الفصل 3
فتحَ النّادل عينيه على اتّساعهما ثمّ تكلّم.
“من أنتِ؟”
أن يسألَ زبونًا عن هويّته، يبدو أنّ هذا المكان نادرًا ما يستقبل الغرباء.
ابتلعتْ أليس ضحكةً ساخرة.
“أنا مسافرة، جئتُ لأقضي يومًا هنا. هل يوجد غرفة شاغرة؟”
“……سفرٌ حقًّا؟”
نظرَ النّادل بعينين قلقتين إلى حقيبة أليس بنظرة خاطفة. آه، هل يظنّ أنّها جاءت وحدَها لخوض حربٍ حصارية؟
في الأحوال العاديّة، كانَتْ لتردّ بنبرةٍ لاذعة أو تتجاهله تمامًا، لكن لا داعي لإثارة الشّكوك في بلدةٍ غريبة. خرجَ منها كذبٌ ممزوجٌ بالحقيقة.
“أعملُ في جامعة كانيري. جئتُ لأغراض بحثيّة تتعلّق بهيكلة المنطقة المجاورة. سألتقي برفاقي غدًا.”
أخرجَتْ من حقيبتها دفترًا قديمًا تلقّته كهديّة تذكاريّة يوم تخرّجها، وهزّته مع زوجٍ من مشابك.
تفحّصَ النّادل كلمة “الأكاديميّة” على غلاف الدّفتر و مشابك المعدنيّة بجدّيّة مصطنعة، ثمّ أومأ برأسه وكأنّه فهمَ شيئًا.
بعد أن فرغَتْ من ترتيب أمتعتها في غرفةٍ نظّفها النّادل على عجل، نزلتْ إلى المطعم فوجدتْ عددًا أكبر من الزّبائن مقارنةً بالسابق. ربّما اقتربَ موعد العشاء.
أو ربّما انتشرتْ إشاعةٌ عن وصول “مادّة تسلية” غريبة. فحتّى لو تغيّرَ العالم، فإنّ امرأةً تسافرُ وحدها تظلّ محطّ الأنظار.
‘فلينظروا حتّى يملّوا.’
أن تكونَ محطّ الأنظار أمرٌ مألوفٌ لها. لا بأس، حقًا، لا بأس أبدًا، أن يتحدّثَ النّاس عن الشّخص القريب منهم وكأنّه سلعةٌ في مزاد، لا بأس، مألوف، حقًا، تلك العيون، تلك الأصوات، مملّة، حقًا، لا بأس، الآن، لا يهمّ…
“من أين جئتِ؟”
قُدّمَ إليها كوبٌ لم تطلبه.
من الجهة المقابلة، ابتسمَ رجلٌ في منتصف العمر يبدو ودودًا.
“يقولون إنّكِ من جامعةٍ ما؟”
“آه، نعم. من جامعة كانيري… لكن هذا-”
“ليسَ خمرًا. اشربيه براحتكِ.”
“شكرًا. كم ثمنه؟”
“لا داعي، لا داعي! هل نأخذُ مالًا على مثل هذا؟ أعطيته لكِ لأنّكِ جئتِ من بعيد.”
كانَ المشروب عصير ليمون. لم تتردّد أليس، فأمالتِ الكوبَ وشربتْ. أفرغتْ فمَها الجافّ والمتوتّر الكوبَ في لحظة.
“هوو…”
“يا إلهي، يبدو أنّ الرّحلة كانت شاقّة. جامعة كانيري هي الجامعة البلديّة في العاصمة، أليس كذلك؟”
“نعم، صحيح.”
“واو، لقد جاءتنا شخصيّةٌ تعملُ في مكانٍ رائع.”
برقتْ عينا الرّجل.
“لماذا جئتِ إلى هنا للتحقيق؟ الأرض؟ هل تخطّطون لبناء شيء؟ أم أنّ هناك معادن ستُستخرج؟”
“ليسَ الأمر كذلك.”
خفتَ بريق التّوقّع قليلًا. لكنّ الرّجل لم يغادر مقعده فورًا.
“مهما كان، إذا كنتِ بحاجةٍ إلى شيء، اسأليني. بالمناسبة…”
غيّرَ الرّجل نبرته إلى الجدّيّة وخفضَ صوته.
“هذا المطعم طعامه سيّء. خصوصًا الخبز، تناوليه في مكانٍ آخر.”
“……هه، شكرًا.”
“إذا احتجتِ إلى عمّال، تعالي إلى الحانة في اتّجاه السّاعة 11. البضائع موجودة في سوق الشّارع الرّئيسي. إذا أردتِ استئجار خيلٍ أو عربة، ربّما رأيتِ في طريقكِ إسطبلًا عامًا كانَ يُستخدم كمحطّة بريد…”
رجلٌ طيّبٌ حقًا. حاولتْ أليس أن تبدو ممتنّة، لكنّ شفتيها، اللتين لم تعتادا الابتسام منذ زمن، انحنَتا بصعوبة.
“لكن، هل جئتِ حقًا للبحث عن شيء؟”
تردّدتْ أليس قليلًا، ثمّ مزجتِ الحقيقة بالكذب مرّةً أخرى.
“أعشابٌ طبّيّة. أجري بحثًا في الصّيدلة.”
“هوه، أعشاب.”
“سمعتُ أنّ هناك أعشابًا مثيرة للاهتمام تُكتشف في هذه المنطقة…”
حانَ وقتُ طرح الموضوع الرّئيسي.
هيّا، تنفّسي بعمق.
مهما كنتِ قد غطّيته بطبقات السّكّر، فالدّواء سيظلّ مرًّا.
“……هل تعرفُ قريةً تُسمّى ‘ريكي’؟”
“لا!”
هذه المرّة الثّالثة التي يقاطعها فيها هذا الرّجل.
لكنّها لم تستطعْ الغضب. فقد نهضَ الرّجل وهو يرتجفُ كشجرةٍ تهتزّ.
“سيّدي؟”
“لا يوجد! لا توجد قريةٌ كهذه!”
“سيّدي.”
“لا أعرفُ من أين سمعتِ هذا، لكن انسي الأمر. هراء، هراءٌ حقيقي!”
“……”
“المكان الذي يعيشُ فيه النّاس هو القرية!”
“ماذا؟”
لم يأتِ ردٌّ على سؤالها. نهضَ الرّجل فجأةً وغادرَ المطعم.
في لحظة، عمّ الصّمتُ المكان.
نظرتْ أليس حولها. النّظرات الفضوليّة التي كانت تتفحّصها أو تلقي عليها نظراتٍ خاطفة هربتْ نحو النّوافذ والجدران والأطباق.
باستثناء شخصٍ واحدٍ لا يستطيعُ الهروب من مصيره: النّادل.
اقتربَ منها وهو يتنهّد.
“سيّدتي، ما الذي تعرفينه؟”
“سمعتُ عن عشبةٍ تنمو فقط على شاطئ هذه المنطقة. وأقرب قريةٍ إليها تُسمّى ‘ريكي’.”
“هل تتحرّكُ الجامعة بسبب مثل هذه الإشاعات السّخيفة؟”
“سيرسلونَ أحدًا للتأكّد إن كانت إشاعةً أم لا. وأمثالي، من الأدنى مرتبةً، لا يستطيعونَ الرّفض.”
“ها…”
“القرية موجودة، أليس كذلك؟”
تنهّدَ النّادل بعمق.
“هل أقول إنّها موجودة أم لا؟”
“إذا كان هناك مكانٌ يعيشُ فيه النّاس، أليسَ ذلك قرية؟”
“حتّى لو ظهرتْ فجأةً منذ عشر سنوات؟”
“عشر سنوات؟”
هذا افتراضٌ لم تتوقّعه. ألا يُعتبرُ ذلك، في أحسن الأحوال، معسكرًا أو احتلالًا غير شرعي؟
تابعَ النّادل:
“كانَ ذلك المكان في الماضي مستشفى عزل. يُسمّونه مستشفى، لكنّه كان مكانًا يُحتجزُ فيه المساجين المصابون بالأمراض المعدية أو المتشرّدون المرضى حتّى يموتوا. أُغلقَ منذ عقود، لكنّه يُعتبرُ أرضًا ملعونة، فلا أحد يذهبُ إليه.”
“……”
“حتّى لو لم تؤمني باللّعنات، لا يوجد سببٌ للذّهاب. الرّياح البحريّة تجعلُ الزّراعة صعبة، والشّاطئ سيّء للغاية لصيد السّمك. لكن، منذ عشر سنوات… فجأة، تجمّعَ هناك بعض الأشخاص الغريبين.”
“فجأة؟ بدون أيّ سبب؟”
“لماذا تستمرّين في السّؤال؟ كأنّكِ مصرّةٌ على الذّهاب!”
سدّتْ جملته، التي بدتْ وكأنّها تُعاملُ ريكي كـ”مكانٍ محظور”، فمَها. أجابتْ أليس كمن يبرّر:
“يجبُ أن أتأكّد مرّةً واحدة. إذا كانَ الدّخول مستحيلًا، يجبُ أن أبلّغَ الجامعة بالأسباب…”
“نعم، نعم. تحتاجينَ إلى مبرّر؟ صحيح. هذا أهمّ شيءٍ في العالم.”
استدارَ النّادل فجأة. لم تتبيّن تعابير وجهه، لكنّ صوته كانَ مزيجًا من الضّجر والخوف.
“إذا كنتِ فضوليّة، اذهبي وحدكِ. لا تطلبي من أهل القرية أن يرشدوكِ!”
“……”
وكأنّه يحاولُ محو أثر الحديث المشؤوم من فمه، ارتشفَ النّادل رشفةً من البراندي ثمّ بصقَها.
بعد لحظة، استعادَ المطعم بعض الصّخب. لكنّ كلّ ذلك الصّخب انزلقَ بعيدًا عن أليس كالزّيت على الماء.
‘كأنّني أُعاملُ كوباءٍ موسمي.’
غريبةٌ تظهرُ بين الحين والآخر لتسأل عن ريكي. هل الوقاية الوحيدة هي تجنّب الحديث معها؟
عبثتْ أليس بكوب عصير اللّيمون الفارغ ثمّ نهضتْ. تحمّل التّجاهل المتعمّد كانَ أصعبَ من تحمّل النّظرات الوقحة.
***
لم تكن قرية “ريكي” مدرجةً حتّى على الخارطة التي حصلتْ عليها من الدّائرة الحكوميّة. فقط علامة “مستشفى العزل” على خارطةٍ قديمةٍ مدفونةٍ في أرشيف المكتبة ساعدتْها على تحديد الموقع.
‘ليست منطقةً يمكن أن تنشأَ فيها قريةٌ بشكلٍ طبيعي.’
لا غاباتٌ جديرة بالذّكر، ولا مصادر مياهٍ جذّابةٍ كافيةٍ لدعم الزّراعة.
نصفُ المنطقة محاطٌ بخطّ ساحليّ يبدو كأنّ حاكماً شرّيرًا قد عبثَ به بعناية.
ورغمَ أنّها على البحر، فإنّ توقّعات تطوّر الصّيد تلاشتْ أمام تقريرٍ قديمٍ يذكرُ أنّ سفينة تجاريّة ضخمة دخلتْ هذا البحر عن طريق الخطأ، فتحطّمتْ بفعل الأمواج، وسفينة الإنقاذ اضطرّتْ للانسحاب بعد صعوباتٍ جمّة.
‘لو كانت أرضًا صالحة، لما بُنيَ مستشفى عزلٍ هناك.’
هل توجدُ قريةٌ حقًا؟
أم أنّ ناثان، ربّما، لم يدخل تلك القرية أصلًا وهو محتجزٌ في مكانٍ ما…؟
غرقتْ في تخمينٍ مشؤومٍ جعلَ ذهنَها يشتّتُ للحظة، فلم تلحظْ الرّجل الذي اعترضَ طريقها.
“آه!”
قبلَ الاصطدام مباشرة، توقّفتْ قدماها. لحسن الحظّ. وإلّا لكانتْ قد غرستْ أنفَها في صدر رجلٍ فتحَ قميصه بتهوّرٍ كقرصان.
أليس، على عجل، اعتذرتْ وهي تضعُ يدها على صدرها.
“أعتذر.”
“……يا للأسف.”
“ماذا؟”
“لو اصطدمتِ بنا، لطلبتُ منكِ شراء بيرةٍ على الأقل.”
تبًا. الحكم المسبق ليسَ عادلًا، لكنّ هذا الرّجل كانَ مطابقًا تمامًا للصّورة النّمطيّة التي استحضرتْها من مظهره. تراجعتْ أليس كقطّةٍ دُوسَ ذيلُها.
رفعتْ رأسَها بما يكفي لترى وجهه، لكن-
هذه المرّة، خالفَ توقّعَها المبنيّ على التّجربة.
‘لماذا هو طويلٌ جدًا؟’
كانَ وجهه في مكانٍ أعلى بكثيرٍ من مئات الرّجال الأحياء أو الأموات الذين رأتهم.
بعدَ أن لوَتْ عنقَها بصعوبة، التقتْ عيناها بعينين سوداوين تتقوّسان بشقاوة.
“من الصّعب رؤية وجهي، أليس كذلك؟ هل نجلسُ في مكانٍ ما؟”
ما هذا الهراء المفاجئ؟
خفضتْ أليس رأسَها فورًا، وشتمت عندما اصطدمت بجذع الرجل. جسدٌ يشبه تمثال حاكم حربيّ قديمٍ مغطّى بالرّصاص، ينبضُ بالحياة رغم شحوبِه، ملأَ رؤيتَها.
هل يظنّ هذا الرّجل أنّ القميصَ مجرّدُ غطاءٍ للظّهر؟
“لا، أعتذر.”
ضمّتْ أليس أوراقَها بقوّة واستدارتْ فجأة. من خبرتها، أمثالُ هؤلاء قد يمسكونَ بذراع المرأة إذا تجاهلتهم، لذا الأفضلُ الابتعاد جسديًا أوّلًا.
لكنّ الرّجل أوقفَها بطريقةٍ أخرى.
“تبحثينَ عن ريكي، أليس كذلك؟”
“……كيف عرفتَ؟”
“يا لوقاحتكِ. تصرخينَ في مطعمٍ في وضح النّهار، وتظنّينَ أنّ ذلك سيبقى سرًا مدفونًا كدفتر يوميّاتٍ تحت السّرير؟”
“ما غرضكَ؟”
ألقَتْ أليس جملتَها بحزم.
لم ترَ خيرًا قطّ من التّورّط في حديث أمثال هؤلاء. من الأفضل التّخلّص من الأدب.
بالطّبع، لم يبدُ الرّجل متأثّرًا.
“يا لها من فتاةٍ حادّة. حسنًا، الأمر واضح. إذا أرشدتُكِ إلى ريكي، كم ستدفعينَ؟”
آه، كما توقّعتْ.
عندما قالَ النّادل “لا تستأجري مرشدًا”، توقّعتْ أن يكونَ هناك من يغامرُ من أجل المال.
ابتلعتْ صيحةَ فرحٍ صغيرة، وسألتْ عن الشّروط:
“بعربةٍ أم بخيل؟”
“العربة باهظةٌ قليلًا. حوالي 30 غولدر للوجهة الواحدة؟”
“آه…”
مبلغٌ يعادلُ دخلَها الشّهري. ظهرَ على وجهها ارتباكٌ لم تستطع إخفاءه.
عادتْ إلى الوجه الخالي من التّعابير بسرعة، لكنّ الرّجل أمالَ رأسه كأنّه مستمتع. شعرُه الرّماديّ، الذي بدا كأنّه تُركَ لينموَ بحريّة، غطّى ياقة قميصه المجعّد.
آه، حقًا. رجلٌ لا يعجبُها بأيّ شكل.
“هل نجربُ خيارًا أرخص؟ هل تستطيعينَ ركوبَ الخيل؟ كما ترين، أنا ضخمٌ نوعًا ما، وللأسف، لا يمكنني مشاركة حصانٍ واحدٍ مع سيّدة.”
“لا شيءَ مؤسفٌ في ذلك! لحظةً فقط. لديّ أمتعةٌ كثيرة، لذا أفضّلُ التّفكير في العربة إن أمكن.”
“أمتعة. ما نوع الأمتعة التي تحملينَها؟”
كادتْ أن تردّ بنبرةٍ لاذعة “وما شأنكَ؟”، لكنّها تمالكتْ نفسَها.
’30 غولدر مبلغٌ كبير، لكنّه أفضلُ من عدم الوصول إلى القرية.’
عندما أخرجتْ أليس محفظتَها لتتأكّد من المبلغ المتبقّي، قالَ:
“لتوفير 30 غولدر.”
كالفراشة التي تطيرُ بعيدًا، اختفتْ محفظتُها من يدها.
“ماذا…؟”
رؤيةُ الرّجل وهو يركضُ ممسكًا بمحفظتها تلاشتْ بسرعة.
وقفتْ مذهولةً، ثمّ ركضتْ وراءه بعد لحظة.
“لصّ! توقّف!”
في مكتبةٍ صغيرةٍ في مدينةٍ نائيةٍ لا يزورها أحد، لم يجبْ أحدٌ صوتَها. ألقتْ أليس الأوراقَ التي كانتْ تحتضنُها، وفكّتْ حقيبتَها اليدويّة وألقتْها، وأخيرًا خلعتْ حذاءَها.
لكن، كلّما ركضتْ، ابتعدَ الرّجل أكثر، حتّى اختفى تمامًا من الأنظار.
أمسكتْ أليس ذراعَها المرتجفَ بكلتا يديها. هل رأيتِ سرعتَه؟
حتّى لو ركضتِ أكثر، لن تلحقي به. استسلمي الآن. فكّري فقط فيما يمكنكِ فعله.
رتبَ عقلُها الوضعَ بصعوبة. لحسن الحظّ، دفعَتْ أجرَ الإقامة في النُّزُل مسبقًا.
الآن، ارتدي حذاءَكِ، اجمعي حقيبتَكِ، احملي أوراقَكِ، وأبلغي عن السّرقة. لحسن الحظّ، ستلتقينَ برفاقكِ غدًا، وعندها ستُحلّ المشكلة الكبيرة-
…لا.
مشكلةٌ لن تُحلّ أبدًا دفعتْ عقلَ أليس إلى الهاوية في لحظة.
“أوبر…”
كانتْ وصيّةُ أخيها الصّغير، أوبيرت، داخلَ المحفظة.
التعليقات لهذا الفصل " 3"