تجمَّد آرون في موضعه. بدأت هالة باهتة تميل إلى البياض تتجمّع أمام الطفل تدريجيًّا. وفي الوقت نفسه، أخذ الضوء الخافت حول الصبيّ يخبو أكثر فأكثر.
أضافت روزنتين بصرامة، كانت تسيطر على الموقف كما لو كانت تقوده بنفسها.
“آرون مينتا. لا أسمح لك بأن تختفي. تذكَّر والدتك. وفي الوقت نفسه، تذكَّر نفسك. تذكَّر كلّ ما حدث وأنت مع والدتك، في ذلك اليوم الأخير. استعد كلَّ شيءٍ منه.”
أُمّ… مي.
تجمّدت ملامح آرون وهو يعبس. كان وجهه وجه طفلٍ على وشك البكاء.
لكن بدل أن يبكي، أغمض عينيه بإحكام.
كان يستحضر كلَّ ما يستطيع من ذكريات. ذكرياتٍ طويلةٍ جدًّا نسي عددها، رسمها في خياله مرارًا وسط وحدته؛ ذكرياتٍ عن أمّه.
حينها فقط بدأت تتكوّن أمام آرون صورة أوضح. وما إن رأت روزنتين ملامح وجهٍ تتكوّن داخلها حتى أمرت قائلة
“أغاثا مينتا. إن كنتِ قريبة من هنا، فاسمعي كلامي.”
أُم… ما. أمّاه…!
في تلك اللحظة، بدا لها كأنها سمعت صوت بكاء خافتًا داخل الهالة الضوئية التي خلقها آرون. كان ذلك هو الصوت الذي تمنت سماعه.
لم تكن تعلم شيئًا عن طقوس استحضار الأرواح أو طقوس التخلّي عن الدنيا، لكنها تعلّمت شيئًا من مراقبتها الدائمة لدورات ميلاد الأشباح واندثارها.
شيءٌ لا يعرفه أحدٌ سواها.
الاسم — ذلك هو الوسيط الذي يمكّن المرء من توجيه تلك المعرفة واستعمالها.
مرَّ ما يقارب الأربعين عامًا. لم يكن من الممكن أن يبقى بيت عائلة آرون في هذه الأنحاء. لا الأمّ ولا الأب كان بالإمكان التحقّق من حياتهما.
لكن لهذا السبب تحديدًا، كان عليها أن تبحث بين الموتى عن أغاثا مينتا.
ليتمكن هذا الصبيّ الصغير، الذي ظلّت قدماه عالقتين في الأرض، من الاستيقاظ بوضوحٍ ويُلقى في حضن أمّه.
حتى يتمكّنا معًا من السير في طريق الأشباح.
“أغاثا مينتا. ابنكِ هنا.”
آرون…؟ آرون، يا صغيري؟
“يبدو أنكما انتظرتما طويلًا… كلاكما.”
كان الشكل داخل الهالة الضوئية يزداد وضوحًا حتى اكتمل مظهر امرأة.
المرأة التي كانت تُدعى أغاثا كانت تنظر إلى آرون والدموع تنحدر من عينيها. دموعٌ لا يمكن لشبحٍ أن يذرفها في الواقع.
مدّ آرون ذراعيه نحو أغاثا. كانت عيناه متسعتين من الفرح، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة حين رأى أمَّه. لكن قدماه، اللتان لم تتحركا بعد، قيّدتا حركته.
همست أغاثا باسم آرون. أخذت الهالة الضوئية تضيق شيئًا فشيئًا. لم يعد هناك متسع من الوقت.
صرخت روزنتين بسرعة:
“آرون مينتا. امشِ!”
أُمّاه، أُمّاه!
وفي اللحظة نفسها، انشقّ الفراغ الذي كانت فيه قدماه بصوتٍ خافتٍ، ثم اندفع آرون راكضًا نحو حضن أغاثا.
ومن العجيب أنّ ثيابه البالية بدأت تتحوّل شيئًا فشيئًا إلى ألوانٍ نقيةٍ نظيفة.
انحنت أغاثا أمام روزنتين امتنانًا.
الطفل الذي ظلّ يبكي وحيدًا طوال الوقت كان الآن يبتسم لها ابتسامةً مشرقة كالشمس.
شكرًا لأنكِ وجدتِ أمي، أختي!
نظرت روزنتين إلى الصبيّ بين ذراعي أمّه، وبدت عليها مسحة من الحنين، لكنّها بدّدتها بابتسامةٍ لطيفة.
بدأ الضوء يخبو تدريجيًّا.
كانت أغاثا تحتضن آرون، تنظر إليه مرارًا، وتنحني بلا انقطاع نحو روزنتين، حتى اختفى كلّ أثرٍ لهما.
وساد الهدوء المكان من جديد.
على عكس النور الذي ملأ المكان قبل قليل، لم يبقَ سوى صخب الحانة المجاورة يتردّد في الأرجاء.
كان الناس قد أثاروا جلبةً بعد أن عثروا على جثّةٍ أثناء مرورهم في الزقاق، لكن في مكانٍ كهذا، لم يكن ذلك أمرًا غريبًا.
‘ها قد وصلتُ إلى مرحلةٍ أفعل فيها كلَّ ما هو غير متوقَّع.’
لم يكن ما حدث جزءًا من خطتها أبدًا.
لكن الهواء البارد عند أنفها لم يمنحها شعورًا سيئًا، بل شعورًا دافئًا غريبًا.
لم تكن تعرف إلى أين ذهب آرون، لكنها كانت واثقة أنه سعيد الآن، لأنه يسير أخيرًا مع أمّه التي اشتاق إليها كثيرًا.
استدارت روزنتين.
كان هناك شارتوس يراقبها بصمت.
ابتسمت له روزنتين بابتسامةٍ محرجة.
“تأخّرتُ قليلًا. لكنني وجدتُ الدليل، يمكنك أن تُنزل يدك عن أذنك الآن.”
لم تكن تعلم إلى أيّ حدٍّ استطاع أن يرى ما حدث.
تساءلت: هل كان الضوء مرئيًّا له أيضًا؟ أم أنّه، مثل الأشباح، لم يرَ شيئًا على الإطلاق؟
حدّقت روزنتين في عيني شارتوس.
اقترب منها بخطواتٍ ثابتة حتى وقف أمامها.
“هل تتعبين حين تستخدمين قوتك؟”
توقّف بقربها.
مدّ يده مباشرة ولمس خدَّها برفق. خرج غبارٌ أسود من على يده.
لم تكن هناك دموع، لكنه بدا كمن يمسح دمعةً من وجهها.
حدّقت روزنتين فيه مذهولة.
يده التي لامست خدَّها بخفّة ارتفعت إلى كتفها دون ثقلٍ يُذكر.
راح يربّت على كتفها ببطءٍ مهدّئ، وكانت يده دافئة جدًّا.
“هاه؟”
لم تستطع أن تقول أكثر من ذلك. رمشت بعينيها متفاجئة من سؤاله غير المتوقع.
كان لمس يده على كتفها أقرب إلى عزاءٍ منها إلى مجرّد تصرفٍ عابر، فاحمرّ وجهها على الفور بشكلٍ غير معهود منها.
أطرقت رأسها بسرعة لتخفي وجهها، محاولةً استيعاب الموقف، لكن قلبها سبق عقلها.
‘هل كان ذلك تعزية؟ هل بدا وجهي بائسًا إلى هذه الدرجة؟’
الأغرب من ذلك أن ذلك العزاء منحها راحةً حقيقية.
قبض شارتوس على كتفها مرةً أخرى بخفة، ثم أنزل يده وقال بصوتٍ منخفضٍ يغلّفه الحنان
“أحسنتِ العمل.”
“… هذا واجبي.”
كانت لحظةً غريبة، حتى لو كانت في أثناء العمل.
فكّرت في أنّه عادةً لا يفعل مثل هذا، وربما كان رجلًا أفضل مما يبدو.
وهذا ما أربك مشاعر روزنتين.
أن يبدو شخصٌ مثله حسن المظهر والخلق معًا، لعلّ ذلك من أقسى أشكال الظلم في هذا العالم.
‘أيها السيد شارتوس، فلنقف عند هذا الحدّ، أرجوك!’
صرخت في داخلها وهي تأخذ نفسًا عميقًا لتستعيد هدوءها.
رفعت رأسها ونظرت في عينيه مباشرة.
كان ينظر إليها بجدّيةٍ جعلتها تكتم أنفاسها وتعضّ على لسانها سرًّا.
“هل أنتَ مستعدّ لأن تندهش؟”
“لا أظنّ أن شيئًا سيفاجئني أكثر من وجهك الآن.”
تفحّص شارتوس وجه روزنتين مرةً أخرى، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ بطيئة.
‘هل يمكن أن يُوصف هذا بأنه مشهدٌ له رائحة؟’
لم تستطع منع نفسها من الابتسام هي الأخرى.
***
تحرّكت بسرعة إلى المكان الذي ذكره آرون.
وبالفعل، وُجد هناك خندقٌ صغير بجانب الزقاق، وكأن أحدهم حفره عمدًا.
كانت الأعشاب تنمو متفرّقة فوق التراب، ولو هطل المطر مرةً واحدة، لجرَف كلَّ شيء. بدا واضحًا أنّ ذلك كان مقصودًا.
مدّت روزنتين يدها داخل الحفرة وجسّت الأرض طويلًا حتى أمسكت بشيءٍ صلب.
لم يكن ترابًا، ولا حجرًا. كان ملمسه ناعمًا كالزجاج. فابتسمت.
أخرجت من التراب خرزةً صغيرة منقوشة بعلامةٍ محفورة.
كانت بحجم ظفر الإبهام، شفافة كأنها لؤلؤة، أو ربما ككرةٍ زجاجيةٍ لا يُرى داخلها.
كانت تُصدر ضوءًا خافتًا.
رفعت روزنتين رأسها نحو شارتوس، وعلى شفتيها ابتسامةٌ متقدة ووقحة في آنٍ واحد.
كان ذلك شيئًا تخلّى عنه على عجل، شيئًا كان عليه الاحتفاظ به حتى اليوم، ثم تخلّص منه بعد أن أنهى غايته ليمحو الدليل.
قالت روزنتين بوضوحٍ وهي ترفع الخرزة بين أصابعها
“العامل المُحفِّز، وجدته يا صاحب السمو.”
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 29"