الفصل 95
لم أستطع التمييز بين ما إذا كان هذا واقعًا أم مجرد امتداد لحلم.
إذا كان واقعًا، فهو أشبه بالحلم، وإن كان حلمًا، فهو نابض بالحياة بشكل لا يصدق.
كان كاير يحدق بي بعينين متسعتين، وكأنه مصدوم.
“هل هذا حلم؟”
على الرغم من معرفتي بأنه حلم، إلا أنني تعمدت طرح السؤال على كاير، الذي لم يكن سوى وهم في مخيلتي.
تسلل ضوء القمر عبر النافذة، مُلقيًا بظلال متباينة على وجهه.
في الظلام، تماوجت عيناه الذهبية بانعكاسات مربكة.
كان مشهدًا يخطف الأنفاس بجماله، لدرجة أنني تمنيت أن ينطق بأي كلمة.
تحركت شفتاه أخيرًا.
“…لا. ليس حلمًا.”
إذا لم يكن حلمًا، فهل يعني ذلك أنه واقع؟
إذن، أين بدأ التداخل بين أمنيتي التي تنكرت في هيئة حلم، وبين الحقيقة؟
حدقت به بصمت للحظات، ثم فتحت شفتي ببطء.
“منذ متى؟”
رغم ارتعاش قلبي، خرج صوتي هادئًا بجفاء غير متوقع.
بدا وجهه وكأنه يحمل مزيجًا من الحزن والتوق، وكأنه يتوق إلى شيء بعيد المنال.
خصلات شعره الأسود الفاحم، المنسدلة بلا ترتيب، حجبت بعضًا من ملامحه الوسيمة.
لم يكن يرتدي شيئًا على الجزء العلوي من جسده، باستثناء رداء طويل أسود ألقاه عليه بإهمال.
وقف هناك، ناظرًا إليّ بصمت، بينما غطى ضوء القمر المائل ملامحه بثقل هادئ.
“…منذ البداية.”
صوته العميق والمخملي ضغط على قلبي برفق ثم تلاشى.
ومنذ تلك اللحظة، اكتسب كل شيء إحساسًا واقعيًا قويًا، وبدأ قلبي ينبض بعنف، بلا سيطرة.
“إذًا، كان هذا حقيقيًا.”
اقترب جسد كاير مني ببطء.
كانت حرارة ليلة الصيف تملأ الأجواء، وبرزت قطرات ندى على صدره، متلألئة تحت ضوء القمر.
اقترب أكثر، حتى استطعت رؤية القطرات وهي تنزلق على طول خطوط عضلاته.
عبيره، الحلو والمسكر، جعل رأسي يدور.
كانت المسافة بيننا قصيرة لدرجة أن أنفاسنا تداخلت، وعيناه الذهبية مسمرة على شفتي بثبات.
ثم، تحرك وجهه ببطء للأعلى.
شعرت بملمس شفتيه الساخنتين على جبيني، قبل أن يبتعد برفق.
“تصبحين على خير.”
همهم بصوت منخفض، ممزوجًا بحرارة الليل.
بيدين مرتعشتين، ضغطت على صدري، محاوِلة تهدئة خفقات قلبي الجامحة.
ثم، بخطوات بطيئة، غادر كاير الغرفة.
☆☆☆☆
“…معلمتي! آنسة إيفلين…!”
“هـ… هاه؟”
كنت شاردة في أفكاري، ولم أستعد وعيي إلا عندما نادتني كاثي.
عندما التفتُّ إليها، كانت تعقد حاجبيها بقلق، وكأنها لاحظت أمرًا غريبًا.
“ما خطبكِ اليوم؟ تبدين شاردة طوال الوقت، ولا تلاحظين حتى عندما أناديكِ!”
“آه، لا، لا شيء…”
شعرت بوجنتي تشتعلان، فرفعت يدي لأتحسس دفئهما، ثم هززت رأسي بقوة.
“همم… غريب فعلًا.”
قال الفيكونت جيرواي، الذي كان واقفًا على الجانب الآخر من طاولة التجارب، بنبرة مرحة لكن مشوبة بشك طفيف.
“غريب؟ لا شيء غريب هنا! عن ماذا تتحدث؟”
اعترضت بعبوس، مما جعله يضحك بخفة.
“تعالي وانظري. لقد فحصتُ مكونات الدواء الذي تناولتهِ سابقًا، ووجدتُ أنكِ… أضفتِ شيئًا لا ينبغي إضافته.”
“حقًا؟”
التفتُّ حول الطاولة الطويلة واقتربت منه.
“لقد وجدتُ أثرًا لنبتة موثو. هذه الزهرة تحتوي على سم يوقف التنفس تدريجيًا. لماذا أضفتِها؟”
“زهرة موثو؟ لم أضف شيئًا كهذا!”
أخرج الفيكونت قطعة زجاج صغيرة، أجرى عليها الفحص، ومدّها لي.
“انظري. هذه النتيجة تظهر فقط عند وجود زهرة موثو في الخليط.”
حدقتُ في الزجاج بتركيز، ملاحظة تحول لون المادة الكيميائية إلى الأرجواني، لكنني لم أكن على دراية كافية بزهرة موثو، لذا لم أملك سوى الإيماء برأس خافت.
“أرى…”
إذا كان الفيكونت متأكدًا، فلا بد أنه محق.
ولكنني أقسم أنني لم أضف أي مكون غير معروف إلى الدواء.
إذًا، من الذي فعل ذلك؟
في تلك اللحظة، دوّى صوت طرق على الباب، قبل أن يدخل أحد الخدم إلى العيادة.
“ما الأمر؟”
“لقد وصلتكِ رسالة من دوقية ميلدريد، آنسة إيفلين.”
“دوقية ميلدريد؟”
“نعم، أرسلتها الليدي سيرينا بنفسها.”
سيرينا؟ لقد التقيت بها للحظات فقط… لماذا ترسل لي رسالة؟
دفعني الفضول للتقدم بسرعة وأخذ الرسالة من يد الخادم.
لم تكن سيرينا من النوع الذي يرسل رسائل ودية بلا سبب، إذًا ما الذي يدفعها لمراسلتي؟
فتحت المظروف بسرعة، متأملة الخط الأنيق المكتوب عليه.
“إلى الآنسة إيفلين،
آمل أن تكوني بخير.
سمعتُ أنكِ غادرتِ إلى مقاطعة ألفونس بسبب انتشار الطاعون هناك برفقة الدوق.
أتمنى لكِ السلامة.
أكتب إليكِ لأن لدي أمرًا مهمًا يجب أن أخبركِ به…**
“أمر مهم؟”
رمشتُ ببطء، متفاجئة، قبل أن أنتقل إلى الجملة التالية.
“يتعلق بما حدث لكِ عندما زرتِ قصرنا في السابق.
بالطبع، يجري التحقيق رسميًا حول هوية المعتدي من قِبل عائلة دوق ميلرابان، وعائلتي كذلك، لكنني اكتشفتُ أمرًا آخر بشكل منفصل.
هل تذكرين الخادم الذي سلّمكِ تلك الملاحظة؟
بعد محاولات طويلة لإغرائه بالكلام، أخيرًا كشف لنا عن أوصاف الشخص الذي أعطاه الورقة.”**
“صحيح… الشخص الذي سلّمه الملاحظة قد يكون مرتبطًا بالمهاجم. بعد ان أكدت أنها لم ترسل أي شيء، إذًا من كان وراء ذلك؟”
نقلتُ نظري إلى السطر التالي.
“…كانت امرأة جميلة، ذات شعر أحمر طويل ومموج.”
“يقال إنها امرأة جميلة ذات شعر أحمر طويل ومتموج بشكل رائع.
ألا يمكنك تخمين من تكون؟
عدد النساء ذوات الشعر الأحمر في فرانفينيا ليس كبيرًا.
وهذا يعني، لا يمكن أن تكون إلا…
ميرفانا.
احذري منها.
يبدو أنها تخفي شيئًا ما.
حاولت إيصال هذه المعلومات إلى لجنة التحقيق الرسمية، لكن، لسبب ما، اختفى ذلك الخادم قبل أن اتمكن من ذلك.
اختفاء الشاهد جعل التحقيق يتعثر، لكني شعرت أنه من الضروري أن تعرفي، يا آنسة إيفلين.
إذن، سأكتفي بهذا القدر.
أتمنى لكِ الصحة حتى أعود.
— سيرينا
بعد أن انتهيت من قراءة رسالة سيرينا حتى آخر كلمة، رمشت بسرعة، غير قادرة على تصديق الأخبار التي قرأتها.
ما تعنيه سيرينا هو أن ذلك الرجل الذي هددني في ذلك اليوم له علاقة بميرفانا.
“لكن… ميرفانا هي البطلة! لماذا قد تفعل ذلك؟”
شعرت بأن عقلي يضطرب.
هل يعقل أن تكون ميرفانا قد ارتكبت مثل هذا الفعل، كما تقول سيرينا؟
أم أن هذه مجرد مكيدة أخرى من سيرينا، الشريرة التي تحاول الإطاحة بالبطلة؟
في موقف كهذا، حيث لا يمكن الوثوق بأحد، جلست على الكرسي، أشعر بالإحباط.
“ما محتوى هذه الرسالة لتجعلكِ تبدين هكذا؟”
مد الفيكونت جيرواي يده وأخذ الرسالة من يدي، وبدأ في قراءتها ببطء.
بينما كانت ملامحه تزداد توتراً، خلع نظارته وضغط على جبهته.
“……هذه المرأة، ميرفانا، بالفعل تثير الريبة.”
“حتى أنت، يا فيكونت؟”
أومأ برأسه ببطء.
“نعم. هل تذكرين عندما التقيت بها أمام العيادة؟”
“آه، نعم…”
“رغم أنها كانت تبتسم ببراءة كفتاة صغيرة، شعرت بشيء غريب، كما لو أنها تخفي أمراً ما. كان شعوراً غير مريح للغاية. حتى أنني استغربت من إحساسي ذاك تجاه شخص لا أعرفه، ولهذا ما زلت أذكره حتى الآن.”
“لكن… الأميرة ميرفانا معروفة برقتها، تبكي بسهولة، حتى أنها تعتني بالحيوانات المصابة بنفسها. لا يمكنني أن أشتبه بشخص فقط بناءً على لون شعره، و… و…”
وقبل كل شيء… إنها بطلة هذه الرواية.
عندما بدأت عيناي تتجولان في الغرفة، وضع الفيكونت يده فوق يدي بلطف.
“توخي الحذر لن يضرّ. ألا تظنين أن الأمور الغريبة حولكِ قد ازدادت في الآونة الأخيرة؟ حتى الدواء الذي صنعتهِ، إذا لم تكوني قد أضفتِ زهرة موتو بنفسكِ، فهذا أيضاً أمر غريب.”
“هذا صحيح…”
في تلك اللحظة، بدأت جذور الشك تنمو فوق يقيني الراسخ.
لماذا أثق بميرفانا إلى هذا الحد؟
هل بسبب نقائها؟
ابتسامتها الجميلة؟ أم أنني ببساطة أعتقد أنني أعرف النهاية بالفعل، ولذلك لا أشك فيها؟
بينما كانت ثقتي في ميرفانا تهتز، ضغط الفيكونت بلطف على يدي، وكأنه يثبتني في مكاني.
“إيفلين. يجب أن نخبر دوق ميليربان عن هذا الأمر في الحال.”
وصلتُ إلى مكتب كاير، لكنني لم أستطع طرق الباب على الفور، واكتفيت بالتجول أمامه بتوتر.
“بعد ما حدث الليلة الماضية… كيف يمكنني التصرف وكأن شيئًا لم يكن؟!”
بينما كنت أسير ذهابًا وإيابًا في الرواق، توقفت فجأة عند تذكر…
“تصبحين على خير.”
صوته الناعم والمغري.
شفتيه التي لمست جبهتي بلطف.
محيّاه الوسيم تحت ضوء القمر، وانعكاسات الظل والضوء على جسده…
بمجرد أن عادت إليّ هذه الذكريات، شعرت بأن أذني تحترقان، كما لو أن بخاراً ساخناً يتصاعد منهما.
“لا يمكنني فعلها! لا أستطيع مواجهة كاير والتصرف بشكل طبيعي!”
بينما كنت أمسك أذنيّ المشتعلتين محاوِلة تهدئتهما، استدرت فجأة للعودة أدراجي.
لكن عندها…
“ماذا تفعلين هنا؟”
رن صوت كاير في أذنيّ.
اتسعت عيناي ولففت جسدي بسرعة.
“آه! يا إلهي، لقد أفزعتني!”
تردد صدى صوتي في الممر الفارغ، مما جعلني أرتجف قليلاً.
رفعت رأسي ببطء.
“تبًا… إنه كاير.”
منذ متى كان هنا؟ هل سمعني أتمتم لنفسي؟ رأى كيف كنت أتجول بارتباك؟
شعرت بالحرج الشديد، وكأن جسدي بالكامل بدأ يتجمد في مكانه.
“إذا واصلت التوتر هكذا، فسوف يلاحظ أنني أفكر فيما حدث أمس!”
حاولت جاهدًة إرخاء عضلاتي، لكن كلما حاولت، ازدادت حالتي سوءًا.
“……إيفلين؟”
رفع كاير حاجبه، على ما يبدو لاحظ تصرفاتي الغريبة.
عندها، بدأ قلبي يخفق بسرعة مجنونة.
ازداد شعوري بالحرارة، وتجمع العرق على جبهتي.
“أنا، حسناً، في الواقع… الأمر هو…”
“همم؟”
كلما نظر إليّ كاير بتركيز أكثر، كلما أصبح الأمر أكثر سوءًا.
يا إلهي، أتمنى أن أختفي في هذه اللحظة.
قطرة من العرق انزلقت على جانب رأسي.
نظر كاير إليّ، ثم أنزل عينيه نحو يدي، حيث كان هناك شريط رفيع مربوط حول معصمي.
مدّ يده ببطء وسحب طرفه بلطف.
سروووووف
انزلق الشريط برقة عن معصمي، مما جعلني أرتجف قليلاً دون وعي.
“……يبدو أنك تشعرين بالحر.”
همس كاير بصوت منخفض، ثم تحرك ليقف خلفي.
بعد لحظة، شعرت بأصابعه تزيح خصلات شعري عن وجهي وتلفها خلف أذني.
بينما كان يفعل ذلك، لمست أنامله أذني برفق، مما جعلني أنكمش قليلاً.
مرر أصابعه عدة مرات على شعري، ثم جمعه بلطف إلى الخلف.
بمجرد أن أصبحت رقبتي مكشوفة، شعرت بنسيم بارد يلامسها، مما جعلني أرتجف.
“ماذا… ماذا تفعل؟”
تلعثمت وأنا أحاول النظر إليه من زاوية عيني.
“لا تتحركي بعد.”
همس بصوت خافت وهو يمرر يده مرة أخرى على شعري، بلمسة ناعمة بشكل خطير.
التعليقات لهذا الفصل " 95"