107
في يوم محاكمة نوكتوس الخاصة بكاير.
“خبر عاجل! خبر عاجل! بعد ثلاث ساعات ستبدأ محاكمة نوكتوس الخاصة بالدوق ميلرفان!”
كان صبي يرتدي ملابس رثة يركض في أنحاء سوق المدينة، ينثر النشرات الإخبارية.
كان الناس الذين التقطوا الأوراق يتهامسون فيما بينهم بينما يتجولون في الشوارع.
منذ الصباح الباكر، احتشدت جموع غفيرة أمام المعبد لمشاهدة محاكمة نوكتوس وإعدامه.
بدا أن الجميع متحمسون لهذا الحدث الكبير الذي لم يشهدوا مثله منذ زمن.
لكن أكثر من كان مبتهجًا بينهم جميعًا هو صاحب النزل الذي يطل على منصة الإعدام في المعبد.
فقد كان يبيع تذكرة الدخول إلى الغرفة العلوية بسعر باهظ بلغ 1 ذهبية للواحدة، ومع ذلك، كان الإقبال شديدًا لدرجة أن الأماكن لم تكن كافية للجميع.
في الوقت نفسه، كان الإمبراطور ميلروم قد وصل إلى المعبد منذ الصباح الباكر.
وكان قد أنهى للتو اجتماعه الخاص مع كبير الكهنة، وها هو يخرج الآن من البرج المركزي.
“توجهوا إلى البرج الأيسر.”
تحرك الموكب الإمبراطوري الطويل خلفه متجهًا نحو البرج الأيسر.
ومع كل خطوة يخطوها الإمبراطور، كانت هتافات الشعب المنتظر خارج المعبد تتعالى.
توقف للحظة، ثم التفت نحوهم بابتسامة ودودة ولوّح بيده.
إلى جانبه، كان يقف ماركيشين، يراقبه بنظرة ماكرة.
قال بصوت خافت:
“بعد اليوم، ستتعالى الهتافات التي تهتف باسم جلالتك أكثر وأكثر.”
أجاب الإمبراطور بهدوء وهو يحرك رأسه قليلاً:
“هذا ما يجب أن يكون.”
ثم تمتم بصوت منخفض:
“كاير ليس شخصًا يمكن الاطمئنان إليه بسهولة حتى النهاية. فقد ورث دماء والده القاسي… هل تم تجهيز ‘تلك الأشياء’ جيدًا؟”
عند سؤال الإمبراطور، أومأ ماركيشين برأسه، ثم حوّل نظره إلى مكان بعيد.
وعندما تبعه الإمبراطور بنظره، ظهرت مجموعة من أعوان التنظيم مصطفين في صفوف.
قال الإمبراطور، وهو يومئ برأسه برضا:
“هذا مجرد إجراء احتياطي… لكن يبدو أن هذا كافٍ.”
“إذا لزم الأمر، سأجهز رجالي داخل المعبد، فلا تقلق.”
“حسنًا…”
ألقى الإمبراطور نظرة إلى البقعة السوداء على يده، ثم بدأ في السير نحو الطابق السفلي لبرج الإله الأيسر.
***
“أوه، كاير! هل حلمت بأحلام سعيدة الليلة الماضية؟”
نظر كاير إلى الإمبراطور ميلروم كما لو كان ينظر إلى شيء مقزز.
“لماذا؟ ألم يأتِ والداك لاستقبالك في الحلم؟”
“……”
“آه، يا لهذا… لقد ارتكبت هفوة!”
اقترب الإمبراطور ميلروم من القضبان الحديدية، مدخلًا وجهه بينها. ثم ابتسم على اتساع فمه، كاشفًا عن أسنانه البيضاء.
“على أي حال، لم تكن تستطيع النوم، أليس كذلك؟ ككك… كهاهاها!”
انفجر الإمبراطور ضاحكًا، كما لو لم يكن قادرًا على كبح ضحكته، ممسكًا بطنه.
في عيني كاير، كان الغضب يغلي، لكنه لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما تجمد وجهه وأصبح باردًا كقطعة جليد.
ثم قال بصوت هادئ:
“أنت مجنون.”
توقفت ضحكات الإمبراطور فجأة.
مسح دموعه وهو يلهث، ثم سأل:
“ماذا… ككك… ماذا قلت؟”
“قلت إنك مجنون.”
اندفع ماركيشين للأمام، وكأنه يهمّ بمهاجمة كاير، لكن الإمبراطور رفع يده ليوقفه، واضعًا كفه على صدره.
“اتركه. يبدو أنه لم يعد يبالي بشيء وهو على وشك الموت…”
قال الإمبراطور بسخرية هادئة، لكن كاير اقترب منه أكثر.
“من يدري… هل سأكون أنا من سيموت اليوم، أم أنت؟ أتطلع لرؤية ذلك.”
خرج صوته البارد من بين شفتيه، بينما رفع عينيه الحادتين عبر القضبان الحديدية.
“وإذا كنتَ أنت من سيموت اليوم… فتذكر جيدًا.”
“……”
“سأمنحك أكثر ميتة استثنائية على الإطلاق.”
عند رؤية ثقة كاير المطلقة، ارتعش طرف شفتي الإمبراطور ميلروم للحظة، لكنه سرعان ما قطب حاجبيه بضيق، وامتعضت ملامحه.
ثم زم شفتيه بتأفف وقال:
“حتى في لحظاته الأخيرة، لا يكف عن التصرف بطريقة بغيضة… تمامًا كأبيه. تسك تسك…”
***
“الآنسة إيفلين! هل أنهيتِ استعداداتك؟”
قال لياموس وهو يهبط مسرعًا عبر الدرج الحلزوني في المكتبة.
“لقد وصلتَ، صاحب السمو ولي العهد؟”
“أجل، وما ذلك؟”
سأل لياموس وهو يشير إلى الأوراق التي كنت أجمعها.
“آه، السجلات الطبية التي أخذتها ميرفانا في ذلك الوقت كانت الجزء الأول فقط… وهذه هي السجلات التي دوّنتها بعد تصنيع العلاج.”
“آه، فهمت…”
“وهذه الوثيقة تحتوي على وصفة تحضير العلاج. سأستخدمها كدليل لإثبات أن الأرق كان مرضًا بالفعل.”
أومأ لياموس برأسه وهو يلقي نظرة حوله.
ثم سأل: “وأين غابرييل؟”
“آه، غابرييل هو…”
تنهدتُ بصوت خافت، وامتلأ قلبي بالضيق.
“إنه ما زال يبحث في أرجاء القصر كما لو كان يقلبه رأسًا على عقب، محاولًا العثور على العين. على الأرجح، لا يزال يفعل ذلك حتى الآن.”
“إذًا… لم يجدها بعد.”
“نعم…”
من دون دليل حاسم، حتى لو طلب لياموس محاكمة طارئة، فلن تكون لدينا فرصة للنجاح.
لم يتبقَ سوى بضع ساعات على بدء محاكمة نوكتوس… وكل ما وجدناه حتى الآن لم يكن سوى أدلة ثانوية.
لا العين ، ولا شهادة الوعد من الفيكونت جيرواي…
لم نحصل على أي شيء حاسم.
بإحساس متزايد بالقلق، دفنتُ وجهي بين يديّ، وأطلقت زفرة طويلة.
“لا يمكنني المغادرة الآن. يجب أن أبقى في القصر وأواصل البحث عن العين .”
“إذًا… ماذا عن شهادتك بشأن علاج كاير؟”
“سأبحث قدر ما أستطيع، ثم سأتأكد من الوصول في الوقت المناسب.”
وفي تلك اللحظة، ظهر غابرييل وهو يهبط الدرج في المكتبة، متعبًا ومنهكًا تمامًا.
“لقد… هه… فتّشت حتى مكتب العمل بدقة…”
“أحسنتَ عملًا، غابرييل.”
“آه، صاحب السمو ولي العهد موجود أيضًا. أصغر قياصرة الإمبراطورية…”
“يكفي.”
نظر لياموس إلى غابرييل بنظرة مشفقة، ثم استدار متوجهًا نحو الدرج.
“سأجهز منصة الشهود، لذا تأكدي من عدم التأخر، آنسة إيفلين.”
“سأكون هناك.”
“حسنًا، سأذهب الآن.”
توقفتُ للحظة وأنا أراقب ظهر لياموس وهو يغادر، ثم حوّلت نظري إلى غابرييل.
“هناك شيء ما يجعلني غير مرتاحة بشأن هذه المكتبة.”
“لكننا فتّشناها ثلاث مرات بالفعل.”
“نعم، هذا صحيح، ولكن…”
مع اقتراب الوقت المتبقي من النفاد، ترددتُ للحظة—هل سيكون من الحكمة إضاعة المزيد من الوقت في إعادة تفتيش هذا المكان المليء بالوثائق؟
أم أن السبب وراء شعوري هذا هو أن هذه المكتبة كانت المكان الذي لقي فيه دوق ودوقة العائلة السابقة حتفهما؟
لسبب ما، لم أستطع تجاهل إحساسي.
نعم… لا يزال لدينا بعض الوقت.
ألقيت نظرة على الساعة، ثم قررت أخيرًا.
مددت يدي وأمسكت بذراع غابرييل.
“لنفحص هذا المكان مرة أخرى، لمرة أخيرة.”
***
داخل البرج المركزي للمعبد العظيم.
تمتد الأرضية الرخامية الطويلة، وفي نهايتها ترتفع منصة القضاء شامخة.
أمامها مباشرة، يوجد منبر مُعدٌّ ليتمكن الشهود والمتهمون من الإدلاء بشهاداتهم.
أما خلفه، فتمتد صفوف المقاعد المخصصة للحضور حتى تصل إلى الباب.
“تخيّلوا، لقد تجرأت على اعتبار تلك اللعنة مرضًا وحاولت علاجه سرًا…!”
“آه، لا بد أن الفيكونت جيرواي يشعر بالعار الشديد. ابنته أهدرت السمعة التي بناها والدها بعناء…”
ما إن بدأ النبلاء يأخذون أماكنهم في مقاعد الحضور، حتى تعالت الهمسات والثرثرة من كل جانب.
ووصلت هذه الأحاديث أخيرًا إلى أذني الفيكونت جيرواي، الجالس في الصف الأمامي بصفته شاهدًا.
كان يستمع إلى أولئك الذين لا يعرفون ابنته جيدًا وهم يطعنون فيها بلا تردد، فقبض على أسنانه بقوة، محاولًا كبح غضبه.
“ومن طلب منكم أن تقلقوا على سمعتي؟”
كان الفيكونت جيرواي يحاول جاهدًا كبح غضبه، عندما—
طَـــنْـــغ! طَـــنْـــغ!
ضرب الحاجب الأرض بعصاه الطويلة، ليعلن دخول المتهم.
بعد لحظات، دخل كاير إلى قاعة المحكمة، ويداه موثوقتان بإحكام.
دَرَرَرَرْك… دَرَرَرَرْك…
مع كل خطوة خطاها على الممر الرخامي الطويل، سُمع صوت السلاسل المعدنية الثقيلة وهي تجرّ على الأرض، مانحة الجو توترًا خانقًا.
تبعته عيون النبلاء الجالسين في القاعة، راقبة كل حركة يقوم بها.
بعضهم أبدى شفقة عند رؤية وجهه المتضرر، لكن البعض الآخر انتهز الفرصة ليهمسوا بسخرية.
وكان ميلفين من بين هؤلاء.
“يستحق ذلك… كان مقززًا وهو يتباهى بنفسه فقط لأنه دوق.”
رمقه ميلفين بنظرة مليئة بالخبث بينما كان كاير يمر بجانبه.
ظل يتلذذ بالسخرية منه… حتى تجمد وجهه فجأة حتى نظر له كاير.
“ما هذا… هل ابتسم لي؟”
عندما التقت عينا كاير بعيني ميلفين، رفع زاوية فمه في ابتسامة ساخرة، ثم واصل طريقه بكل هدوء.
ابتسامة؟! وفي وضعه هذا؟!
تقلّص وجه ميلفين غضبًا؛ كان الأمر يثير استياءه بشدة.
“ليأخذ المتهم مكانه.”
قاد الكاهن كاير إلى المقعد المخصص له على يمين المنصة.
وما إن جلس، حتى تردد في القاعة مجددًا صوت ضرب العصا على الأرض.
هذه المرة، كان دخول الإمبراطور ميلروم وولي العهد لياموس.
لكن على عكس كاير، قوبل دخولهم بصيحات الترحيب والهتاف من النبلاء.
جلس لياموس والإمبراطور ميلروم مقابل كاير، وبينهم منصة الخطابة.
“كاير… وجهه متضرر للغاية.”
أخفى لياموس مشاعره الحقيقية خلف نظرة باردة، محدقًا في كاير بجمود.
أما كاير، وكأنه يفهم وضعه، فقد تجنب نظراته بهدوء.
“آنسة إيفلين… عليها أن تصل في الوقت المناسب.”
تجول بصر لياموس عبر مقاعد الحضور، لكنه لم يجد أي أثر لإيفلين.
حتى كاير بدا وكأنه يبحث عنها، إذ كان يوجه أنظاره نحو الحضور مرارًا وتكرارًا.
لكن… حين لم يجدها، ظهر على وجهه تعبير مختلف—وكأن ارتياحًا خافتًا تسلل إليه.
“ربما من الأفضل لها ألا تأتي.”
فكرة رؤيته وهو يُقاد إلى منصة الإعدام أمام عينيها… أو، ما هو أسوأ، أن تلقى حتفها بسببه…
من الأفضل أن يكون هذا هو الوداع، ولو من بعيد، دون أن تراه مرة أخرى.
ظل يحدق أمامه بنظرة هادئة، مستسلمًا لما سيأتي…
طَــنْــغ! طَــنْــغ!
ضرب الحاجب الأرض بعصاه مجددًا، ليعلن دخول هيئة المحكمة.
دخل القاعة ثلاثة من الكهنة الكبار، وثلاثة قضاة.
وأخيرًا… ظهرت الشخصية الأبرز—رئيسة الكهنة.
“إنها رئيسة الكهنة!”
كانت بيريا، أكثر رئيسة كهنة محبوبة في التاريخ.
وعندما مشت عبر الممر، انحنى جميع النبلاء، حتى أكثرهم كبرياءً، بإجلال واحترام.
رداؤها الأبيض المطرز بخيوط ذهبية، مع رموز دينية مقدسة.
التاج الأسقفي الشامخ فوق شعرها الأبيض الطويل.
وعصا الرئاسة التي تحملها، رمزًا للسلطة الدينية المطلقة.
من ملابسها، كانت الأناقة والقداسة تتدفق، ومن وجهها المملوء بالتجاعيد ونظراتها، كانت الحكمة والرحمة تشع.
عندما وقفت في وسط قاعة المحكمة، انحنى الجميع أمامها، باستثناء الإمبراطور.
ثم، ببطء، حركت بيريا رأسها إلى الجهة اليسرى ووجهت أنظارها نحو كاير.
“أنت أيضًا، … وفي النهاية، جاء اليوم الذي يجب علي فيه اتخاذ هذا القرار بيدي.”
تراكم الحزن في عيون بيريا.
لقد كانت هذه أول محاكمة نوكتوس التي تشرف عليها منذ توليها منصب رئيسة الكهنة قبل سنوات.
لم تكن تتوقع أن يأتي هذا اليوم، لكنها لم تتخيل أبدًا أنها ستضطر إلى أخذ حياة شخص بقرارها.
أغمضت عينيها، محاولة كبح مشاعرها الحزينة، ثم أعادت نظرها إلى الحضور.
ببطء، رفعت يديها إلى الأعلى وقالت بصوت راسخ:
“باسم سولار الموقر… سنبدأ محاكمة خادم نوكتوس، ونعرف مصيره.”
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 107"