدات اللواتي تخيّلن العاشقين.
ربما عرفن مثل ذلك الحبّ يومًا، أو حلمن به على الأقل.
تمامًا كما في القصّة.
“لكنّ النهاية المأساوية كانت حتمية.
فقد أقعد المرض النبيلَ في فراشه، رغم جهود زوجته التي بذلت كلّ ما تملك لتمريضه، إلى أن فارق الحياة أخيرًا.”
تنهّدت روزنتين بأسى، بينما التقت بعيني كلّ من في القاعة على التوالي.
الأساطير وقصص الحبّ دومًا ما تأسر القلوب، فكيف إن كانت متّصلة بجوهرة كهذه بين يديها؟
ذلك الجوهر الذي تشعّبت أنواره بألوانٍ عدّة كان هديةً من شارتوس.
أما أَرولنيه، فكانت تُحرّك مروحتها بخفة، تُصغي باهتمامٍ إلى الحكاية التي تبنيها روزنتين بعناية طبقةً فوق طبقة.
قوّة الجمال والرومانسية كانت تسحر الحاضرين، فاستقرّ انتباههم جميعًا على القصّة.
ولا سيّما أنّ المآسي العاطفية تُثير في النفس مشاعر شجنٍ رقيق، خاصةً حين تتعارض مع معنى البركة الأبدية الذي تحمله تلك الجوهرة.
“غاصت الزوجة في الحزن، وانهمرت الدموع من عينيها الجميلتين كحبات لؤلؤ.
وبعد مدّة، اختفت عن أنظار الناس تمامًا.
اعتقد الجميع أنّ الأرملة هربت مع عشيقٍ آخر.”
رفعت روزنتين الجوهرة عاليًا قليلًا.
ولم يلاحظ أحد، لكنّها كانت تُثبت للجميع أنّ حبّ تلك السيدة ما زال خالدًا وجميلًا كما كان، من خلال هذا الحجر نفسه.
“لكنّ الحقيقة كانت غير ذلك.
فهذه الجوهرة هي ما سلّمه النبيل لزوجته قبيل وفاته.
ومعناها البركة الأبدية.
لقد أراد أن يترك لها أمنيته الأخيرة بأن ترافقها البركة إلى الأبد، رغم رحيله.
حتى الموت لم يستطع أن يفرّق بينهما.
ويُقال إنّها ظلّت ترتدي هذا البروش حتى آخر يومٍ من حياتها.”
وفجأة، خطر في بال روزنتين وجه شارتوس.
لقد كانت قد أخبرته على نحوٍ تقريبي بما ستقوله، لكنّها لم تَسرد له القصة بهذه الصورة الدرامية المؤثرة.
فكّرت روزنتين في ذلك، وشعرت بقليل من الأسف لأنها أخرجت المشهد على هذا النحو لتقدّم البروش إلى أَرولنيه.
لكن لم يكن بوسعها أن تفعل غير ذلك.
فـالبركة الأبدية التي منحتها له لم تكن أقلّ من منحه حياةً جديدة.
“يُقال إنّ سموّه يتمنّى لكِ السلامة، يا سيّدة أَرولنيه.”
تقدّمت روزنتين خطوةً إلى الأمام، ووقفت أمامها مباشرة.
مدّت البروش إليها، فمدّت أَرولنيه يدها وتلقّته.
لم يكن ما بينهما حبٌّ أو هوى، بل بركة.
لكن الرومانسية الكامنة في هذا المشهد كانت كافية تمامًا لإرضاء روزنتين.
رفعت أَرولنيه رأسها بتعجرف قليل، ثم علّقت البروش على جانب فستانها.
وفي تلك اللحظة، أصبح الجوهَر هو أكثر ما لفت الأنظار في الصالون بأكمله.
“يا له من تصرّفٍ نبيل.”
“نعم، هو كذلك فعلًا.”
ابتسمت روزنتين ابتسامة الواثقة الوادعة، وأضافت تعليقًا صغيرًا عن مدى روعة هذا التناسق.
المرأة التي علّقت الجوهرة النادرة على صدرها صارت بطلة المشهد، فيما احتفلت روزنتين في داخلها كالمخرجة التي اختُتم الفصل الأول من عرضها بنجاح.
والآن، حان وقت الفصل الثاني.
كانت مارِييت تنظر إليهما بعينين متّسعتين من الدهشة، ملامح وجهها تصرخ بمعانٍ واضحة دون حاجةٍ إلى كلام:
‘أيمكن؟ حقًّا؟’.
فالجواهر التي تحمل قصصًا أسطورية نادرة بطبيعتها، وفوق ذلك، لم يكن في هذا العالم من يملك تلك الجوهرة الآن سوى امرأةٍ واحدة — أَرولنيه مولد.
‘لا بدّ أن هذا سيجرح كبرياءهنّ بشدّة.’
تمنّت روزنتين في سرّها أن يُمزّق الغيظ كرامتهنّ تمزيقًا، وأن يدفعهنّ الحسد إلى السعي المحموم لإزالة تفرّد أَرولنيه مولد.
فهي في تلك اللحظة كانت المالكة الوحيدة لتلك الجوهرة.
أطلقت روزنتين نظرةً بطيئة تجوب الصالون.
كان الجميع يُبدي اهتمامًا بالغًا بالجوهرة — كلّهم دون استثناء.
وعلى الرغم من أنّها لا تبدو مختلفة كثيرًا عن غيرها من المجوهرات،
إلّا أنّ الأسطورة التي تحتويها جعلتها قطعة فريدة لا مثيل لها.
ومن الطبيعي أن يرغب نبلاءٌ مولعون بالبذخ في اقتنائها.
“هل هذه الجوهرة فريدة فعلًا؟ لا يوجد مثلها في العالم؟”
“ليس تمامًا، سيدتي. صحيحٌ أنّ أثرها اختفى، لكن لا بدّ أنّ هناك صانعًا ماهرًا في مكانٍ ما قادرًا على نحت مثلها.”
“قصة جميلة حقًّا. أودّ أن أقدّم مثلها هديةً لابنتي.”
“يشرفني أنّها راقت لكِ، سيدتي.”
لقد اصطادت روزنتين سمكةً أكبر مما توقّعت — السيّدة تيريز مارغوس نفسها.
نهضت تيريز بلباقةٍ تامّة، بحركاتٍ تدلّ على لياقةٍ صُقلت عبر السنين.
وحين أبدت سيّدة الصالون وربّته، صاحبة النفوذ الأبرز في المكان، اهتمامها، تبعها الجميع بهزّات رؤوسٍ متفقِة.
وبالفعل، فهذه الجوهرة يمكن أن تُهدى لأيّ شخصٍ عزيزٍ على القلب،
حتى لو لم يكن بينهما حبّ، إذ تحمل أمنية البركة الأبدية.
تنفّس الحاضرون الصعداء حين أدركوا أنّه ما زالت هناك وسيلةٌ للعثور على مثل هذه الجوهرة.
صحيحٌ أنّ ذلك لن يكون سهلًا، لكنّ الجهد الكبير قد يوصِلهم إليها.
ومن يملكها، سيُشبع رغبةً دفينة في السيطرة واقتناء النفيس، وسيجد فيها تسلية ثمينة في حياة المجتمع الأرستقراطي الرتيبة.
“من أين سمعتِ بتلك القصّة؟”
“ذكرت جدّتي الكبرى أنّها سمعتها من أحد الخدم الذين خدموا سيدًا من سلالة نبيلة قديمة.”
“أودّ أن أصفّق لأبطال تلك الحكاية.”
“لو سمعا تصفيق السيّدة مارغوس، لكانا في غاية السعادة، بلا شك.”
تحوّلت أنظار الحاضرين تلقائيًا إلى الجوهرة مع كلمات تيريز مارغوس،
وكانت تلك النظرات مختلفة عن نظراتهم السابقة نحو أَرولنيه مولد.
ارتبكت أَرولنيه قليلًا من تدخل تيريز، لكنها لم تُبدِ شيئًا، واكتفت بتعديل فستانها لتُظهر البروش بأجمل صورة ممكنة.
أما وجوه مارِييت ورفيقاتها، فقد كانت مشبعةً بإحساس الخسارة،
مما يعني أنّ روزنتين حصلت على ما أرادته بالضبط — بل وأكثر،
إذ كان هذا الربط سيمهّد لاهتمام شارتوس القادم.
رفعت أَرولنيه فنجانها، فيما قُدّم لروزنتين أيضًا شايٌ بنكهة الورد
كمكافأة رمزية على ما فعلته من إحياء مبهج للصالون، وتسلية راقية للسيدات.
ثم عادت لتجلس بين الوسائد، متوارية في الظلّ كأنها لم تكن.
لقد مرّت العاصفة الأولى، ولن تُسدل الستارة عن دورها كالوصيفة روان ما لم تُقرّر هي أن تعود للواجهة من جديد.
أما الضوء، فقد استقرّ على أَرولنيه مولد.
طوال ما تبقّى من الوقت في الصالون، راقبت روزنتين بصمت كيف انشغلت النساء بالحديث عن الجوهرة.
بعضهنّ تبادلن معلومات سرّية عن صُنّاع المجوهرات الذين يعرفونهم، وكنّ يُخفين ما يعرفنه خشية أن يسبقهنّ أحدٌ إلى الجوهرة قبلهنّ.
لقد بدأت للتوّ “مطاردة الكنوز” المحمومة في مجتمع النبلاء.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 34"