الحلقة 4
‘لا، لا، لا.’
كانتْ أليس قد حفظتْ وصيّةَ أخيها عن ظهر قلبٍ من كثرة قراءتها.
لكن، ما جدوى حفظ المضمون فقط؟
الجمل الرّائعة التي خطّها أوبر بيده المرتجفة على سرير المرض كانتْ بالنّسبة إلى أليس منبّهًا تبتلعه بعينيها كلّ صباح، ومهدّئًا تتناوله ليلًا لتنام.
أن تُسلبَ منها؟
‘لا!’
يا أختي، أنا دائمًا أشجّعكِ.
لا تشعري بالذّنب تجاه العائلة.
ستصبحينَ طبيبةً بالتّأكيد.
وعندها، سأكونُ سعيدًا بما فيه الكفاية.
“أوبر…”
لقد مر بعض الوقت و لم تَعُدْ تَرَى مؤخّرة رأس الرّجل. انتهى ركضُها العشوائيّ عندما تعثّرتْ وسقطتْ على الأرض الطّينيّة.
التعويذة التي ساعدتها على تحمّل سنوات الجامعة الجحيميّة، والثّلاث سنوات الماضية التي كانتْ جحيمًا بحدّ ذاتها، غادرَ يدَيْها.
***
عندما شرحتْ القصّة، سخرَ الشّرطيّ المحلّيّ أوّلًا.
“ألم يُحذّركِ أهل البلدة من الذّهاب إلى ‘ذلك المكان’؟”
“كانَ عليّ الذّهاب.”
“نعم، بالطّبع. كيفَ كانَ شكلُ اللّص؟”
“كانَ طويلًا جدًا. شعرُه رماديّ، وعيناه…”
هل كانتا سوداوين؟ كانتا بعيدتين جدًا، تتمايلان وكأنّهما تسخران منها، فلم تتذكّر اللّون. كأنّه قرصانٌ مرحٌ من روايات المغامرات القديمة…
“نعم، نعم، فهمتُ.”
طق، وضعَ الشّرطيّ قلمه.
“سنبحثُ عنه، فانتظري.”
“هل انتهى الأمر؟ هل يكفي هذا؟”
“نعم. عودي إلى مكانكِ. لحسن الحظّ، سيلتحقُ بكِ رفاقكِ غدًا.”
نهضتْ أليس وهي تشعرُ بالضّيق. وعندما حيّتِ الشّرطيّ، لاحظتْ متأخّرًا أنّ الورقة التي كانَ يُفترض أنّه يكتبُ عليها وصفَ الجاني كانتْ تحملُ رسمَ قطّةٍ قبيحة، لكنّها لم تحصل على فرصةٍ للاعتراض.
عادتْ إلى النُّزُل، وقضتِ اللّيلَ مرهقةً جدًا دون نوم.
في الفجر، للحظةٍ قصيرةٍ أغمضتْ فيها عينيها، حلمتْ أنّ أخاها يرقدُ معها على السّرير. ذلك الطّفل الذي ظلّتْ الحمّى تُنهكه حتّى النّهاية.
غطّتْ أليس بطنَ أوبر المفتوح بغطاء، بينما ربّتَ أوبر، بعينين مغلقتين، على ظهر يدها.
***
في صباح اليوم التّالي،
بعدَ أن تناولتْ حساءً رقيقًا قدّمه النّادل، التقتْ أليس أمامَ سكن البلديّة، المكان المحدّد للقاء، برجلٍ أرسلته ماري.
ربّما في الأربعينيّات المبكّرة. وجهُه مدوّر، لكنّ عضلاته وعيناه الشّرسة جعلتا أليس تخلصُ إلى أنّ انطباعَها الأوّل عنه “غير مريحٍ نوعًا ما”.
قدّمَ نفسه باسم أرنو.
“أنتِ أليس باوتشر، الطّبيبة؟”
“نعم.”
“يبدو أنّني قرأتُ عنكِ في صحيفةٍ من قبل.”
توقّفَ فضولُ أرنو عند هذا الحدّ.
بالطّبع، من يقيّمُ الآخرين يجبُ أن يكونَ مستعدًا ليُقيَّم.
“سُرقتْ محفظتُكِ؟ وأمام عينيكِ مباشرةً؟”
“……نعم.”
“هه، تبدينَ صلبة، لكنّكِ ساذجةٌ جدًا. هل قضيتِ حياتَكِ تدرسينَ فقط؟”
“……”
“سنقسمُ المبلغَ المقدّم ونحاسبه لاحقًا. إذا كانتْ لديكِ وثائقٌ لا يجبُ أن تُفقد، ضعيها في حقيبتي.”
يبدو أنّ انطباعَه الأوّل عنها أصبحَ “غبيّة”، أليس كذلك؟
خفضتْ أليس وجهَها المحمّر.
“أبلغتُ الشّرطيّ أمس. في مدينةٍ صغيرةٍ قليلة الزّوار، بمجرّد القبض على الجاني…”
“لن يجدوه.”
“ماذا؟”
“من سيُساعدُ امرأةً سُرقتْ لأنّها حاولتْ استئجارَ مرشدٍ بعدَ أن حُذّرتْ من ذلك؟ بمجرّد استعادة محفظتِكِ، من يدري ماذا ستفعلينَ؟”
“……”
“المحتال الذي جاءَ بمجرّد سماعه إشاعةً عن غريبةٍ ليسَ عاديًا. لا تُعرّضي محفظتي للخطر بالسّماح لهم بخداعكِ مرّتين، وانتبهي.”
“……نعم، سأحذر.”
شعرتْ أنّه لم يكنْ عليه قولَ ذلك بهذه القسوة، لكنّها أومأتْ برأسها. كانَ هذا خطأها بوضوح.
لكن، بعدَ أن رأتِ الابتسامةَ التي انتشرتْ على وجه أرنو، وكأنّه نجحَ في فرض سيطرته، شعرتْ ببعض النّدم، لكنّ الوقتَ قد تأخّر.
***
تركتْ النّظرات الحادّة وراءَها، وصعدتْ أليس إلى عربةٍ صغيرةٍ كانَ أرنو قد جلبها من قرية السّابقة.
عندما رأى أرنو حقيبتَها بحجم جذعها، هدّدها قائلًا: “إذا أرهقنا الحصان، سنتناوبُ على قيادته.” لكن، لحسن الحظّ، تقدّمَ الحصان العجوز السمين بخطواتٍ ثابتة.
“هيّا، لننسّقَ أقوالَنا. البروفيسور ناثان طبيبٌ متطوّع، وأنتِ مساعدتُه للأعمال المتنوّعة، وأنا مرافقُكِ وحارسُكِ. حسنًا، لا شيءَ يحتاجُ حفظًا، فهذه هي الحقيقة.”
“الكذبُ حول الهويّة هو الأسهلُ كشفًا، لذا يجبُ تبسيطه قدرَ الإمكان.”
“لكن، هل ستقولينَ هناك إنّكِ طبيبة؟”
“……”
“أراهنُ بذهبية واحدة أنّكِ إذا قلتِ إنّكِ طبيبة، سيعتبركِ السّكّان المحلّيّون ساحرةً ويحرقونَكِ. القرويّون لا يزالونَ ينادونَ أسماءَ القدّيسين عند البذر، ويلومونَ السّاحرات إذا فشلَ المحصول.”
“حتّى سكّان المدن لا يتقبّلونَ الطّبيبات بموضوعيّة. خصوصًا أبناء نبلاء، الذين يؤمنونَ أنّهم ذروة الحضارة، همَ مصدرُ إزعاجٍ في هذا الصّدد.”
“ها! يا آنسة، آملُ ألّا تبكي طالبةً العودة إلى المدينة الجميلة بمجرّد رؤية حالة دورات مياه القرية.”
“نعم. وأتمنّى ألّا أضطرّ إلى تشريح جثّتكَ.”
“……”
آه، هل كانتْ كلماتُها قاسيةً للتو؟ جاءَ النّدمُ عبرَ القيادةِ الخشنة. لكن، لم تكنْ مخطئة.
“أرنو، هل سمعتَ عن كيفيّة موتِ النّاس في تلك القرية؟”
“سمعتُ. وشعرتُ جيّدًا بمعاملة سكّان تلك المدينة لي كجثّةٍ حيّة بمجرّد ذكر ريكي.”
“لا أتوقّعُ منكَ إنقاذي إذا حدثَ شيءٌ خطير. وأنا لن أفعلَ ذلك أيضًا. لكن، ماذا لو اتّفقنا على دفن جثّةِ الآخر إذا حدثَ شيءٌ لأحدنا؟”
“……”
“قبلَ أن نتعرّضَ لمصيرٍ بشع. حتّى لو قطّعناه إلى أجزاء.”
“هذا الشّيء الوحيد الذي أعجبني من كلامكِ اليوم.”
دونَ ردّ، لمستْ أليس حقيبتَها في حضنها. لقد أحضرتْ منشارًا احتياطيًا، لكنّها تأملُ ألّا تضطرّ إلى استخدامه.
***
استمرّ الطّريق الوعر.
في العربة المتأرجحة باستمرار، فهمتْ أليس تمامًا مشاعرَ المساجين الذين جُرّوا إلى مستشفى العزل.
‘هل هذه مؤخّرتي أم وسادة؟’
عندما نفدتْ قائمة شتائم أرنو، بدأَ يصرخُ بأسماء الملوك المتعاقبين كلّما اهتزّتِ العربة.
لا حاجةَ لمعرفة التّاريخ، فالأمرُ بسيط: راما العاشر، راما الحادي عشر…
“را… آه، تبًا! وصلنا، وصلنا! انظري، هل هذا صحيح؟ ألم يكنْ مستشفى عزلٍ وليسَ قرية؟”
أخرجتْ أليس رأسَها من النّافذة.
على أرضٍ لا تحملُ من اللّون الأخضر إلّا بضع حشائش نابتة بين شقوق الرّمال الصّفراء. مبانٍ مربّعة من طابقٍ واحدٍ متناثرةٍ هنا وهناك.
“إسطبل… سيكونُ رائعًا لو كانَ كذلك، لكنّ ذلك مستحيل.”
“ههه! أحلامُكِ كبيرة. يبدو أنّهم يستخدمونَ غرفَ العزل القديمة كمنازل، سيكونُ مكانَ نومٍ مريحًا جدًا.”
لم يكنْ تعبيرُ أرنو سعيدًا أيضًا. ففي مثل هذه القرية النّائية، وفي أنقاضٍ كهذه، لا يمكنُ أن يكونَ السّكّان مواطنينَ عاديّين.
توقّفتِ العربة.
على عكس المباني القاتمة، كانَ هناك سياجٌ خشبيّ لامع، يبدو أنّه صُنعَ حديثًا.
وقفَ أرنو متجمّدًا كمن يواجهُ دبًا في كهف، وابتلعَ ريقَه.
“سنَدخلُ الآن. إذا كنتَ خائفًا، قلْ ذلك الآن.”
أينَ ذهبَ موقفُه الخشن؟
لكن، لم يكنْ لدى أليس متّسعٌ من الرّاحة للسّخرية منه. فخلافًا للمباني القديمة، بدا هذا السّياج المرمّم بعناية كأنّه درعُ سكّان القرية، أو تحذيرٌ أخيرٌ بعدم الاقتراب. كأنّه عظامٌ ينثرُها حيوانٌ مفترسٌ حولَ وكره.
“يا إلهي، من أنتم؟”
فجأة، كسرَ صوتٌ ما التّوتّر.
“وجهٌ جديد. هل أنتم هنا للتّوصيل؟”
“آه، في الحقيقة، أنا… جئتُ لمقابلة شخصٍ ما. لديّ رفاقٌ وصلوا قبلي.”
بدأَ أرنو لعبَ الأدوار فورًا. أخرجتْ أليس رأسَها من النّافذة مندهشةً قليلًا.
خلفَ السّياج وقفت امرأة قوية في منتصف العمر تبدو وكأنها حطاب؛ عندما رأتها، اتسعت عيناها في مفاجأة.
“يا إلهي، فتاةٌ ظريفة!”
أصبحَ ذهنُ أليس خاليًا.
ظريفة؟ لم تسمعْ مثل هذا المديح منذ كانتْ في العاشرة، حتّى من أمّها.
واصلتِ المرأة دونَ تردّد.
“من تبحثينَ عنه في هذه القرية المتواضعة؟ آملُ ألّا تكوني قد جئتِ عبثًا، أيّتها الفتاة الظريفة.”
“ناثان، ناثان لابوف. الطّبيب.”
“حقًا؟ لقد جئتِ إلى المكان الصّحيح! ضيوفُ الأستاذ هم ضيوفُنا أيضًا. ادخلوا بسرعة! يجبُ أن نريحَ الحصان أيضًا.”
مدّتِ المرأة يدَها الضّخمة كغطاء قدرٍ نحو الحصان.
أمسكتْ أليس قبضتَها بقوّةٍ من التّوتّر.
إذا كشف الحصان فجأة عن أسنانه وظهرت رغوة في فمه مثل مشهد من رواية رعب، أو رفع ساقيه الأماميتين بعيون جامحة، فسيتعين عليها الهرب دون النظر إلى الوراء.
لكن، لم يحدثْ شيء.
قبلَ الحصان يدَ المرأة بهدوءٍ غير متوقّع.
“يا له من حصانٍ لطيف. سأعطيكَ عشبًا لذيذًا.”
نظرتِ المرأة إلى أليس ورفاقها. كانَ لابتسامتها بشفتيها الكبيرتين والسميكتين سحرٌ غريبٌ يجعلُ الآخرين يبتسمونَ رغمًا عنهم.
“بالطّبع، للضّيوف أيضًا. من الأفضل ترطيب حناجركم أوّلًا، أليس كذلك؟”
ردّ أرنو وأليس في الوقت ذاته: “نعم.”
تحركت العربة للأمام عبر السياج الخشبي الحاد.
***
قدّمتِ المرأة نفسَها باسم “مدام أديلايد”، وقادتِ الضّيوف إلى منزلٍ صغيرٍ من طابقين. بينَ المباني المربّعة الخشنة كالطّوب الطّينيّ، كانَ هذا المكانَ الوحيد الذي يشبهُ بيتًا يسكنه النّاس، ربّما كانَ مسكنَ مدير مستشفى العزل سابقًا.
“جئتِ كمساعدةٍ للبروفيسور ناثان؟”
“نعم. تلقّيتُ طلبًا بأنّه بحاجةٍ إلى مساعدة. بالطّبع، يجبُ أن يسمحَ سكّان القرية ببقائي. و، بالطّبع، إذا لزمَ الأمر، سأدفعُ تكاليفَ المعيشة.”
“أليس تعتبر مساعدة، ولكن ماذا عن ذلك الرجل المحترم هناك؟”
“أنا مرافقُ الآنسة وعاملٌ للأعمال الشّاقة. إذا احتجتم إلى قوّةٍ في القرية، استدعوني متى شئتم.”
“موثوقٌ جدًا.”
ابتسمتْ مدام أديلايد.
“نحنُ أيضًا وافدونَ إلى هذا المستشفى المهجور، فلن نطردَ أحدًا. اختاروا مكانَ إقامتكم براحتكم، سأنظّفه لكم.”
“آه، شكرًا!”
“لكن، هناك قواعدُ يجبُ اتّباعها أثناء إقامتكم. سأشرحُها عندما تأتونَ لتناول العشاء هنا لاحقًا.”
هل يجبُ النهوضُ الآن؟ أمسكَ أليس وأرنو أكوابَهما الزّجاجيّة بأجسادٍ مرهقة.
سألتْ أليس:
“هل يمكنكِ شرحُها الآن؟”
“همم، ألا ترغبينَ في لقاء البروفيسور ناثان أوّلًا؟”
كانَ عرضًا لا يُرفض.
التعليقات لهذا الفصل " 4"