كانت رائحة عفنة تفوح في الحانة. مزيج من العرق والعفن، ورائحة الخمور القوية المسكوبة على الأرض.
صرير الألواح الخشبية تحت الأقدام كان يتخلل بين الأحاديث الصاخبة.
كان السقف على وشك الانهيار، غير أنهم كانوا يعلمون بوجود مساحة أوسع تحت هذا القبو.
دخل نورت إلى الحانة بخطوات مألوفة، دون لحظة تردد واحدة.
“إنه مكان يُصنّع فيه الخمر بطريقة غير قانونية.”
هكذا همس شارتوس لروزنتين. صوته المخفوض لم يثر أي انتباه وسط القاعة المزدحمة بالسكارى الذين يتحدثون بثرثرة صاخبة.
كان وجهه مختلفًا تمامًا، بحيث لم يعد يبدو كشارتوس كارتاجين. فقد طمست ملامحه بطبقة كثيفة من السخام، وأخفى ما تبقى تحت قلنسوة غارقة على رأسه.
لو لم يكن ذلك الشريط الملطخ الملفوف حول ذراعه، لربما أثار الشكوك. فحتى وإن أخفى وجهه، فإن قامته كانت لافتة للأنظار.
شعر الأمير كان الآن بنّيًا داكنًا، بفضل صبغة مؤقتة حصل عليها لوسين من أحد الخيميائيين.
أما الضمادات الملفوفة على ذراعه فكانت تُظهره كأنه مريض، فلا أحد قد يتخيل أنه من دم ملكي. وبدورها، كانت روزنتين قد غطّت رأسها بقلنسوة غائرة أيضًا.
فكرت للحظة في التنكر كعجوز، لكنها كانت قد تظاهرت بدور الجدة مرة من قبل وخدعت شارتوس به، ولم يكن من الممكن أن تعيد تمثيل المشهد أمامه ثانية.
لكن حتى بهذا القدر، كان التخفي كافيًا داخل هذه الحانة. فمعظم من لا يملكون وسيلة لغسل ثيابهم كانوا يلجأون إلى القلنسوات ليخفوا هيئتهم.
“لقد مضى وقت طويل.”
“فلننتظر قليلًا بعد.”
“لا خيار آخر.”
ولحسن الحظ، لم يحاول نورت الفرار قبل وصولهم إلى الحانة. كان قد غطى رأسه هو الآخر بقلنسوة لإخفاء جروحه، ومشى بخطوات بطيئة. وحتى بهذه الحركة البسيطة، بدا وكأنه يذوب في زقاق المدينة الخلفي، الأمر الذي شدد ملامح شارتوس.
لقد كانت دلالة واضحة على ثلاث سنوات قضاها يعمل جاسوسًا.
كان نورت يبدو متوترًا كأنه مطارد. صحيح أن شارتوس و روزنتين كانا يتبعانه من الخلف، لكن عينيه القلقتين أظهرتا ما هو أكثر من ذلك. ولهذا كان وصوله حتى الحانة مفاجئًا بحد ذاته.
شعرت روزنتين أنها بحاجة إلى الحذر منه أكثر.
“ها هو قادم.”
كان شارتوس على حق.
خفضت روزنتين جسدها أكثر لتتذكر قامة الرجل. كان أصغر بقليل من المتوسط.
الرجل ذو القلنسوة السوداء ألقى بنظرة سريعة حول المكان من المدخل، ثم رمى بصمت قطعة نقدية إلى صاحب الحانة. فجلب له هذا الأخير إحدى زجاجات الشراب القليلة المتوفرة بما يناسب الثمن.
وما إن جلس الرجل أمام نورت حتى ساد جو من التوتر الخافت.
روزنتين حاولت جاهدًة أن لا تُظهر توترها، بينما تصغي إلى ما يُقال.
غير أن المسافة بينهما لأجل الأمان كانت بعيدة جدًا، بحيث لم تستطع سماع أي كلمة.
حتى شارتوس تظاهر بالحديث معها بينما كان يرهف سمعه إلى محادثتهما. وبفضل حواسه المدرّبة، التقط بعض الكلمات المتقطعة.
“……المحفّز…….”
“……هل…….”
“……نجاح…….”
كان الصوت الذي تحدّث عن “النجاح” كما أمر، هو صوت نورت بلا شك.
لكن جلستهما جعلت روزنتين ترى ظهر نورت فقط. حاولت أن تراقب الرجل المقابل، لكن وجهه المخفي تحت القلنسوة لم يُرَ بوضوح.
تبادل الاثنان بعض الكلمات القصيرة وابتلعا رشفات قليلة من الشراب.
كانت محادثتهما قصيرة لدرجة مذهلة. كما قال نورت، لم يكن سوى تبادل كلمات مشفرة مقتضبة، ثم بدا أنهما سينصرفان.
وحين نهض الرجل ليستعد للمغادرة، تبادلت روزنتين النظرات مع شارتوس. لقد حان وقت التنفيذ.
كان من المفترض أن يُبقي نورت الرجل جالسًا، ليستغل شارتوس اللحظة فيتجه نحو المخرج ويمسك بهما معًا.
لكن—
“دانج!”
صدر صوت مقعدٍ مهترئ ينقلب.
نظرت روزنتين إلى نورت. لكنه لم يتحرك.
قفزت من مكانها بسرعة، وتدحرجت إلى الجانب حتى لا يلحظها أحد، محاولةً تأمين طريق للهرب.
‘فات الأوان.’
غمرها التوتر في لحظة واحدة.
وبينما كان الرجل ينهض مسرعًا متجهًا نحو المخرج، ارتفعت أصوات صاخبة لمجموعة من السكارى يرفعون كؤوسهم في نخبٍ عالٍ، حاجزين الرؤية.
لم تتمكن روزنتين من رؤيته بوضوح، فانكمشت ملامحها بغيظ. لا شك أنه استغل تلك اللحظة ليبتعد إلى الخلف ويهرب. لم تُدرك إن كان قد لاحظ أنه مراقَب.
أسرع شارتوس و روزنتين نحو نورت. فلو كان هناك عقد أو اتفاق بينه وبين الرجل، فلا بد أنه سيبقى معه.
أجل، إن كان بينهما اتفاق حقًا…
“لقد خُدعنا.”
قال شارتوس أخيرًا، بصوت خافت كأنه يزمجر، بعد لحظة صمت ثقيلة. كلماته المنخفضة ارتجّت في أذن روزنتين.
لكنها لم تستطع أن ترد. كانت تعلم أنهما بحاجة للتحرك فورًا، لكن المشهد أمام عينيها كان كصفعةٍ قوية على قفاها.
كان نورت ميتًا.
خيط رفيع من الدم تسلّل من فمه ولطّخ ياقة ثوبه.
الهالات الزرقاء حول عينيه لم تدع مجالًا للشك—لقد قُتل بالسم.
عدم حركته طوال ذلك الوقت لم يكن سوى لأنه فارق الحياة بالفعل.
عضّت روزنتين شفتها السفلى. لم تتوقع أبدًا أن يتم التخلص منه بهذه السرعة. كانت تظن أنهم سيراقبونه قليلًا بعد.
“إنه أكثر تهوّرًا مما توقعت. وجبان أيضًا.”
هكذا، ما إن انتهى نورت من مهمته، حتى قُضي عليه على الفور.
لقد أدرك شارتوس أن الرجل كان قد حضر إلى اللقاء وهو عازم مسبقًا على قتله.
قادها شارتوس.
خرجا من الحانة دون أن يثيرا الانتباه وتفحّصا الخارج.
في الزقاق الخلفي البالي لم يكن هناك حتى شحاذ أو سكير معتاد.
بمعنى أنّه لم يكن هناك شهود.
عرفت روزنتين بالفطرة أنّ الرجل الذي التقى بنورت هو الذي خطط لهذا الهروب كله ورتّب الاتصال.
كما توقّعت، إنه رجل محكم التدبير.
“هل أفلت منّا؟”
الزقاق الخلفي لم يكن إلا كالمتاهة.
وفوق ذلك، كان هناك الكثير من الممرات السرّية التي لا يعرفها إلا القليل.
فالمنطقة بأكملها كانت مليئة ببيوت مبنية من ألواح الخشب.
لو كان هناك مخرج واحد للهروب، لربما استطاع شارتوس أن يقبض عليه بسرعة،
لكن الآن، كان الأمر أشبه بخسارة سمكة كانت بالفعل في الشباك.
عضّت روزنتين على شفتها.
“انتظر.”
آسفة، لكن لا أستطيع أن أترك الأمر يمرّ هكذا.
عضّت على أسنانها.
لقد رأت الكثير من الموتى من قبل، لكن رؤية جثة ما تزال دافئة كان شعوراً مختلفاً تماماً.
تنفّست بعمق مراراً حتى هدّأت معدتها المضطربة.
خيط مقطوع وجاسوس ميت.
لقد قطع ذيله وهرب مثل السحلية مرّة أخرى.
لا شهود.
ولا أي أثر يمكن أن يقود إلى الخيط التالي.
“لكن ذلك، هو حديث الأحياء فقط.”
تلألأت عيناها الزرقاوتان ببرودة.
وفي عيني روزنتين، التي ترى ما وراء الواقع، بدت الأرواح الحزينة واضحة.
حتى لو تخلّص من البشر، فلن يستطيع التخلّص من الموتى.
لقد اختار الخصم الخطأ.
حان الوقت الآن لتُخرج مهارتها الخاصة.
***
‘الأرواح الشريرة كثيرة.’
كما هو متوقَّع من حي الفقراء.
كثيرون ماتوا بعد حياة مليئة بالبؤس، فامتلأت نفوسهم بالغضب.
ألقت روزنتين نظرة حولها من حيث تقف.
كان هناك حوالي ثلاثة طرق تخرج من الحانة.
إذن أول ما يجب فعله هو معرفة إلى أي طريق فرّ ذلك الرجل، وماذا فعل هناك.
أن يجرؤ على قطع ذيله والهرب؟ هذا أمر لا يمكن السماح به.
سيدرك قريباً أن كل ما حوله لم يكن سوى شبكة عنكبوت.
على جدار في أحد الأزقة، كان هناك شبح بوجه مفقود نصفه.
ما تبقى من وجه أسود وهو يتدحرج بعين واحدة كان منظراً مثيرًا للرعب.
الأرواح الشريرة لا تستطيع الكلام بشكل صحيح إلا إذا لم تكن خبيثة للغاية.
أولئك الذين تلاشت ذواتهم، لم يكن مؤكداً إن كان بالإمكان الحصول على أي معلومات منهم.
هل هو روح شريرة أم لا؟
ذلك سيكون العنصر الأهم الآن.
فتحت روزنتين فمها لتنطق مخاطبة الشبح، لكنها توقفت.
خلفها كان شارتوس يراقب كل حركة تقوم بها.
نظرت إليه.
كان واقفاً وسط الزقاق الضيّق، يده على مقبض سيفه وكأنه يحميها.
السيف الأسود المخفي تحت ردائه كان سيُخرج لمعانه القاطع بمجرد إشارة بسيطة منه.
ما أدهش روزنتين أنّ عينيه لم تحمل الشك بقدر ما حملتا الرغبة في الحماية.
“دعني أتفقد المكان بمفردي قليلاً.”
“هذا المكان؟ أتظنين أني سأسمح بذلك؟”
“…لا يبدو خطيراً جداً.”
أخفت روزنتين حيرتها بصمت.
تحقيقاتها تعني لقاء الأشباح.
لكنها لم تُرِ شارتوس قدرتها تلك من قبل.
لو خطر بباله أنّ هذه القدرة تهدد أمنه، فقد يقرر التخلّص منها، وذلك سيكون كارثة.
تأملت روزنتين عينيه، فرأتهما أشدّ صرامة من أي وقت مضى.
‘عادةً، في مثل هذه المواقف، يكون الناس أكثر فضولاً حول ما ستستخدمه من قدرات…’
لكن شارتوس كان يقترب منها وهو يراقب محيط المكان.
طبعاً، كانت هناك احتمالات لا تُحصى لظهور مهاجمين من أي اتجاه.
لكن يكاد يكون من المستحيل مباغتة مبارز لم يُهزم من قبل وهو في حالة تأهب.
كان يتفحّص بدقّة كل زاوية قد يأتي منها هجوم.
جسده الصلب المنتصب، حتى وهو مغطى بالغبار، كان يحمل هيئة ملكية.
ابتسمت روزنتين بسخرية.
‘تركه هنا وحده سيكون مشكلة أيضاً.’
لسبب ما، شعرت أنّ احتمال انكشاف شارتوس بدا أكبر من احتمال تعرّضها هي للخطر.
صحيح أنّه، بقدراته الجسدية، يمكنه أن يفرّ حتى قبل أن يكتشفه أحد.
لكن ذلك لم يكن المهم.
رمقت روزنتين الشبح خلفها.
كان السواد قد غطّى بياض عينه الوحيدة.
إنه روح شريرة. وقد أدركت ذلك تلقائيا.
“جلالتك، ما مدى قدرتك على القتال من دون حاسة السمع؟”
“السمع؟”
“سأستخدم قدرتي. لكن، إذا سمعت لغة المشعوذات، ستصيبك لعنة.”
“حقاً؟”
حتى في هذا الوضع، ابتسم شارتوس لها كما لو أنه سمع شيئاً يثير اهتمامه.
وربما بسبب التوتر، كان وجهه أشدّ سحراً.
أومأت روزنتين بلا خجل.
بالطبع، لم يكن ذلك صحيحاً. لكن هنا، هي نفسها المشعوذة.
ولو ادّعت أن المشعوذين لا يقضون حاجاتهم حتى، لما كان لشارتوس أن يعرف الحقيقة من الكذب.
“سيكون من المؤسف أن أقتل زبوني الذي أنقذته بيدي.”
“واثقة بنفسك. لو كان لديك مثل هذه القدرة، لما كنتِ مضطرة للاختباء.”
“لكن لا أحد يستطيع مواجهة كثرة العدد.”
وكانت تشير إلى الإمبراطورية بأسرها.
بالطبع، حتى لو كان عددهم جنديين اثنين، لكان إسقاطها سهلاً.
منذ البداية وهي تخادع، فلتخدع هنا أيضاً.
هكذا عزمت روزنتين.
ثم أمسكت بثياب شارتوس وبدأت تركض.
“يجب حجب السمع تماماً كي لا يكون هناك خطر.”
“سأفعل.”
ليس ذلك الطريق.
ركضت روزنتين وهي تلتقط بعينيها كل شبح منكمش في الأزقة.
اللعنة.
معظمهم أرواح شريرة.
لا، بل كل من رأته طوال الطريق كانوا كذلك.
لم ينبس شارتوس بكلمة أخرى، وظلّ يتبعها.
تطاير شعرهما مع الريح وهما يركضان.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات