كان لقـاء روزنتين بسيدة منزل أَرولنيه، السيدة مولد، بعد أربعة أيّام من ذلك الحين.
فلم يكن من الممكن أن تحمل مجرّد خرزة وتقول لابنة أسرةٍ نبيلةٍ إنّها هديّةٌ من الأمير. كان ذلك بديهيًّا.
ولهذا، كان لا بُدّ من صقل تلك الخرزة وتحويلها إلى بروشٍ حقيقيٍّ أنيق.
ثمّ إنّها كانت قد ادّعت في وقتٍ سابق أنّ هناك نوعًا من الحليّ يفضّله شارتوس، رغم أنّها اختلقت الأمر من رأسها، لذا كان عليها أن تُتقن العمل هذه المرّة.
بل إنّ مدّة الأربعة أيّام تلك لم تكن لتكفي لولا أنّ لوسين ضغط على صانع الحليّ ليُسرّع العمل.
كانت الخرزة الدائريّة المرسومة عليها رموزٌ غامضة قد استقرّت الآن بين بتلاتٍ من الأحجار الكريمة، بعد أن صُقلت بعنايةٍ بالغة. بدا المنظر جميلًا حتى في نظرها.
‘بهذا المستوى، لا بدّ أنّ مولد سترضى.’
في صباح اليوم الذي اكتمل فيه البروش، أبلغتها إحدى الخادمات بزيارة مولد أَرولنيه.
وبينما كانت روزنتين ترتدي زيّ الخادمات المكويّ بعناية، خطرت ببالها فكرة أنّها بدأت تتعلّق بهذا الزيّ على غير قصد.
كانت تعرف أنّ ما ستقوله لمولد عند تسليم الهدية لا يقلّ أهميّةً عن الهدية نفسها إن كانت ترغب في انتشار الشائعات بسرعة.
تمنّت روزنتين بحرارة أن يكون الموعد الذي تصطحبها إليه مولد اليوم أحد صالونات سيدات النبلاء أو حفلات الشاي.
فإن حدث ذلك، فسيكون المشهد أكثر دراميّةً وروعة.
بل ربّما تستطيع عندها أن تروي قصّة تلك الدوقة التي حافظت على حبّها الأوّل طوال مئةٍ وثمانين عامًا، بطريقةٍ رومانسيةٍ آسرة.
فما إن تتخلّل الأسطورةُ أيّ شيء، حتى يتضاعف ثمنه أضعافًا.
“تقول إنّها ستصل قريبًا.”
“شكرًا لكِ، داليا.”
طَرقٌ خفيف، ثمّ أطلّ أحدهم برأسه ليُعلن وصول أَرولنيه مولد.
وضعت روزنتين البروش داخل صندوقٍ مخمليٍّ، واحتضنته بحرصٍ في صدرها.
‘أعتذر، لكنْ اعملي لأجلي اليوم، يا سيّدة أَرولنيه… أو ربّما يجدر بي أن أقول اعملي لأجل شارتوس، فسيُعجبها هذا أكثر. لا فرق في النهاية، فالمعنى واحد.’
إن عرفت طبيعتها، فقد تشعر بالغيرة الشديدة من علاقةٍ كتلك بين السيّد وخادمته.
ابتسمت روزنتين بهدوءٍ مائلٍ إلى السخرية، فاليوم كان دورها لتكون “الراوية” بين الفتيات.
وكالعادة، كانت أَرولنيه مولد تنتظرها بأناقةٍ أمام مسكن الخدم، تُظلّل وجهها عن الشمس برفق.
وجهها الذي تقلّص قليلًا من شدّة الضوء بدا لوحةً تستحقّ التأمّل.
حين أبصرت روزنتين، خفّضت يدها وهزّت المروحة بخفّة.
كان عبير الزهور الذي يملأ المكان يذكّر روزنتين فورًا بأنّها في قصر مولد.
استمعت روزنتين إليها بابتسامةٍ هادئة، وقد كادت تهتف فرحًا في داخلها، لأنّ هذا لم يكن يختلف عن دعوةٍ إلى الصالون.
يا له من حظّ! أن يتحقّق ما تمنت بهذه السرعة، لا بدّ أنّ القدر ما زال يُمهلها هي وشارتوس.
وكما جرت العادة، كانت مولد يرافقها حارس شخصيّ أو فارسٌ يقف خلفها.
كان طويل القامة، يُلقي نظرةً متعاليةً نحو روزنتين.
صالونٌ وكتاب. لا شكّ أنّه كان يختبر إن كانت روزنتين تعرف القراءة.
تصرفت روزنتين سريعًا؛ فخادمة القصر الإمبراطوريّ لا يمكن أن تجهل القراءة والكتابة، وإلاّ لما استطاعت البقاء طويلًا في عملها.
صحيح أنّ كثيراتٍ تعلّمن القراءة بعد دخول القصر على يد خادمات أقدم، لكنّها هي كانت قد درست منذ صغرها كتبًا عديدة في مختلف العلوم.
وليس بدافع الكبرياء، بل لأنّها كانت تنوي اليوم أن تُجسّد دور الراوية، فكان عليها أن تُظهر معرفتها بالقراءة.
إذ كيف كانت لتسمع تلك القصص التي ترويها إن لم تعرف الكتب؟
“كتابٌ، يا لها من تجربةٍ نفيسةٍ تمنحينني إيّاها.”
فالكتب ما زالت تُعدّ ترفًا لا يُتاح للعوامّ امتلاكه كما يشاؤون.
انحنت روزنتين تحيّةً بأدب، ثمّ ابتسمت لمولد التي كانت تهزّ مروحتها في ضجرٍ واضحٍ من هذا الواقع.
فكيف لخادمة مخصّصة للأمير أن تكون أُمّيّة؟ سيكون ذلك أمرًا لا يُغتفر.
“كنتُ أعدّ نفسي محظوظة لرؤيتك اليوم، سيّدتي مولد. فقد كنتُ حائرةً في كيفيّة إيصال رسالةٍ إليكم.”
“أوه… وهل كان هناك ما يستدعي ذلك؟ كان بإمكانكِ إرسال رسالة إلى بيتنا فحسب…”
كانتا تُكملان الحديث وكأنّهما تجهلان ما تعرفه كلٌّ منهما عن الأخرى، مثل بجعةٍ تُبقي قدميها تتحرّكان تحت الماء دون أن يراها أحد.
‘ممتع أيضًا، هذا التمثيل.’
فكّرت روزنتين.
كانت عينا مولد تراقبانها من خلف المروحة، تتفقّدان جسدها باستمرارٍ كما لو تحاول تخمين موضع الهدية التي جلبتها معها.
هكذا هي آداب هذا العالم.
ولكي تُرضي فضولها، لمّحت روزنتين إلى وجود الهدية.
“أو كان بإمكاني أيضًا أن أتركها لدى السيّد فانا.”
حينها اعتدل الفارس الواقف إلى جانبها مرفوع الرأس في وقفةٍ متباهيةٍ، يبدو أنّه سُرَّ بثقة مولد واعتمادها عليه.
نظرت روزنتين إلى ذلك الرجل المسكين ذي الحبّ الضائع، ولم تُرسل له سوى تمنٍّ صامتٍ بالتوفيق.
فهي تعرف أنّ مولد لم تكن لتتسلّم هديةً تخصّ الأمير من خلاله.
على أيّ حال، كانت تتنبّأ بأنّ الصالون الذي ستأخذها إليه سيكون مكتظًّا بالنبلاء الذين ترغب مولد في التأثير عليهم.
وحين رأت أنّ الأمور تسير وفق خطّتها، ارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ خفيفة.
“لقد أُمرتُ بتسليمها لك بنفسي. ويسعدني أن ألقاك، سيّدتي مولد.”
“يا إلهي، لقد زادني هذا فضولًا. حسنًا، فلنذهب إذًا؟”
ثمّ أغلقت مولد مروحتها بصوتٍ خفيف، وكانت نظرتها أشبه بنظرة صيّادٍ عثر على فريسته.
سلّمت المروحة للفارس فانا، ثمّ أمسكت بيد روزنتين لتقودها.
وكانت روزنتين قادرةً بوضوحٍ على رؤية بريق الترقّب يلمع في عيني مولد المتحمّستين.
***
“هل سيكون الأمر بخير؟”
كان شعار عائلة مولد صورة لضفدعٍ يدحرج بكرةٍ ذهبية.
وأثناء ركوبها عربة عائلة نبيلة لأول مرة منذ وقت طويل، تذكّرت روزنتين كلمات لوسين.
كان وجهه يومها محمّرًا على غير عادته، وكأنه يحاول التكلّم عدّة مرّات، ثمّ في النهاية غيّر الموضوع إلى حديثٍ آخر.
ربّما كان ذلك أيضًا أحد الأمور التي أراد أن يسألها عنها، غير أنّها كانت أكثر فضولًا بشأن ماضيه الذي سبّب له تلك الصدمة التي لم يُرِد الخوض فيها.
لكنّها كانت تعلم أنّ لكلّ إنسان وقتًا يناسبه ليبوح بما في صدره، لذا آثرت الصمت والانتظار.
“عن أيّ شيءٍ تتحدّث؟”
“الإشاعات ليست شيئًا يمكن التحكّم به.”
كان على جانبي الطريق المؤدّي إلى القصر الفرعيّ للأمير صفٌّ طويلٌ من الأعمدة السميكة، مصنوعةٍ كلّها من حجرٍ فاخرٍ وثمين.
وأثناء سيرها فوق أرض صلبة تُصدر تحت قدميها صوتًا مكتومًا متكرّرًا، ارتسمت على وجه روزنتين ابتسامةٌ رقيقة.
لقد كان يتحدّث عن خطّتها.
وفكّرت: يا له من أمرٍ غريبٍ حقًّا.
الحاكم لا يفصح عن نواياه لكنه يدعم خطّتها في الخفاء، أمّا مساعده فيثق في حكمه إلى درجة أنّه يطرح أسئلته بدافع الفضول فقط.
يا لها من صورةٍ نادرةٍ للولاء.
“هوستانغ عادةً ما يسأل مباشرةً عمّا يدور في ذهنه.”
“…ذلك لأنّه شخصٌ واضحٌ تمامًا، ظاهرًا وباطنًا.”
“وماذا عنك أنت يا لوسين؟”
“أنا شخصٌ يرغب في تمهيد الطريق الذي يسلكه سموّه.”
كانت كلماته هذه أكثر حزمًا وإصرارًا من ذي قبل، وقد بدا على وجهه احمرارٌ جديد، كأنه تذكّر شيئًا ما.
“وأعلم أيضًا أنّ خطّتك ستكون ذات أهميّةٍ كبيرةٍ في ذلك الطريق، يا روآن.”
“تقديرٌ عالٍ جدًّا.”
“لأنّه الحقيقة فحسب. والآن، هل ستحدّثينني عنها؟”
أومأت روزنتين برأسها.
كانت قد كشفت الخطوط الرئيسية من قبل أمام شارتوس وهوستانغ، غير أنّ لوسين بدا كمن يرغب في معرفة التفاصيل الدقيقة.
وهي بدورها لم تجد مانعًا من ذلك.
لقد كان رجلًا ذكيًّا، وربّما سيتولّى الجزء الذي تعجز هي عن القيام به.
أما الشيء الوحيد الذي لم يستطع لوسين آينا تفهّمه فكان:
“أنا لا أريد التحكّم في الشائعات.”
“إذًا؟ أليست السرعة مهمّة في هذه الحالة؟”
“بل على العكس، كلّما كانت أقلّ تحكّمًا كان ذلك أفضل.
حين تنتشر دون قيودٍ، ستتفرّع إلى عددٍ لا يُحصى من الروايات والتفاصيل.”
“…تقولين إنّك لن تتحكّمي بها؟”
“الوقت سيكون حليفنا.”
“ولِمَ ذلك؟”
“لأنّه بينما تنشغل أَرولنيه بنشر الشائعات، لن أبقى أنا مكتوفة اليدين.”
رفعت رأسها بثقةٍ عالية.
فالعميلة السرّية سبقت شارتوس بثلاث سنوات، وبينما الآن قد وصلا بالكاد إلى مستوى ذلك التقدّم، فقد حان وقت موازنة الكفّتين.
ورغم أنّ هناك مؤامرةً في الخفاء لم تكن روزنتين قد كشفت خيوطها بعد، إلّا أنّ لديها في المقابل حلًّا لم يكن شارتوس على درايةٍ به.
وبناءً على ذلك، لم يبقَ أمامهما سوى كسب الوقت.
في هذا الموقف الحرج، حيث وضع كلٌّ منهما حياته على المحكّ، كان على شارتوس أن يجعل من عامل الزمن سلاحه الأقوى.
القرينة الأولى التي وجب عليها أن تلتقطها منذ البداية، ستقوم أَرولنيه بالتقاطها الآن عوضًا عنها.
أما روزنتين، فستُعدّ المفاتيح العشرة التي ستفتح من خلالها تلك الأبواب.
وإن لم يكن الوقت في صفّها، فستجرّه بنفسها عنوةً لتجعله كذلك.
“روآن.”
تمامًا كما الآن.
توقّفت العربة محدثةً اهتزازًا خفيفًا.
لم تكن عربة عائلة مولد مريحةً مثل عربة أرجين، لكنها كانت تحمل رائحة طيّبة وتمنح راحة وثباتًا واضحين أثناء السير.
سمعت صوت صهيل مكتوم من الخيول في الخارج، ثمّ قام الفارس بفتح الباب ومرافقة السيدة أَرولنيه للنزول.
كان القصر الذي توقّفوا أمامه قريبًا من القصر الإمبراطوريّ، ويتبع لإحدى العائلات النبيلة.
حينها أدركت روزنتين أنّ مالكة هذا القصر هي السيّدة تيريز مارجوس، التي تُعرف في الأوساط الاجتماعيّة بـ”الأم الكبرى للمجتمع الأرستقراطيّ”.
أي إنّ أَرولنيه اختارت أكبر وأشهر الصالونات في المنطقة كلّها.
ارتسمت على شفتي روزنتين ابتسامةٌ خفيفة.
نعم، هذا ما يجب فعله ليُحرَز التقدّم.
“يا إلهي، أيمكن أن يكون هذا القصر هو…؟”
“أتعرفينه أيضًا؟ نعم، إنّه قصر السيّدة مارجوس.”
“هذه أوّل مرّةٍ أشارك في صالون كهذا.”
“لا داعي للخوف، فأنتِ ترافقينني فقط كخادمة تؤدّي واجبها. يكفي أن تقومي بعملك بإتقان، لا أكثر.”
بمعنى آخر، أرادت منها أن تُقدّم الهدية بطريقةٍ تليق، وتُبرزها في الوقت نفسه.
وضعت روزنتين يدها على صدرها بعينين متألّقتين امتنانًا، فقد كان هذا بالضبط المشهد الذي أرادت إخراجه.
“سأبذل كلّ ما في وسعي. فقط أصدري أوامركِ، سيّدتي.”
بمكرٍ شديد، رمشت عينا روزنتين ببطءٍ لتبدو أكثر تأثّرًا، وقد أضفت على عينيها بريقًا رطبًا متعمّدًا.
أما في داخلها، فقد كانت تكرّر: “فقط لا تطلبي منّي أيّ شيء فعليّ حقًّا.”
هزّت أَرولنيه رأسها راضية.
لقد أُشبعت رغبتها في أن تراها تلك الخادمة، الأدنى منزلة ولكن المقرّبة من شارتوس، نظرةَ إعجابٍ وتوقير.
ثمّ وضعت يدها بهدوء على ذراع الفارس فانا الذي كان يُرافقها، ودخلت القصر بخطى واثقة.
في حين تبعتها روزنتين بخطوات متّزنة خلفها.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 32"