•
•
•
“حسنًا يا سيرن. إذن، ما الذي تراه الأصوب؟”
“أولًا، بما أننا… كنا نحقق في الكازينوهات غير الشرعية في العاصمة، ألا يمكننا أن نواصل هذا التحقيق بينما ننتظر؟”
“في العاصمة؟”
“آه؟ عفوًا؟ همم…”
“ماذا عن العودة إلى دوقية ميرابيل بدلًا من ذلك؟”
اِلتوَت شفتا إيان في ابتسامة ساخرة.
“لا تسخر مني… همم… ألن تكون هناك قوى مرتبطة بالكازينوهات غير الشرعية في العاصمة أيضًا؟”
تأمل سيرن، قابضًا على رأسه، ثم نطق.
أومأ إيان برأسه بخفة، مشجعًا إياه على الإفاضة.
“مثل الدوق ميرابيل، ستكون هناك عائلات تلعب دورًا قياديًا في العاصمة كذلك.”
“على سبيل المثال؟”
“آه، كنت أعرف ذلك… لكن فجأة لا أتذكر جيدًا.”
“حسنًا.”
ربت إيان على كتف سيرن.
“إذن يمكننا الذهاب ورؤية ذلك بأنفسنا. لا سيما وأننا تلقينا دعوة.”
“دعوة؟”
ابتسم إيان بصمت وغادر الزقاق.
طارده سيرن بلهفة، بوجهٍ حائر.
“انتظر، لحظة يا سيد إيان! يجب أن تخبرني بالوجهة قبل أن تذهب!”
متجاهلاً سيرن، الذي كان يهرع بلهفة حتى لا يفوته، أخرج إيان القلادة التي كان يرتديها حول عنقه من تحت قميصه.
صُنعت القلادة المستديرة، ذات السطح المنحوت بدقة، لحفظ صورة شخصية.
حتى بعد إخراجها، لم يجرؤ إيان على فتحها بلا مبالاة، بل ظل قابضًا عليها بإحكام في يده.
كان صدره يشتعل.
– عائلة الكونت جراي… –
سخر إيان.
ما دام منخرطًا في قوى معادية لولي العهد، فقد توقع العودة إلى هناك يومًا ما.
اليوم الذي فقد فيه كل شيء عزيز عليه، وجُند في ساحة المعركة واُقتيد إليها دون أن يتمكن من الانتقام.
لقد أقسم إيان على العودة وإحراق كل شيء هناك.
– هل هذه هي الفرصة؟ –
هل يمكنه أخيرًا محو ذلك المكان من الإمبراطورية هذه المرة؟
أخذ إيان نفسًا عميقًا، كابحًا الذكريات الثائرة بعنف.
لا ينبغي أن يتصرف بتهور ويفسد الأمور.
لا يجب أن تدع أحدًا يعلم أنَّك تحملُ مسدسًا حتى تطلق النار في رأسه.
التفت إيان بابتسامة مصطنعة باردة إلى سيرن.
“سيرن.”
“أ- أنا أعلم! منزل الكونت جراي! إنه منزل الكونت جراي، أليس كذلك؟ إنهم أيضًا من النبلاء المؤيدين لولي العهد!”
“أجل، نحن…”
“سأقولها! إلى منزل الكونت جراي! فلنذهب!”
قاد سيرن، الذي لم يكن يعرف الطريق، المسير وهرع متحمسًا.
***
قبل وقت استيقاظهن المعتاد بوقتٍ طويل، تجمعت الخادمات في الردهة لاستدعاء رئيسة الخادمات الصباحي.
كُنَّ جميعهن يكافحن لإخفاء نعاسهن، ويكافحن لإبقاء أعينهن مفتوحة.
إيزابيل، من بينهن، رمشت ببطء بعينيها المتعبتين.
في حلم الليلة الماضية، ظهرت مارغريتا.
كانت مارغريتا في اليوم الذي ماتت فيه إيزابيل.
ابنتها التي لا تزال صغيرة كانت مختبئة بهدوء داخل الخزانة.
تذكرت كلمات والدتها بعدم الخروج حتى تجدها، فانتظرت بلا نهاية عودة والدتها.
مرّ الوقت.
غربت الشمس، وتلألأت النجوم بلا اكتراث، وأشرقت شمس اليوم التالي بلا رحمة، لكن مارغريتا ظلت بالداخل.
وقفت إيزابيل عند الباب وصرخت.
آمرة إياها بالخروج الآن، وأن والدتها لن تستطيع العودة، فلتخرج وتعيش.
حتى لو صرخت حتى بُحَّ صوتها، لم يصلها صوتها.
كانت مارغريتا مُتكوِّرَةً على نفسها، جالسةً كدمية.
تنتظر عودة إيزابيل التي لا تستطيع العودة.
– كم انتظرتِ؟ –
رمشت إيزابيل.
– كم، كم بقيتِ منتظرةً؟ –
بالنسبة لإيزابيل، التي أُعيد إحياؤها فور موتها، كان وقتًا طويلاً لا يُصدق.
علمت إيزابيل أن ذلك لم يكن مجرد حلم.
لا بد أن مارغريتا قد انتظرت حقًا كل ذلك الوقت، ثم أدركت.
أن والدتها لم تعد تستطيع القدوم.
ثم لا بد أنها قررت الانتقام.
كما قالت إيلي، لأنها لا تستطيع العيش دون ذلك.
شعرت إيزابيل بالدمار الشديد، وصرَّت على أسنانها.
شعرت بِثقلِ رأسها، وكأنه مملوء بالماء.
– لقد تناولت مسكنًا للألم، لذا سأكون بخير قريبًا. –
حدقت إيزابيل لتقويم رؤيتها الدوارة.
للحظة، بدت رؤيتها تتضح، لكن سرعان ما عادت تتذبذب، وتشتت تركيزها.
وبينما بدأت أنماط الأرضية والسقف تتداخل، شعرت بالغثيان أيضًا.
– هل هذا بسبب السم؟ –
على الرغم من أنها لم تنم جيدًا الليلة الماضية، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا ليجعلها بهذه الدرجة من الضعف.
قبل أن تسنح لها الفرصة لضبط نفسها، سمعت السيدة دونا، واقفة في آخر الردهة، تصفي حلقها.
كافحت إيزابيل لإخفاء العرق البارد على جبينها.
“اليوم، حوالي الساعة الثانية عشر ظهرًا، سيزورنا السيد إيان ريفيلوس والسيد سيرن فيكتور. وفي المساء، ستقام مأدبة عشاء رسمية كما هو مقرر.”
– مأدبة عشاء رسمية؟ –
عادة ما كانت تُقام بعد بدء الموسم الاجتماعي، لذا كان من غير المعتاد إقامتها في هذا الوقت.
“لقد أصدرت السيدة توجيهات خاصة بضرورة إعداد الترتيبات دون أي خلل، لذا على الجميع أن يكونوا دؤوبين في مهامهم دون إهمال.”
بعد أن أنهت الإعلان، صفقت السيدة دونا بيديها لتأمر بالانصراف.
كانت إيزابيل على وشك الانتقال إلى المطبخ حيث عملت في اليوم السابق.
“بيل، تعالي للحظة.”
نادَت السيدة دونا على إيزابيل، فأوقفتها.
“لقد تعلمتِ القليل عن خدمة النبلاء، أليس كذلك؟”
إيزابيل، التي أُمسك بكتفها فجأة، فتحت فمها لترد، محاولةً عدم الارتباك.
لكن قبل أن تتمكن من التحدث، طار السؤال التالي.
“لا، لا يهم إذا لم تكوني قد تعلمتِ ذلك بشكل صحيح. هل سبق لكِ أن فعلتِ ذلك؟”
حثت إيزابيل على الإجابة، مربتةً على كتفها بتعبير قلق.
“نعم، أحيانًا كان فيسكونت أو بارون يمكثان، لذا…”
“هذا يكفي إذن. اذهبي وغيري ملابسكِ أولًا. ستكونين مسؤولة عن الضيافة اليوم. احصلي على تعليمات مفصلة من الخادمات الأخريات المسؤولات عن الاستقبال.”
دفعت السيدة دونا ظهر إيزابيل إلى الطابق العلوي بتعبير مستعجل.
كادت إيزابيل، التي دُفعت دون فرصة لتثبيت قدميها، أن تفقد توازنها ولكنها تمكنت من الوقوف بصعوبة.
وهناك، وكأنها قد أُبلغت مسبقًا، كانت إيلي تمشي وتنتظر.
“بيل! أسرعي وغيري ملابسكِ أولًا!”
ركضت إيلي حرفيًا، ساحبة إيزابيل إلى العلية.
ودون أن تدري إيزابيل السبب، غيرت إلى زي بعد الظهيرة الرسمي.
وما أن غيرت ملابسها، حتى أمسكت إيلي بذراعها بسرعة.
“أسرعي واتبعيني!”
تبعت إيزابيل إيلي وسألت:
“أليس هناك متسع من الوقت حتى وصول الضيوف؟”
إذا كان من المتوقع أن يصلوا تمام الظهيرة، حتى الخادمة التي لم تتولَ الاستقبال من قبل يمكن تدريبها بما يكفي حتى لا تبرز.
مجرد تحية لائقة ستكون كافية لعدم لفت الانتباه.
لكن السيدة دونا وإيلي كانتا مرتبكتين بشكل مفرط.
استدارت إيلي فجأة وصرخت:
“هذا صحيح لو كانوا سيصلون الساعة الثانية عشر ظهرًا! إنهم عند المدخل الآن!”
“ماذا؟”
“الكل في حالة ذعر!”
طوت إيلي أصابعها واحدًا تلو الآخر، وكأنها تحصي المهام.
ثم هزت رأسها بنظرة ذهول تام.
“علاوة على ذلك، ليلي، خادمة الاستقبال، لم تستيقظ منذ سقوطها من درج الطابق الثاني أمس…”
“سقطت من الدرج؟”
“أجل، قالوا أنها كانت ملقاة فاقدة للوعي في طريقها إلى الطابق الثاني.”
“آه…”
“يبدو أنها تعثرت، لكنها لا تزال فاقدة للوعي وتهذي فقط.”
تنهدت إيلي وأضافت:
“على أي حال! لحظة واحدة فقط، من فضلك. رونا، التي هي في إجازة، ستعود قريبًا لتتولى الأمر.”
سُحبت إيزابيل إلى غرفة الاستقبال دون أن تسنح لها فرصة لتقول أنها لا تشعر بحال جيد وقد لا تكون قادرة على ذلك.
قدمت خادمة استقبال أخرى كانت تنتظر في الأمام لإيزابيل إبريق ماء.
“حسنًا، بمجرد وصول طقم الضيافة، سندخل على الفور. بيل، تعلمين أن تصبي الماء من الجهة اليسرى الخلفية، أليس كذلك؟ لحظة واحدة فقط، من فضلك!”
“إيلي، تعالي إلى هنا للحظة! يبدو أن هذا الفنجان به كسر!”
“ماذا؟ لحظة واحدة!”
هرعت إيلي إلى الجانب الآخر دون أن تتأكد من إيماءة إيزابيل.
كانت جميع خادمات الاستقبال المحيطات بإيزابيل يتحركن بجنون.
إيزابيل، وهي تقف وسطهن، كانت على وشك فقدان وعيها بنفسها.
سرعان ما ظهرت خادمات المطبخ وهن يركضن من آخر الردهة حاملات طقم المرطبات.
اصطفت الخادمات أمام غرفة الاستقبال بوجوهٍ عابسة.
***
“سأعد الشاي. إنه شاي أسود مُعدّ بعناية شديدة.”
رتبت ليديا، خادمة الاستقبال الواقفة في المقدمة، طقم الضيافة على الطاولة.
وقفت إيزابيل متخفية في أقصى الخلف بين الخادمات المنتظرات.
بفضل مسكن الألم، كان دوارها يتلاشى تدريجيًا، متحسنًا لدرجة أنها أصبحت قادرة على تتبع سير الأفكار.
– قيل أن من وصلا لتوهما هما السيد إيان ريفيلوس والسيد سيرن فيكتور –
تذكرت أنها سمعت هذه الأسماء عندما كانت تخدم الكونتيسة ديانا.
إذا كانت كونتية جراي ودوقية ميرابيل تدعمان ولي العهد، فإن كونتية ريفيلوس وماركيزية فيكتور تدعمان الأمير الثالث.
– عندما كنتُ على قيد الحياة، كان جانب ولي العهد أكثر هيمنة بكثير. –
كان هذا بسبب الوفاة الغامضة للأمير الثاني، الذي عارض ولي العهد.
الأمير الوحيد المتبقي كان الأمير الثالث، لكن الشائعات حوله في ذلك الوقت لم تكن جيدة.
وتداولت الصحف شائعات بأنه جن بعد رؤيته مأساة أخيه، وأنه لا يستطيع المشي بشكل صحيح بسبب إصابة في ساقه.
إذا كان ذلك صحيحًا، بدا من المستحيل على الأمير الثالث أن يصبح إمبراطورًا.
الآن، يبدو أنهم اكتسبوا قوة متساوية بطريقة ما، لكن الجميع علم أن التعاون بين الفصيلين كان أمرًا بعيد المنال بغض النظر عن ذلك.
– ولكن أن يحضر نبلاء من فصيل الأمير الثالث مأدبة عشاء رسمية في منزل الكونت جراي… –
كان ذلك مثيرًا للريبة إلى أقصى حد.
خاصة وأن المآدب الرسمية قبل الموسم الاجتماعي لا يمكن حضورها بدون دعوة.
راقبت إيزابيل الرجلين بعناية.
جلس إيان ريفيلوس بقامةٍ لا تشوبها شائبة، دون أدنى قدر من الاضطراب.
كان جسده المدرب قويًا ومع ذلك بدا أنيقًا، دون أي مبالغة.
أدركت إيزابيل، بعد مراقبته لبعض الوقت، أن هذا نابع من سلوكه.
كل حركة لإيان كانت خالية من الحركات غير الضرورية.
كانت أناقة من نوع مختلف عن أناقة مارغريتا، التي كانت كل إيماءة منها تتسم بمهارة فنية متقنة.
أمال إيان رأسه قليلًا وابتسم.
في كل مرة، كانت خصلات شعره القصير ذات الضبغة الخضراء الداكنة تتراقص برٌقيٍّ.
كان رجلًا يحافظ على اللياقة دون أن يقلل من شأنه أبدًا.
رجلٌ لم يكن ليُقيَّد قط ضمن نفس الحدود التي قيدتها هي، والتي كانت دائمًا مضطرة لإظهار نفسها بالكامل.
•
•
•
-انتهت-
التعليقات لهذا الفصل " 8"