كان فالسٌ من أربعِ نغماتٍ يصبغُ نسيم الليل.
تعزف الفلوت لحنًا كالسيرينادة،
وتناغمت معها ضحكاتٌ مرحة تزيّن أرجاء القصر الإمبراطوري.
وصلت عرباتٌ تحمل شعاراتٍ مختلفة، الواحدة تلو الأخرى.
وفي المساء، أضاءت أنوارٌ سحرية مرخّصة مدخل القصر الإمبراطوري بإبهارٍ أخّاذ.
هكذا بدأت حفلة عيد ميلاد أفينتوا.
الأميرة أفينتوا، شقيقة الإمبراطور، التي لا تزال جميلة رغم كبر سنها، ابتسمت ببشاشة وهي ترتدي عقدًا مرصعًا بالألماس.
كان العقد هدية من الإمبراطور بمناسبة بلوغها الخمسين من عمرها.
لمع عقدها المرصع بستين قطعة ألماس صيغت بدقة، رمزًا للصحة والازدهار.
وحيث إنّه هدية من الإمبراطور، فقد كانت قيمته لا تُقدّر بثمن.
أخفت النبيلات وجوههنّ بالمراوح، لكن عيونهن كانت مليئة بالحسد الواضح.
التهاني والهدايا التي قُدّمت لها كانت تزيد من سعادتها.
“إنها جميلة.”
“خاصة اليوم، تبدو جميلة أكثر من أي وقت مضى.”
قالت روزنتين وهي تحدّث لوسين.
كانا واقفين على جانب القاعة، حيث يتجمّع فرسان حراسة النبلاء، بعيدًا عن مركز الحفلة المزدان بأضواء الشانديلييه الفاخرة.
والأدق أن نقول إن روزنتين رأت لوسين وجاءت إلى هذا المكان.
كان هوستانغ من عائلةٍ نبيلة، أمّا لوسين فلم يكن كذلك.
ووقوفه مع الخادمة روزنتين جعل البعض يتكهن بهويته.
ارتدى لوسين ملابس أنيقة رسميّة كالعادة،
وروزنتين بزيّها كخادمة لم تبدُ في غير موضعها إلى جانبه، فكان يبدو كأنّه طلب منها خدمة ما.
ابتسم لوسين بوجهٍ لطيف وضعيف، ومن مكانٍ غير بعيد، تنهدت آنسةٌ وهي تنظر إلى ابتسامته.
رجلٌ وسيم بنظرةٍ حزينة.
ربما لم يكن بمستوى شارتوس، لكنّه كان يجذب الأنظار.
بل لعلّه كان محطّ أنظارٍ أكثر منه.
وربما، من حيث تأثيره الخفيّ على قلوب النساء، كان لوسين يتفوّق على شارتوس.
“اليوم هو اليوم.”
“نعم، هو كذلك.”
“هل يمكننا تفاديه؟”
دار بينهما حديث هادئ، لكن بين كلماتهما كانت تتسلل مشاعر التوتر الخفية.
كانت روزنتين تنظر إلى الشانديلييه المتألقة.
تذكّرت كلمات لانون:
‘أليس من الممكن أن يكون السم في كلا الكأسين؟’
عندها فقط، فهمت روزنتين مغزى رسالة المرت.
كان مرض ولي العهد يزداد سوءًا،
ولم يعد يستطيع مغادرة فراشه، لذا لن يحضر حفل الليلة.
وكان الكونت يعرف ذلك.
في حفلةٍ لا يستطيع ولي العهد حضورها بسبب مرضه، الشخص الوحيد الذي قد يتعرض للخطر بسبب كأسٍ مسموم هو شارتوس.
“سنرى ما سيحدث.”
وإذا وقع الحادث، فمن الطبيعي أن تُوجَّه الشبهات إلى جناح ولي العهد.
لكن موت شارتوس لن يجلب نفعًا لألمورت.
أجابت روزنتين بجملة مقتضبة، لكن لوسين نظر إليها بقلق ظاهر.
الفارس الذي لا يُهزم يصعد إلى المقصلة،
ونائبه، هو والساحرة الوحيدة التي يستطيعان الاعتماد عليها. ينظران اليه الآن، وهذا التناقض المضحك جعل لوسين يضحك بمرارة.
(لا يمكننا ببساطة التخلص من الكأس.)
قالها لوسين ذات مرة بوجهٍ حرج، وأومأ شارتوس برأسه ببطء إلى جانبه.
وروزنتين كانت تفهم ذلك أيضًا.
إسقاط الكأس في حفلة أفينتوا يعني أكثر من مجرد تصرف غير لائق.
في إمبراطورية كارتاجين الذهبية،
الذهب يُمثّل القداسة.
وقد درجت الأسرة المالكة، التي طالما عانت من أعمارٍ قصيرة، على تقديم التبريكات من وليّ العهد في أعياد ميلاد الملوك كل عشر سنوات.
في هذا الطقس، يقرأ الإمبراطور بركته فوق الكأس الذهبي، ويشرب الوريث النبيذ الموجود فيه.
وبهذا، ينال الوريث بركة الصحّة والازدهار.
النبيذ في هذا الطقس يرمز إلى الجسد الملكي،
وأنّه سيظل موحّدًا للأبد في الأجيال القادمة.
فما الذي سيحدث إن سكب أحدهم النبيذ من كأس أخته الوحيدة، التي يقدّسها الإمبراطور؟
ببساطة، هذه إهانةٌ للقداسة ذاتها.
تدنيسٌ لطقسٍ مقدّسٍ في كارتاجين.
وفي ظلّ الشكوك حول خلافٍ بين ولي العهد وشارتوس،
فإن سكب شارتوس الكأس،
فهو سيُعاقب بشدّة من الإمبراطور، إن لم تكن العقوبة ذاتها الموت.
حتى لو ادّعى أن الكأس كان مسمومًا،
فأدلتهم لا تتعدى الشبهات القائمة على السحر،
ورسالة سرّية من المرت، وقد يُتّهم بالخيانة ويُعدم.
الفارس الذي لا يُهزم لا يموت بسمٍّ عادي،
وهكذا، فمن يسعى لقتله، لا بدّ أن يكون قد حضّر سمًّا خاصًّا.
ولو ساء الحظ، قد لا يُثبت لاحقًا حتى أن الكأس كان يحتوي على سم.
“وفوق هذا…”
قالت روزنتين بصوتٍ منخفض، فنظر شارتوس نحوها.
“حتى لو نجا من كأسٍ واحد، فلن نربح شيئًا.”
كانت عيناها تلمعان بالأزرق وهي تفكّر بجنون،
وكان ذلك الضوء يخطف الأنظار.
رفع شارتوس زاوية شفتيه بابتسامةٍ هادئة.
“حتى لو كنتِ على شفا الموت، ستنظرين إلى المستقبل.”
“هذه هي مهنتي. ألم تنسَ؟ هدفي هو أن أُبقيك حيًّا حتى النهاية.”
غياب ولي العهد.
شارتوس لم يكن الهدف الأصليّ للكأس الذهبي.
في الأصل، يُمنح الكأس الذهبي لمن هم مرشّحون لخلافة العرش.
ووجود كأسين يعود لهذا السبب.
كأسان، واحد لولي العهد، وآخر لشارتوس.
لكن بما أنّ كلا الكأسين يحتويان على السم،
وولي العهد لم يحضر الحفلة،
فلن يشرب من كأسه.
وبالتالي،
سيذهب الكأس الذهبي إلى شارتوس وحده.
وكان شارتوس لا يعلم بعد أن ولي العهد لن يحضر.
ولم يكن يعلم بذلك إلا المقربون من المرت.
بمعنى آخر، الشخص الذي دبّر ذلك، يعرف جيّدًا حالة ولي العهد.
روزنتين لم تكن مرتاحة لهذا الأمر.
هذا الشخص يعرف خفايا القصر جيدًا…
—
“ما الذي ستفعله؟”
“سأنقذ نفسي، ألم أقل ذلك؟”
سأل لوسين بوجهٍ حزين،
فيما كان شارتوس يتكئ على ذقنه وكأن الأمر مسلٍّ بالنسبة له، وشعره الفضي يتدلّى فوق يده.
حتى هذا المنظر بدا وكأنه لوحة،
وكان ذلك كافيًا ليصيب روزنتين بالغضب.
إنه يحمّلها مسؤولية هذا الموقف المعقد بلا رحمة.
أخرج شارتوس خنجرًا من خصره،
كان خنجره الشخصيّ، يحمل ختم العائلة المالكة.
وكانت الزخارف الفضية عليه تتلألأ ببرودة.
أمسك بالخنجر من غمده وألقاه تحت قدم روزنتين.
كان يبتسم وكأنه يختبرها، وكان منظره يبعث على القشعريرة.
(إنه وحش)،
فكرت روزنتين دون وعي.
“لتجدي طريقة، روان.”
“وإن لم أجد؟”
“سأموت.”
“وسأموت أنا أيضًا.”
“ذكيّة، فهمتِ بسرعة.”
هذا يعني أنه سيشرب الكأس متوكّلًا على مشعوذة متعاقدة مؤقتة.
وكانت مخاطرةً كبيرةً للغاية لتُعتبر مجرد اختبار.
بل أقرب ما تكون إلى انتحارٍ جماعي.
كان لوسين واقفًا بجانبه، وقد قبض على يده بغضب.
“أنت متهوّر.” قالتها، فرفع شارتوس كأس النبيذ الذي تركه في مكتبته.
“ألم يكن هذا فحوى عقدنا من البداية؟
عقدٌ مرتبطٌ بالموت. حتى يفرّقنا القدر.”
ابتسم شارتوس بهدوء، ونظر إليها بطرف عينه وهو يتكئ على ذقنه، وكان شكله فاتنًا إلى حدٍّ خيالي،
حتى الهيبة التي تشعّ من جسده الوسيم كانت مذهلة.
(يا إلهي، هل يمكن أن تكون الهيبة وسيمة أيضًا؟)
تجهم وجه روزنتين وهي تشاهد هذا المشهد غير المعقول.
مثل هذه الكلمات الرومانسية في هذا الوقت لا تُعدّ إلا تهديدًا.
(رجاءً، لا تجعلني أتأملك وسط الأزمة.)
ضغطت على أطراف أصابعها،
ثم قالت بحزم:
“لم تظهر لي بعدُ أرواح الموت.”
“إذن، الأمر نفسه ينطبق عليّ.”
قالها مبتسمًا بهدوء.
“سأشرب من الكأس. وإلى حينها، هذا مقدار الوقت المتاح لك، روان.”
وكان ذلك آخر أمرٍ سمعته روزنتين منه.
التعليقات لهذا الفصل " 14"