الفصل 105
صرخ المرتزق الذي يحمل مسدّسًا.
“ألم يكن هذا صوت إد؟”
“لا يهمّ صوت من! يا آنسة، امشي بسرعة!”
يبدو أنّ شيئًا ما حدث للمرتزق الخارجيّ. أصبحت خطوات المرتزقين متسارعة وعاجلة.
أغلقت أليس الصّندوق، ضمّته إلى صدرها، وساوت خطواتها مع خطواتهما.
تلاشت الصّرخة بسرعة. ومع ذلك، كان هناك مجرى دمٍ أحمر يتدفّق بخفّة من مكانٍ ما، يقودهما كخيط ثيسيوس. كلّما تقدّما، ازدادت رائحة الدّم كثافة، مؤكّدةً أنّهما يسلكان الطّريق الصّحيح.
«ثيسيوس هو بطل من الأساطير اليونانية، اشتهر بدخوله متاهة المينوتور، الوحش نصف إنسان ونصف ثور، ليقتله.وقد استخدم خيطًا أعطته له أريادني (Ariadne)، فربطه عند مدخل المتاهة، وسار بالخيط حتى وصل إلى الوحش، ثم استطاع أن يعود باتباع الخيط نفسه دون أن يضيع.»
أمام موجة الدّم الحمراء المتلألئة التي وصلا إليها أخيرًا، تمتم المرتزق نحو ظلّ يملأ الممرّ.
“من أنت…؟”
تحت السّطح المتهدّم، استدار رجلٌ كان يستأثر بالضّوء. انزلق الضّوء بشكلٍ مائل، مضيئًا أوّلًا رجلًا ضخمًا ببشرةٍ رماديّة مبلّلة بالدّم، ثمّ رجلًا مغطّى بالدّم متدلّيًا من ذراعه اليمنى…
وأخيرًا، سلّط الضّوء على بقايا رجلٍ كان يومًا إنسانًا، ملقىً على الأرض.
“إد!”
تجاوز المسدّس ظهر أليس ليصوّب نحو فيوري. وفي الوقت نفسه تقريبًا، اجتازت بندقيّة المرتزق الأماميّ خطّ نظرهما.
“لا تفعل شيئًا أحمق!”
“وما الغباء في ذلك! هذا الوحش هو من أذى إد، لا شكّ في ذلك!”
“الرّجل المتدلّي من ذراعه الأيمن هو بالتّأكيد الأستاذ ناثان، الذي يجب ألّا نؤذيه أبدًا.”
“…”
عندما ذُكر اسمه، رفع ناثان رأسه. بسبب جفنيه المنتفخين اللذين يكادان يلامسان زجاج نظّارته، لم يكن بالإمكان تمييز لون عينيه، لكنّه، على الرّغم من حالته الممزّقة، كان معلّقًا هناك بأطرافه سليمة، وهذا وحده كافٍ لتأكيد أنّه الشّخصيّة الوحيدة في هذه القرية التي ليس لها حلفاء.
فتح فمه مصدرًا صوتًا معدنيًّا.
“أخ، أخ… الكونت سيرادا، أخ! أرسل، هؤلاء…”
“صحيح. هل أنت ناثان لابوف؟”
بدلًا من ناثان الذي كان يعاني من السّعال، أجاب فيوري.
“نعم، هذا هو الأستاذ ناثان لابوف، الذي لا يملك ذرّة من اللّطف. أمّا أنا، فأنا فيوري، أحد سكّان ريكي، وأودّ لو أرمي هذا الرّجل في وجوهكم وأعود إلى البيت.”
“أنت… أنت ذلك الذي هاجم الفرقة الأولى، أليس كذلك؟ ماذا فعلت! أفرج عن الأستاذ ناثان فورًا-”
“الترتيب خاطئ. الآن دوركم لتتكلّموا.”
تحوّل صوت فيوري إلى برودة مفاجئة.
“أخبروني بالتفصيل عن الألاعيب التي تمارسونها. بناءً على خطورة ذلك، سأقرّر ما إذا كنت سألوي أعناقكم، أو أربطكم على أرضيّة مقصورة خالية وأدع الطّبيعة تتولّى قتلكم.”
“ألاعيب؟ أيّها الوحش…”
بدلًا من زميله الغاضب، اختار المرتزق الذي يحمل البندقيّة المقامرة الوحيدة المتاحة له. حوّل فوهة البندقيّة لتصوّب على رأس أليس.
“إنّها مدرجة في القائمة ذاتها، لذا يفترض أنّها حليفة. إذا كانت هذه المرأة تمثّل ولو قيمة صغيرة بالنّسبة له، فهذا يكفي.”
كان هذا القرار مبنيًّا على هذا الحدّ من التّفكير. لكن عندما رأى المرتزق تعبير فيوري يتحوّل إلى غضبٍ لا يوصف، أدرك أنّ خياره كان صائبًا.
…لكن، إذا فشل، فقد ينتهي به المطاف مشتّتًا مثل زميله عند قدميه، وهي مقامرة كبيرة.
شدّ فيوري ذراعه بشكلٍ انعكاسيّ، فصرخ ناثان.
“توقّف، توقّف، أخ! أطلقني!”
“أودّ أن أطلقك، لكن هناك تلميذتك المفضّلة هناك. إذا رميتك وأصيبت تلميذتك، فماذا أفعل؟”
“أليس! هذا الرّجل، اقنعيه!”
تنهّدت أليس. يبدو أنّ ناثان، حتّى في مثل هذه الظّروف، لا يستطيع إظهار العقلانيّة التي يتباهى بها.
‘أنظر، الرهينة الأهمّ في هذا الموقف هي أنت.’
لكن الصّوت الذي خرج من فم أليس لم يكن عقلانيًّا على الإطلاق.
“هل أنت بخير؟”
عمّ الصّمت بعد هذا الصّوت الخافت. خفّف فيوري، الذي كان يشتعل غضبًا، من تعبيره للحظة، ثمّ عضّ على أسنانه، ورفع زاوية فمه بصعوبة وهو ينظر إليها.
“بخير، بفضلكِ، طبيبة أليس.”
“هذا جيّد.”
“لا، حقًّا. ليس مبالغة أو كلامًا فارغًا، أقسم أنّني يجب أن أمسك بكِ وأحكي لكِ عمّا حدث للتوّ.”
“يكفي الآن.”
طعن المسدّس ظهرها مجدّدًا. لم تُثر تلك اللمسة خوفًا يضاهي ما شعرت به عندما عثرت على جثّة فأر في منزل شارلوت، لكنّ أليس عادت إلى وضع الرّهينة وفتحت فمها.
“لنرتب الموقف. هدفكم، أيّها المرتزقة، هو إبادة سكّان ريكي وإنقاذ ناثان لابوف، صحيح؟ والأولويّة القصوى هي إنقاذ ناثان.”
“صحيح.”
“إذا سلّمنا ناثان إليكم، هل يمكنكم ضمان سلامة سكّان ريكي؟”
“أوه، عرضٌ سلميّ وجميل! إذا أطلقتم ناثان، سننسحب جميعًا! … هل ستثقين بهذا الجواب؟”
“…لا.”
“بالضّبط. كما تعلمين، هذا عرضٌ ساذج للغاية. حتّى لو كانت حياة هذا الرّجل ثمينة، فهي لا تساوي إنقاذ حياة الجميع. أقصى ما يمكننا تقديمه هو هذا.”
أشار ذقن الرّجل بالتناوب إلى الرهينتين. كانا الوحيدين اللذين يمكن وضعهما على الميزان بنفس الوزن تقريبًا.
” فيوري، لنتبادل ناثان بهذه المرأة.”
“فيوري، لا تقبل على الفور! يجب أن نتحقّق من وضع القرية… أخ.”
مرّت فوهة البندقيّة تحت ذقن أليس، فأسكتتها. تحدّث فيوري بصوتٍ يغلي من حلقه.
“توقّف. سأسلّم ناثان إليكم.”
“إجابة سريعة، أحسنت. أليس هذا أكثر صفقة عادلة يمكننا إتمامها؟”
قد تكون الصّفقة نفسها عادلة.
لكن نهايتها لن تكون كذلك.
بدأت أليس تشعر بالأنظار من الأمام والخلف في الممرّ، ومن الممرات التي خلّفتها الثّقوب في الجدران. يبدو أنّ الأشباح والمرتزقة الذين أنهوا المطاردة بدأوا يتجمّعون حول مركز المشكلة.
لم يكشفوا عن أنفسهم علنًا. كلّما زاد ضغط الموقف، قلّ احتمال أن يترك فيوري الرّهينة، وهذا خيارٌ منطقيّ. لكن، إلى جانب الأنظار، كانت هناك أصوات أحيانًا لأضلاع مكسورة تتأرجح مع كلّ نفس، وصوت إدخال الذّخيرة بحذر تتخلّل الصّمت.
‘الجمهور كثير جدًّا.’
أليس وفيوري، بمجرد ابتعادهما عن ناثان، سيندفع هؤلاء المذهلون حاملين سيوفهم وأسلحتهم.
لا شكّ أنّ فيوري لاحظ وجودهم أيضًا.
لكن، بدلًا من تقديم عرضٍ متسرّع للأعداء، أكّد ما يستطيع فعله.
“أليس، يمكنني حمايتكِ.”
“…أعلم.”
‘أنتِ’. لم تكن ترغب في جعل فيوري، الذي كان دائمًا يتقدّم بثقة، يقول مثل هذا الكلام.
لم يكن هناك وقتٌ لتذوّق المرارة طويلًا. اقترح المرتزق الذي يحمل البندقيّة طريقة تبادل الرّهائن.
“نجعل الرّهينتين يواجهان بعضهما على مسافة متر واحد، ثمّ نتراجع خمس خطوات لكلّ طرف. يتقدّم الرّهينتان بنفس السّرعة، يتجاوزان بعضهما، ثمّ يدخلان إلى معسكريهما.”
“حسنًا. هل سمعتَ، أستاذ ناثان؟ حان وقت المشي على قدميك. وقت الوداع الحزين.”
أنزل فيوري ناثان. تسبّب ناثان في رذاذٍ من الماء عندما سقط على الأرض، وأدرك متأخّرًا أنّ لا أحد سيأتي لمساعدته، فنهض بصعوبة.
“أخ… أخ.”
مع أوّل خطوة خطاها ناثان، طعن المسدّس ظهر أليس برفق. تقدّمت أليس ببطء إلى الأمام.
في اللحظة التي تقاطعت فيها مساراتهما، التفت ناثان إلى أليس فجأة. بدت نظرته المليئة باللّوم وكأنّها تطالب بتفسير. بالطّبع، لم يعد لدى أليس أيّ التزام أو عاطفة تجاه ما يريده.
“يمكنك أن تكون فخورًا، أستاذ.”
“ماذا تقصدين؟”
“لقد فكّرت فيما قد تفعله في ريكي، وكانت توقّعاتي صحيحة إلى حدّ كبير. لقد ربّيتِ تلميذة رائعة.”
“اخرسي…! لقد اتّخذتِ أسوأ خيار. ستندمين عليه طوال حياتك!”
منذ أن مرّ الطّبيبان ببعضهما، رأت أليس. مع كلّ خطوة تقدّمت بها، كان هناك رجلٌ ينظر إليها بتعطّش متزايد. وخلفه، ظلال الأشباح الذين يستعدّون للصّيد، ممسكين بأسلحتهم واحدًا تلو الآخر.
في اللحظة التي تصل فيها الرّهينتان إلى مكانهما المفترض، سيركض هؤلاء نحوهما.
قبل خطوتين فقط من الوصول إلى فيوري.
متجاهلة تعبيره المتوسّل، استدارت أليس وصاحت.
“أستاذ ناثان! ألم تنسَ شيئًا مهمًّا؟”
“ماذا؟”
أمام ناثان الذي التفت بشكلٍ انعكاسيّ، هزّت أليس الصّندوق الذي تمسك به بعنف. لم يرَ ناثان هذا الصّندوق مباشرة من قبل. لكن عندما فتحته أليس وأمسكت بحفنة من محتوياته، تحوّل تعبيره إلى ذهول وطمع.
“هذا…!”
“خذه بسرعة. إنّه ثقيل بعض الشّيء.”
تفتّت غصنٌ من عشبة مالوجا المجفّفة في يد أليس وتناثر.
“لا تفعلي!”
التعليقات لهذا الفصل "105"