واحد، اثنان، ثمّ أخيرًا واحد آخر. عندما اجتازت روزنتين الأزقّة الثلاثة كلّها، كان وجهها متجمّدًا. كانت حبّات صغيرة من العرق تتكوّن على جبينها من شدّة الجري.
لم يكن هناك شبح واحد يمكن الاستفادة منه. لم يوجد شبح يمكن الحديث معه بعقل سليم. لم تكن تعرف اسم أيٍّ من أشباح هذا المكان، لذا لم تستطع إيقاظ وعي الأرواح الشرّيرة.
كانت تتوق بشدّة إلى وجود “رانون”، لكنّ غيابه لا يعني أنّها تستطيع الإستسلام.
رفعت روزنتين رأسها فجأة بعد أن كان منخفضًا. أدركت أنّها تمسك بطرف ثوب شارتوس من دون وعي.
منذ متى وهي تمسك به أثناء الجري؟ لقد تجعّد القماش تمامًا. ألم يمانع هذا الرجل تصرّفها على هذا النحو؟ وفي اللحظة التي همّت فيها بالاعتذار، ضاقَت عينا روزنتين فجأة.
كان هناك شيء رقيق للغاية. أبيض وشفّاف إلى درجة أنّ عدم ملاحظته من قبل كان طبيعيًّا. بين الزقاق والحانة التي كانت مكان اللقاء، كان هناك جسد منكمش في فجوة ضيّقة.
وجوده كان خافتًا إلى حدٍّ يستحيل معه اعتباره إنسانًا حيًّا. اقتربت روزنتين ببطء نحو ذلك الضوء.
“سدّ أذنيك من فضلك.”
كان صوتها يخرج بشفافيّة، حتى أنّه كان بإمكان المرء أن يظنّه تعويذة حقيقية.
لم يكن شارتوس يطيعها فقط لأنّها طلبت ذلك، بل لأنّ صوتها كان يجذبه كذلك، فرفع يده إلى أذنيه. إطلاقُ القليل من الصوت بعد ذلك لم يكن بالأمر الصعب.
لكنّه، كما وعد، ظلّ ينظر إلى روزنتين في صمتٍ تامّ.
كانت خصلات شعرها المبتلّ بالعرق ظاهرة من تحت الغطاء الذي انزاح عنها دون أن تنتبه. شعر برغبة في أن يزيحه عن وجهها.
لكنه، بدلًا من أن يفعل، اكتفى بالنظر إلى عينيها المشتعلتين بلهيب قويّ. لم يكن يصدّق تمامًا تهديداتها حول اللعنات والسحر وما إلى ذلك.
فالأمراء، عبر الأجيال، كانوا حسّاسين تجاه السحر، إذ إنّ أسطورة تأسيس المملكة نفسها كانت لا تزال تُروى حتى اليوم.
تذكّر ذلك، فارتسمت على شفتي شارتوس ابتسامة بطيئة. لم يتحرّك سوى بدافع الرغبة في تحقيق ما تريده. كانت تلك الشعلة التي لا تنطفئ حتّى تحت المطر تخطف الأنظار بشدّة.
وإن نجحت تعويذتها واستطاعت استدعاء القوى الكامنة خلف الحدث، فسيكون ذلك أفضل ما يمكن.
“هل كنت هنا طوال الوقت؟”
سارت روزنتين بخفّة كأنّها تمشي فوق الماء. وفي تلك اللحظة غير الواقعية، لم يرمش شارتوس وهو يحدّق بها.
ما اكتشفته روزنتين كان شبح صبيّ صغير.
هل كان في العاشرة تقريبًا؟ كان يرتدي ملابس قذرة كما كانت في حياته، ويبكي بكاءً مريرًا للغاية. كان شبحًا يحمل حقدًا سيحوّله بالتأكيد إلى روح شرّيرة إن بقي هنا.
“هشش، لا تبكِ.”
قالت روزنتين بصوت حازم وهي تقترب منه.
يبدو أنّ الصبيّ لاحظ وجودها منذ أن كلّمته، وبدورها كانت روزنتين تراه أيضًا.
روزنتين، أو بالأحرى “يون سيول”، كانت منذ زمن بعيد تشعر بوجود كلّ الأشباح التي تتّجه نحوها.
توقّف كتفا الصبي المرتجفان شيئًا فشيئًا. التفت وجهه الجافّ، الذي لم يذرف دموعًا رغم بكائه، نحوها. كانت نظراته بريئة.
– …مَن… أنتِ؟
“إنسانة حيّة.”
اتّسعت عينا الشبح الصغير بدهشةٍ عارمة، كأنّه لم يعد قادرًا على استيعاب المزيد من المفاجآت.
– لا تَسخَري! كيف تتكلّمين معي؟!
جلست روزنتين القرفصاء لتجعل عينيها في مستوى عينيه. وفي هذه المسافة، لن يلاحظ شارتوس الذي يقف خلفها أيّ غرابة في المشهد إن اكتفى بالمراقبة فقط.
“أستطيع التكلّم معك.”
– …لا أريد.
“ماذا؟”
– لا أريد أيّ شيء… أشعر بالبرد، والجوع، والتعب. أشتاق إلى أمّي.
هذا هو نوع الحزن المعتاد لدى الأرواح. إذ يبهت الهدف الواضح شيئًا فشيئًا، ولا يتبقّى سوى جوعٍ غريزيٍّ كهذا.
نظرت روزنتين إلى الصبيّ. كان وجهه المتسخ، الذي أصبح شفّافًا وباعثًا لضوء خافت، يُذكّرها بشخصٍ ما… بكورت.
حينها رقّ صوت روزنتين قليلًا. إن لم يكن قد تحوّل إلى روح شرّيرة بعد، فهذا يعني أنّ موته حديث نسبيًّا.
“هل تشتاق إلى أمّك؟”
– نعم.
“نادِني بالأخت روآن.”
– الأخت روآن؟ هل تعرفين أين أمّي؟
رغم أنّه لا دموع له، إلا أنّ عينيه بدتا كأنّهما تلمعان برطوبة خفيفة.
فكّرت روزنتين أنّ وجه الطفل بدا وحيدًا للغاية، ثمّ أدركت فجأة سبب هذا الشعور.
ذلك الشبح الصغير الذي يبحث عن أمّه، والمحروم من الرعاية… ذكّرها ليس فقط بكورت، بل أيضًا بـ”يون سيول” الصغيرة، بنفسها القديمة.
رمشت روزنتين عدّة مرّات. لقد كان ذلك منذ زمن بعيد إلى درجة أنّها ظنّت أنّها نسيته. أو لعلّها أقنعت نفسها بأنّها نسيت.
“ما اسمك؟”
– آرون.
“آرون، هل تعرف أين والدتك؟”
– لا… لكن أبي قال إنّ أمّي ذهبت بعيدًا…
عبارة ذهبت بعيدًا التي يقولها الآباء عادةً تعني أحد أمرين: إمّا أنّها غادرت حقًّا، أو أنّها ماتت.
وبما أنّه من سكّان الأحياء الفقيرة، فكلتا الحالتين محتملتان.
إن كانت الحالة الثانية، فربّما يمكنها مساعدته بطريقةٍ ما.
“إن ساعدتني، سأعثر لك على والدتك.”
– حقًّا؟ كيف؟
“هل رأيت رجلاً خرج من هنا مؤخرًا؟ كان يرتدي ثيابًا سوداء. خرج قبل أن أخرج أنا.”
نظر إليها آرون بعينين صافيتين، ثمّ ابتسم بفرح.
– نعم!
كانت تلك الإجابة الصحيحة. هتفت روزنتين في سرّها فرحًا. الشاهد الوحيد، وشهادته الوحيدة.
حتى لو ظهر نورت كشبح فجأة في هذا المكان فلن يكون ذلك نافعًا، لكنّ الصبيّ القريب من الحانة، وهو أقرب من أيّ شخص آخر، رآه.
– كان رجلاً قصيرًا، أليس كذلك؟
“صحيح يا آرون، ذكيٌّ أنت.”
– هيه، أمّي قالت ذلك أيضًا. ذهب الرجل إلى ذاك الاتجاه.
“ذاك الاتجاه؟”
الجهة التي أشار إليها بإصبعه الصغير كانت أحد الأزقّة التي دارت فيها روزنتين مع شارتوس مرّتين من قبل. لاحت عليها علامات الخيبة للحظة.
إن توقّفت الشهادة هنا، فعليها أن تبدأ مجددًا بخيطٍ ضعيفٍ آخر. ومع ذلك، فالمساحة التي ستبحث فيها تقلّصت إلى الثلث، وهذا ليس بالأمر السيّئ.
لكن آرون أضاف بضع كلمات أخرى:
– نعم، وقبل أن يذهب، رمى شيئًا نحو ذاك المكان.
“هذا هو.” لمعَت عينا روزنتين. في محاولةٍ لقطع الأثر، لا بدّ أنّه تخلّص من شيءٍ حتّى وهو في موقفٍ قاتل. كانت متأكّدة من أنّ ذلك الشيء هو الدليل.
“أتدري ما هو؟”
– لا، لكنّه كان يلمع.
وقفت روزنتين على الفور. لكن قبل أن تذهب، كان عليها أن تفعل شيئًا أوّلًا. ما يُؤخذ يجب أن يُردّ، سواء كان حقدًا أو معروفًا.
تلاقت عينا روزنتين وآرون بلطف. بدأت شفتا الطفل، الذي ذبل طويلاً لعدم قدرته على التحدّث مع أحد، تستعيدان بعض الحياة.
ولو أنّها استطاعت لمس شعره، لكان جميلًا. شعرت روزنتين بالأسف لأنّها لا تستطيع لمس الأشباح. عادةً ما يكون ذلك أمرًا مزعجًا، لكن في هذه اللحظة بالذات تمنّت لو أنّها تستطيع.
بدلًا من ذلك، رفعت يدها نحو الموضع الذي يفترض أن يكون فيه شعر الشبح، تمامًا كما فعل “رانون” ذات يوم. لم تشعر بشيء، ومع ذلك أغمض آرون عينيه براحة.
“هل تحدّثني أكثر عن أمّك؟”
– نعم، أمّي جميلة جدًّا. يقولون إنّها الأجمل في هذه المنطقة. تشبه الملاك حقًّا.
“أفهم، وكيف اختفت أمّك؟”
– لا أعرف، فقط في منتصف الليل… قالت إنّها لن تتركني وحدي، وإنّها ستشتري لي طعامًا لذيذًا.
انخفضت نظرة روزنتين. غلبها الاعتقاد أنّ السبب هو ما توقّعته: الأمّ ماتت، والأبّ أخفى الحقيقة.
لم تكن تعرف كيف ولماذا ماتت الأمّ والابن معًا، لكنها أرادت أن تعرف السبب. لولا أنّها لاحظت قدمي آرون المغروستين في الأرض.
‘نذير شؤم.’
هل يجب أن تقول “روح شرّيرة”؟ عادةً ما يُطلق على ذلك اسم “الروح المقيّدة بالأرض”. وبعد أن تصبح كذلك، يكون التحوّل إلى روح شرّيرة أمرًا سهلاً.
لقد رأت الكثير من الأرواح الملتصقة بأعمدة الكهرباء أو بمواقع الحوادث، تتحوّل وجوهها تدريجيًّا إلى السواد ثمّ تصبح شرّيرة.
إن كانت قدماه عالقتين في الأرض، فهذا يعني أنّ آرون لا يستطيع التحرّك. والمشكلة أنّ هذه الظاهرة لا تحدث في يومٍ أو يومين.
نظرت إليه روزنتين بعينين متفحّصتين من جديد. رغم أن ثيابه كانت مجرد أسمال، إلا أن شكلها بدا مألوفًا على نحو غريب.
نعم، كان يشبه الشبح الذي رأته في قصر أرجين. ذاك الذي قيل إنه مات قبل أربعين عامًا.
“آرون.”
“نعم، أختي.”
“كم عمرك يا آرون؟”
“تسع سنوات!”
“هل تعرف في أي سنة وُلدت؟”
“أمم، لا أعرف…”
تردّد آرون قليلًا وهو يراقب نظرات روزنتين. كان من الطبيعي أن طفلاً لم يتلقَّ أي تعليم لا يعرف سنة ميلاده.
حين ابتسمت له روزنتين بابتسامة مشرقة، ارتسمت الطمأنينة على وجهه، وابتسم هو أيضًا ببراءة.
طفل لا يعرف شيئًا، يبحث عن أمه، وسرعان ما سيتحوّل إلى روح شريرة.
رمشت روزنتين بعينيها. لا يمكنها أن تتركه على هذه الحال.
رفعت يدها ومدّتها أمامه.
وحين وضع آرون يده فوق يدها، كانت تمرّ من خلالها في كل مرة.
“تشتاق إلى أمك، أليس كذلك؟”
“نعم… جدًا… حقًا كثيرا… أمي قالت إنها ستبكي إذا لم أكن معها…”
كاد آرون يبكي وهو يتحدث.
نظرت روزنتين إلى وجهه، ثم ألقت نظرة خاطفة على شارتوس.
كان واقفًا في مكانه، يسدّ أذنيه بشكلٍ واضح كما طلبت منه.
وحين التقت عيناهما، ابتسم ببطء، وكأنه يشاهد أوبرا من بعيد.
‘هل انتهيتِ؟’
سألها بحركة شفتيه.
هزّت رأسها نفيًا.
ورغم مظهره المسترخي، كان متمركزًا في موقع يحمي ظهرها تمامًا.
أي شخص يقضي وقتًا كافيًا معه سيفهم — لا مبالاته الظاهرة ما هي إلا شكل من أشكال الثقة التي يمنحها لأتباعه.
‘إذًا يجب أن أفي بما منحه.’
استدارت روزنتين من جديد.
ومن موقع شارتوس، لم يكن بإمكانه أن يرى ما كانت تفعله بالضبط.
لا بأس، يمكنه أن يظن أنها تمارس نوعًا من الشعوذة الغامضة.
نظرت إلى آرون مباشرة.
“هل تعرف اسم أمك؟”
“أغاثا. السيدة نو قالت إن أمي اسمها أغاثا!”
“أغاثا. فقط هذا الاسم؟”
“نعم… أمم؟”
اسم الروح.
بينما تفكّر بذلك، أغمضت روزنتين عينيها ببطء ثم فتحتهما مجددًا.
استحضرت الإحساس ذاته الذي استخدمته عندما طردت الروح الشريرة من جسد كورت.
هبّت نسمة خفيفة حول روزنتين.
ورغم أن الأشباح لا يمكنها الإحساس بذلك، إلا أن آرون انكمش وكأنه شعر بالبرد.
“آرون، أخبرني باسم عائلتك.”
“باسم عائلتي؟”
“ما اسمك الكامل الأصلي؟”
الاسم.
في تلك اللحظة، تجمّعت هالة من الضوء في مركز عيني آرون.
رمش ببطء وقال
“آرون مينتا.”
“آرون مينتا.”
شهقت روزنتين بصوتٍ خافت.
ربما تنجح هذه الطريقة فعلًا.
شعرت بأطراف أصابعها تتصلّب بتوترٍ طفيف.
نظرت إلى الشبح الصغير أمامها.
كانت قدماه الملتصقتان بالأرض لا تبدوان مرعبتين، بل أشبه بزهرة دوّار شمس صغيرة تحدّق في الشمس.
أصدري الأمر.
كأن صوتَ رانّون جاءها من مكانٍ بعيد.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات