المجلد السادس: فخّ صيد السحالي (1)
“هذا مزعج حقا. نحن لا نعلم من أين جاءت هذه القطعة أصلًا.”
على سطح المكتب، كانت خرزة تضيء داخل صندوق مخمليّ مربع الشكل.
الـ”مُحفِّز”.
رفع لوسين الخرزة، وحدّق مطولًا في الرموز المنقوشة داخلها، ثمّ هزّ رأسه.
أما هوستانغ فكان يحكّ رأسه بعجز، وملامحه تقول إنه لم يفهم شيئًا.
“هل هذه هي الـ… ما يسمونها بالمحفّز فعلًا؟”
“كان ذلك توقّع روان، لكن إحتمال كبير أن يكون صحيحًا. حتى الكيميائي وافق على ذلك.”
“… مدهش فعلًا. هذه المشعوذة، أعني…”
تناول هوستانغ الخرزة من لوسين ورفعها نحو ضوء الشمس.
كانت تعكس الضوء وتنثره، مُشكّلةً على الأرض اللامعة أنماطًا دقيقة على شكل الرموز المحفورة داخلها.
نظر هوستانغ بدهشة إلى روزنتين، غير أنّها كانت تحدّق في الأنماط المرسومة على الأرض، غارقةً في التفكير.
كانت الأشكال الباهتة تتناثر بجمال غريب، وأحسّت بشعور مألوف، وكأنها رأت ذلك المشهد من قبل في مكان ما.
“حتى عندما لا يوجد أي دليل، كانت تجد دائمًا شيئًا ما.”
“هل رأيت ذلك بنفسك؟”
عند سؤال لوسين، تذكّر شارتوس منظر روزنتين وهي تواصل أداء ما كانت تفعله في الزقاق.
هل تسبب الشعوذة فعلًا كلّ هذا التعب؟
ومضت لمحة من العاطفة في عينيه، قبل أن يومئ برأسه.
“كنا سنفقد كلّ شيء لولاها. منحها جائزة لن يكون بالكثير عليها.”
“أتقصد جائزة إضافية غير الواردة في العقد؟”
توسّعت عينا هوستانغ بدهشة.
جائزة غير مضمّنة في عقد العمل! كان ذلك أمرًا لا يُمنح إلاّ لفارسٍ حقّق إنجازًا كبيرًا في ساحة الحرب أو تميّز في مسابقة مبارزة كبرى.
إنها شرف عظيم، كما أنّها علامة على ثقة السيد بمَن يعمل لديه.
رمق هوستانغ روزنتين بنظرة جديدة.
كانت ما تزال تميل رأسها قليلًا إلى الجانب، خصلات شعرها الأسود الجافّ مبعثرة، وتعبير وجهها يحمل مزيجًا من التحدّي والبرود.
لكن رغم ذلك، لم يستطع إنكار قيمتها. فهي من أنقذت حياة قائده الذي يحترمه أشدّ الاحترام.
عندما ظهرت فجأة في البداية وهي تتحدث عن تهديدات ومخاطر حياة، ظنّها مجرد دجّالة لا أكثر.
“نظراتك حارّة جدًا يا هوستانغ. لو كنت معجبًا بي فقلها صراحة، لمَ كلّ هذا؟”
… تراجع فورًا عن كلّ أفكاره السابقة. لا، إنه يكرهها.
تشنّج وجه هوستانغ بالكامل.
كانت تلك كلمات روزنتين وقد وسّعت عينيها ببراءة مصطنعة، يبدو أنها قرأت تعبير وجهه بسهولة بينما كانت غارقة في تفكيرها.
يا لهذه المرأة الوقحة، الجريئة، والمستفزّة! وكيف لإنسانة كهذه أن تكون هي من أنقذت حياة سيده؟!
احمرّ وجه هوستانغ غضبًا وأدار رأسه بعيدًا عنها.
بغضّ النظر عن موهبتها، فإن أسلوبها المستفزّ لا يمكن احتماله.
ارتسمت ابتسامة ماكرة على شفتي روزنتين.
من الواضح أنها كانت تتسلّى بمضايقته لتُخفف عن نفسها التوتر.
راقبها لوسين من الجانب، ثم ابتسم بهدوء وهزّ رأسه.
“هل تُعجبك؟”
“ماذا؟! صاحب السموّ! ماذا تقول!”
ولم يزد الأمر إلا سوءًا بانضمام شارتوس إلى الحوار ببرودٍ تام، وكأنه يؤيّد السؤال.
رفع لوسين يديه بيأس وضرب جبهته بالجدار مجازيًّا.
لم يكن قلقًا على سيده بقدر ما كان يشعر أنّ هذه اللحظة الغريبة أضافت جوًا مضحكًا وسط الوضع الجاد.
ارتسمت على وجهه النحيل ابتسامة محرجة.
بدت ملامح شارتوس أكثر ارتياحًا، فاتّكأ على ظهر كرسيٍّ خشبيّ فاخر.
كان قد وضع ساقًا فوق الأخرى في وضعٍ بدا متغطرسًا، لكنه مع ذلك كان يليق به على نحوٍ مذهل.
“روان المشعوذة. هل لديكِ ما تطلبينه؟”
قالها وهو يرفع زاوية فمه بابتسامة خفيفة، وبنبرةٍ تُمزج فيها الرسمية بالجدّ، مما دلّ على أنه يتحدث بصدق.
رفعت روزنتين رأسها لتنظر إليه، وقد تفاجأت بسؤاله.
فكما أشار هوستانغ، من النادر أن تُمنح مكافأة شخصية لخادمة مأجورة.
صحيح أنها قدّمت إنجازًا كبيرًا: أنقذت حياته، وكشفت عن خلفية الحادث.
ولو كانت فارسةً تابعةً له فعلًا، لاستحقت هذه المكافأة عن جدارة.
لو كانت فارسته فقط…
“هل تتحدث بجدّية يا صاحب السموّ؟”
“لو أجبت على هذا السؤال، هل ستطلبين ما تريدينه بصدق؟”
كان ذلك سؤال شارتوس.
“ما الذي تريدينه حقًا؟”
جعلت نبرته العميقة ذات المعنى الخفي روزنتين تلتزم الصمت.
فلا وجود لفرسانٍ من النساء.
حتى الآلهات لم يكنّ موجودات في العالم الذي تعيش فيه.
كانت محظوظة لأنها نالت تعليمًا رغم كل شيء، لكنها كانت تدرك أنه حين يحين الوقت، سيتعيّن عليها الزواج وعيش حياة سيدة نبيلة.
وفوق كلّ ذلك، فهي ليست فارسة، بل ساحرة.
ولو كانت في حيّ الفقراء الذي كانت فيه من قبل، لكانت منبوذة تمامًا بسبب طبيعتها هذه.
ففي إمبراطورية كارتاجين، لا تنفع الألقاب أو النسب الأرستقراطي أمام السحر.
بقيت روزنتين صامتة لحظة، مترددة في الكلام، بينما كان شارتوس ينظر إليها بثبات، منتظرًا جوابها.
“… لقد أنقذت حياتك، وهذا يكفيني. ليس لديّ ما أطلبه.”
“غريب. هل يمكن أن يعيش إنسان بلا رغبات؟”
“بالطبع لا.”
غرقت روزنتين في تفكيرٍ عميق.
في الحقيقة، كل ما كانت تريده من قبل… حصلت عليه بالفعل:
مكانة ابنة نبيلة… وأسرة تحبها.
رغبة روزنتين كانت أن تُحمى هي وكورت، بغضّ النظر عن قدراتهما أو طبيعته، وهو أمرٌ سيتحقق تلقائيًا بانتهاء العقد.
بالطبع، لم يكن ليضيرها أن تُضيف بعض الآليات الدفاعية الإضافية أيضًا…
لكن، كان مشهدٌ معين رأته قبل قليل لا يزال يسيطر تمامًا على ذهنها.
لقد نالت ما كانت ترجوه، لكن ماذا عن الآخرين؟ مثلًا… ماذا عن آرون؟
“هل تذكر حيّ الفقراء الذي مررنا به قبل قليل؟”
نظر شارتوس إليها بعينين حادتين.
لو تلقت تلك النظرة في ساحة المعركة، لكانت مضطرة إلى فحص كلماتها مرات عديدة قبل أن تجرؤ على نطقها.
كتمت روزنتين ضحكة داخلية.
ماذا لو… فقط لو أصبح هو الإمبراطور؟ سيكون ذلك مشهدًا ممتعًا حقًا.
نهضت من مقعدها، ورفعت أطراف فستانها بانحناءة خفيفة مهذبة.
كانت تحية رسمية.
“فيما بعد، عندما يحين الوقت، أرجو أن تتكفّل برعاية تلك المنطقة.”
اتسعت عينا هوستانغ دهشةً، بينما بدا لوسين وكأنه تلقّى صدمة قوية جعلته يحدّق بها في ذهول.
لم يتوقع أحدٌ في الغرفة هذه الكلمات.
ففي خضم هذا الموقف النادر لتلقي مكافأةٍ على عملٍ بطولي، تطلب هي ببساطة الاهتمام بحيٍّ فقير لا يأبه له أحد؟
قد يكون طلبها هذا بلا طائل، عملًا لا يعود عليها بنفعٍ ولا يُحدث أي تغيير.
أما شارتوس، فكان ينظر إليها بوجهٍ هادئ.
وظلت روزنتين منحنية للحظة قبل أن ترفع رأسها.
كانت نظراتها مسترخية وهادئة.
التقت الزرقة في عينيها بعينيه، فارتسمت على وجهه ابتسامة بطيئة.
“أعدك.”
“شكرًا لك، سموّ الأمير.”
ابتسمت روزنتين بصدق.
كانت فعلًا تتساءل عمّا سيحدث إن نجا شارتوس وأصبح جزءًا من هذا الإمبراطورية.
فهذه البلاد، رغم عظَمة سلطتها الإمبراطورية، تعاني فجوةً طبقيةً مروّعة بين العاصمة وأطرافها.
كانت تعرف ذلك فقط من خلال ما تعلمته في دروسها النظرية، ولم تره شخصيًا من قبل.
وربما لأنها نشأت في أحد أحياء العاصمة، لم تشعر بفارقٍ كبير بينهما.
لم تكن تلك تربيةً أرستقراطية بالمعنى التقليدي، إذ تولّت فيوليتا وهايمت تعليمها.
وما العيب في بعض الرضا الذاتي؟
فهي لم تكن تفكر إلا في الصبي آرون الذي ذكرها بنفسها وكورت.
ما زالت تجهل تمامًا كيف مات ذلك الطفل.
قد تكون وعود شارتوس مجرد كلماتٍ عابرة.
ولو كان الأمر كذلك، فقد أضاعت فرصة ثمينة.
لكنها، خلال هذه الفترة الطويلة أو القصيرة في القصر الإمبراطوري، أدركت أنها تقبّلت شارتوس، على نحوٍ ما، كحاكمٍ لها.
وكان يستحق ذلك فعلًا.
فقد أحسّت أنّها أحسنت حين قررت إنقاذ حياته.
لم يكن يبدو شخصًا يمكن أن ينكث وعده.
“…أنا.”
وفجأة، دوّى صوتٌ غير متوقّع.
كان لوسين.
نظرت إليه روزنتين بدهشة.
كانت عيناه، اللتان بدا عليهما الارتباك، تتنقلان بينها وبين شارتوس.
وقد دهشت حين رأت في عينيه مشاعر يصعب تسميتها، فيما تلألأت خضرتهما الباهتة بوضوحٍ لم تألفه من قبل — لونٌ يُذكّر بأعمق غابات القصر الإمبراطوري.
ابتلع ريقه مرارًا وكأنه يحاول تهدئة نفسه، ثم خرج صوته أخيرًا، رقيقًا هادئًا، وعلى وجهه الهشّ مسحة ابتسامة ناعمة.
“يبدو أن عليّ أنا أيضًا أن أقدّم شكري.”
“وجّه شكرك إلى روان، فهي صاحبة الفضل، إذ هو إنجازها كمشعوذة.”
“…شكرًا لكِ، روان.”
بدا شارتوس وكأنه يتوقع ما في نفسه.
أسند ذقنه إلى يده، وألقى نظرةً على لوسين، وارتسمت على فمه ابتسامةٌ خفيفة علّقت بها ذكرى من زمنٍ مضى.
أما هوستانغ، فبدا متحيّرًا، لكنه تحلّى بالحكمة والتزم الصمت، احترامًا لصديقه وزميله.
انحنى لوسين قليلًا أمام شارتوس، ثم أومأ برأسه نحو روزنتين.
“أظن أنني مدين لكِ الآن. سأخبرك لاحقًا بما أعنيه.”
‘يبدو أن وراء الأمر قصة.’
فكرت روزنتين بذلك.
لم تكن تعرف ما الذي مرّ به، لكن ما دامت كلماتها تسببت في أن يصبح مدينًا لها، فالدَّين من مستشار وليّ العهد الثاني أمرٌ له ثمنٌ باهظ.
فهو، رغم وجهه اللطيف وطريقته الهادئة، كان معروفًا بأنه رجلٌ صارم لا يُظهر ثغراتٍ لأحد.
‘وفوق ذلك…’
حولت روزنتين نظرها إلى المحفّز السحري.
كان ما بدا غامضًا سابقًا يتضح تدريجيًا.
كانت لا تزال تفكر بآرون.
وربما، فكّرت، أن هذا ما تركه ذلك الصبي الصغير كهديةٍ أثناء رحيله نحو طريق الأشباح.
الملابس البالية، والحياة التي عاشها قبل أربعين عامًا…
تذكّرت أخيرًا أين رأت الرموز الغريبة المنقوشة على الأرض.
وحين فعلت، لم تصدق أنها احتاجت كل هذا الوقت لتتذكّر.
روحٌ ماتت قبل أربعين عامًا.
شبحٌ بقي في قصر أرجين.
واللوحة التي رأتها، المرسومة قبل مئةٍ وثمانين عامًا — لوحة الدوقة.
“فهمت الآن. بما أنني قد حمّلته دينًا، يبدو أن عليّ أن أضيف شيئًا آخر.”
“وما هو؟”
“بما أن إنجازي قد أُعيد إلى الصفر، فربما عليّ أن أحقق إنجازًا جديدًا.”
ضحك شارتوس بخفة.
لم يكن يعلم كيف يمكن لعقلٍ صغير كهذا أن يبتكر أفكارًا بلا انقطاع.
اتسعت عينا لوسين قليلًا، محمرّتين، فيما ابتسمت روزنتين برقةٍ وهي تتأمل وجهه النقي.
“سأقدّم هذه الجوهرة للسيدة أَرولنيه مولد، كهديةٍ من سموّك.”
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
التعليقات