استرجعت إيزابيل ذاكرتها لأحد الأيام.
كان ذلك اليوم هو الثالث منذ وفاة الكونتيسة ديانا جراي المأساوية إثر سقوطها من الشرفة.
إيزابيل، التي كانت الخادمة الشخصية للكونتيسة الراحلة، قد حصلت على إجازة بعد وفاتها وظلت مقيمة في منزلها خارج القصر.
طرق، طرق.
سمعت صوت طرق من الخارج.
كان الصباح باكرًا ليزورها أحد.
“من الطارق؟”
“هل أنتِ إيزابيل جيمنين…؟”
كان صوتًا رجوليًا غير مألوف.
حدسها الغريزي دفعها لتتراجع خطوةً إلى الوراء، ونظرت خلفها.
في غرفة المعيشة، كانت ابنتها مارغريتا تتناول الحساء.
لم يكن هناك ضيف – وخاصة من جنس الرجال – يمكن أن يزور منزل إيزابيل في هذه الساعة الباكرة.
شعرت إيزابيل بنذير شؤم، فرفعت مارغريتا بسرعة وأنـزلتها من الكرسي.
“هيا، ريتا. هل نلعب الغميضة للحظة؟”
“فجأة؟”
“أجل، مر وقتٌ طويل منذ لعبناها، أليس كذلك؟ تعلمين أنه يجب ألا تخرجي أبدًا حتى تجدك أمي، أليس كذلك يا ريتا؟”
حدقت مارغريتا في الباب بتركيز، ثم أومأت برأسها.
ربتت إيزابيل على شعر ابنتها لمرةٍ ثم بدأت العدّ.
“واحد، اثنان… خمسة… عشرة.”
وبينما كانت واقفة وعيناها مغطاة، سمعت حركة ريتا وهي تختبئ داخل الخزانة.
تعالى صوت الطرقات على الباب!
“إيزابيل جيمنين، افتحي الباب!”
ربما بعد أن أدركوا أن إيزابيل قد استشعرت شيئًا خطيرًا، تغيرت حركة من بالخارج.
كان اثنان أو ثلاثة يطرقون الباب الأمامي في نفس الآن بعنفٍ شديد.
دفعت المكتب لسد الباب. وعندما الفتت للخف لم ترَ ريتا، إذًا فقد اختبأت جيدًا.
صوت ارتطام قوي!
اقتحم عدة أشخاص الباب، محطمين مقبضه بسيوفهم.
وسرعان ما انهار الأثاث الذي كان يسد الباب تحت وطأة قوتهم.
وقفت إيزابيل، حامية الخزانة التي اختبأت فيها ريتا بجسدها.
“هل أنتم رجال الكونت…؟”
كان المقتحمون مألوفين لعيني إيزابيل. لأنهم جنود الكونت جراي الخاصين.
“هل لي أن أسأل عن سبب قدومكم؟”
رغم سلوكهم المهدد، تحدثت إيزابيل بأدب كالمعتاد.
غير أن ما لقيتْه في المقابل كان اعتقالًا عنيفًا.
“أنتِ قيد الاعتقال بتهمة قتل الكونتيسة ديانا جراي.”
أمسك الفارس دانكان سايلو، الذي كان يقود المجموعة، بمعصم إيزابيل وجرّها إلى الخارج.
“ألديكم أي دليل؟ أنا لا علاقة لي بوفاة سيدتي!”
مهما سألت، ظلوا صامتين.
أُلقيت إيزابيل ببساطة في الساحة وضُربت.
لم يطلب الفرسان منها حتى الاعتراف بذنبها.
كان ذلك ببساطة لأن الكونت قد قرر أن إيزابيل هي الجانية، وذلك كان كافيًا لهم.
وتحت السياط المتهاطلة، جزَّت إيزابيل أسنانها.
في البدء، ظنت أنها يجب أن تنجو بأي ثمن، حتى لو اضطرت للتوسل، لتعود إلى جانب ريتا.
لكن مع مرور الوقت، أدركت.
لن تعود حيةً أبدًا إلى جانب ابنتها.
لن يتركوها تغادر حية.
“أيتها العاهرة العنيدة. ترفضين الاعتراف بجريمتك حتى النهاية.”
“لا يهم. لم نتلقَ أوامرًا بإجباركِ على الاعتراف بجميع الأحوال.”
همس دانكان، ممسكًا بشعر إيزابيل ورافعًا إياها من حيث كانت ملقاة على الأرض.
“موتي وحسب، لا تقاومي. لقد حُددتِ بالفعل كالمجرمة، والجميع سيصدق ذلك على أي حال.”
انعكس دانكان في عيني إيزابيل الغائمتين.
بعد عدة محاولات فاشلة، تشبثت بأطراف بنطاله.
“سيدي…”
كانت كلماتها غير واضحة وغير مفهومة بسبب الدم المتجمع في فمها.
قرب دانكان وجهه من فم إيزابيل.
“ماذا قلتِ للتو؟”
تمسكت إيزابيل ببنطال دانكان، محاولة يائسة أن تزحف إلى الأعلى.
تشنجت أطراف أصابعها الدامية، الخشنة من الاحتكاك بالأرض الترابية، وهي تمسك ببنطاله الخشن حتى ابيضت.
“سيدي الفارس… بما أنني فعلتُ ما طلبتهُ، هآه، سَتُعطيني المال كما وعدتَ، أليس كذلك؟”
“ماذا؟”
“لقد… وعدتَني، آه، أليس كذلك؟ بأنني لو قتلتُ الكونتيسة، فستعطي المال لعائلتي…!”
فتحت عينيها الخضراوين على مصراعيهما، حيث تجمع الدم وتدفق، وصرخت بصوت عالٍ بآخر ما تبقى لها من أنفاس.
بصوت عالٍ بما يكفي ليسمعه جميع من في الساحة.
لقد كانت كذبة، لا تحتوي على كلمة واحدة من الحقيقة.
لقد علمت جيدًا أن هذا التصريح الوحيد من خادمة لا يحمل أي صلاحية قانونية على الإطلاق.
ولكن، بهذا، لن يصبح موت إيزابيل أبدًا براءتهم.
حتى لو وصمت إيزابيل بالجريمة وأُعدمت على الفور، سيتذكر الناس.
— آنذاك، في ذلك اليوم، ألم تقل تلك الخادمة ذلك؟ أنهم وُعدوها بالمال. —
— هل كان الفارس يتصرف من تلقاء نفسه؟ —
— محال، من يدري، قد يكون هناك رؤساء أعلى متورطون. —
تلك كانت الشكوك التي يخشون الإفصاح عنها.
سيأتي يوم وتطفو فيه على السطح.
زرعت إيزابيل بذرة شكٍ صغيرة لأجل ذلك اليوم.
كانت تلك أول مقاومة صغيرة قامت بها في حياتها.
“هاه…”
ارتعش وجه دانكان وتشنج من الغيظ، ثم دفع إيزابيل أرضًا.
“أ- أيتها المرأة المجنونة…”
اشتَدَّت قوة سوطه.
كانت إيزابيل ممددة على الأرض، تسعل بألم.
آلمها ذلك وبشدة.
خدش جلدها على الأرض الخشنة، السائل الذي كان يسيل من آثار السياط على جسدها كله، الارتعاشات والتشنجات العضلية الدقيقة وهي تستعد لجلدة أخرى.
لم يكن هناك من جزءٍ لا يؤلمها.
ومع ذلك، لم يحل الموت عليها بسهولة.
استمر خيط حياتها الطويل بلا داعٍ في التمدد بشكل رفيع، متشبثًا بصعوبة بأي نفسٍ وكأنه على وشك التمزُّق.
مر نصف يوم آخر على نفس الحال.
غربت الشمس في الساحة.
وكانت إيزابيل رقيدة الأرض المظلمة، تلهث كسمكة أُخرجت من الماء، لا تملك حتى القوة للتأوه.
لم يتحرك أي جزء من جسدها كما أرادت، لكن الغريب أن الألم ظل حادًا وواضحًا.
“إنها عنيدة بشكل مقرف.”
قال أحدهم بنبرة منزعجة.
وقد وافقته إيزابيل الرأي في قرارة نفسها.
كان الألم يكفي للموت، لكنها لم تمت.
إيزابيل التي تناست فكرة وجوب تشبثها بالحياة والعيش من أجل ابنتها، تمنت ببساطة أن تنعم بالموت.
تمنت توقف أنفاسها بسرعة لتُنهي هذه الحياة.
ومع ذلك، لم تتوقف أنفاس إيزابيل إلا بعد ساعات قليلة أخرى، بعد أن تلبدت السماء بسوادٍ حالك.
– مارغريتا. –
تأملت إيزابيل السماء المرصعة بالنجوم بعينين زائغتين، وفجأة طرأ على بالها اسم ابنتها.
إحدى عينيها قد أصيبت بشكل سيء وأصبحت عمياء منذ وقت طويل.
“…غريتا.”
رددت الاسم مرة بعد أخرى، لكن نطقها كان غير واضح.
– لم أُعد حتى العشاء لهذه الليلة. –
قبل أن تنقطع أنفاسها مباشرة، ندمت إيزابيل على عدم تحضير ما يكفي من الحساء.
كان ذلك هو الندم الوحيد الذي انتاب إيزابيل قبل وفاتها مباشرة.
***
“هل أنتِ… بخير؟ لم تشعري فجأة بوعكة، أليس كذلك؟”
أيْقَظَ صوتُ الطبيب إيزابيل من ذكرياتها.
“أجل… بالطبع. أنا بخير تمامًا.”
تمتمت إيزابيل بوجه كئيب.
لم تتلاشَ إحساسات الموت بسهولة، وهزت رأسها عدة مرات وهي تفكر.
– أولًا، ريتا… يجب أن أذهب لأرى ريتا. –
زفرت بجفاءٍ وواصلت مسح الصحيفة.
كان معظمها صحفًا منخفضة التكلفة للطبقة العامة، تركز على القيل والقال، لكن قسم الإعلانات أثبت فائدته إلى حد ما.
مع اقتراب نهاية الشتاء وبدء الموسم الاجتماعي، حان الوقت للعائلات النبيلة لتوظيف موظفين إضافيين.
وبالفعل، بين إعلانات الوظائف المكتظة، كان هناك إعلان من عائلة جراي.
[قصر الكونت جراي – وظيفة شاغرة لخادمة مؤقتة خلال الموسم الاجتماعي]
مزَّقت إيزابيل ذلك الجزء من الصحيفة.
“عليّ المغادرة الآن. شكرًا لك على كل شيء.”
“لـ- لكن هل ستغادرين حقًا؟”
على الرغم من أن كلماته تظاهرت بالأسف، إلا أن وجه الطبيب أظهر فرحة وارتياحًا عجز عن إخفاؤهما.
لا بد وأن إنقاذ وإخفاء مريض مصاب بطلقات نارية يبدو وكأنه ارتكب جريمة كان عبئًا كبيرًا عليه.
“أجل، لن يكون جيدًا لكَ إذا مكثتُ طويلًا، حضرة الطبيب. إدخالي إلى منزلكَ كان مخاطرة منذ البداية.”
“هذا ليس… حسنًا، أنتِ محقة، ولكن…”
“…”
“أختي الصغرى في مثل عمرك تقريبًا. لم أستطع أن أتركك لتموتي وأنا أعلم أن ذلك محتم.”
انحنت باحترام للطبيب الذي كان يحك رأسه.
كان ذلك أقصى درجات الامتنان التي يمكن أن تظهرها له في تلك اللحظة.
***
نصح الطبيب إيزابيل باستقلال القطار، عندما سمع نيتها في التوجه إلى العاصمة.
وبما أنه أدرك من حديثهما السابق أنها غير ملمة بالقطارات، فقد شرح لها حتى طريقة الاستخدام الأساسية.
قبلت إيزابيل شاكرة إمداد المسكنات لمدة شهر الذي قدمه، وتوجهت إلى محطة القطار.
لم تكن المحطة مزدحمة في الصباح الباكر. غير أن عدد رجال الشرطة المتجولين كان ملحوظًا للغاية.
بدلاً من التوجه مباشرة إلى رصيف القطار المتجه إلى العاصمة، دخلت إيزابيل غرفة الانتظار واستكشفت الأجواء.
مجموعة من السيدات متجمعات في زاوية واحدة كن يتهامسن بصوت منخفض.
“انظروا إلى الضباط. يقولون أن كل هذا بسبب ذلك اللص، أليس كذلك؟”
“لم يلقوا القبض على ذلك اللص بعد؟”
“كلا، لم يفعلوا. يا إلهي. لا أستطيع النوم جيدًا حتى من أصوات الطلقات النارية كل ليلة.”
“تعلمن جميعًا أن زوجي يعمل في قصر الدوق ميرابيل، أليس كذلك؟ يقولون أنه كان لصًا حاول سرقة بعض الوثائق الهامة هناك. لقد غضب الدوق ميرابيل بشدة.”
“من الكئيب أن نعيش وسط هذا الرعب”
اللص الذي حاول سرقة وثائق من القصر وفشل هو، باحتمالية كبيرة، إيزابيل نفسها.
– كم كان جيدًا أنني غيرت ملابسي في منزل الطبيب. –
شعرت إيزابيل براحة عميقة. لو أنها خرجت على حالها، لكانت الشرطة قد جرتها على الفور.
بمجرد خلع ملابسها الرثة التي كانت ترتديها أثناء المطاردة وارتداء فستان أنيق من الطبقة الوسطى وقبعة عريضة الحواف، تغير مظهرها بالكامل بشكل كبير.
إذا كانت هي القديمة تبدو كشحاذة شوارع، فإنها الآن تبدو كسيدة شابة من طبقة النبلاء الصغرى.
لكن كان من المبكر للغاية الشعور بالأمان التام.
من المرجح أنهم كانوا يعرفون أوصافها ويطاردونها، لذا كانت هناك احتمالية كبيرة للقبض عليها إذا خضعت لتفتيش دقيق.
إذا لم تتمكن من التخلص من مطارديها هنا، فستصبح الأمور أكثر صعوبة في العاصمة.
فبدلًا من البقاء إلى جانب ابنتها للعام المتبقي، قد تضطر إلى قضاءه في مطاردة مستمرة.
نظرت إيزابيل حولها.
على جدار غرفة الانتظار كانت هناك خريطة طرق توضح أوقات المغادرة ومحطات التوقف لكل قطار.
سرعان ما حفظت إيزابيل خريطة المسار عن ظهر قلب، متظاهرة بفحص المحطات.
في دوقية ميرابيل، الواقعة في الجزء المركزي من إمبراطورية ماغريث، تتوقف القطارات المتجهة إلى الجنوب، والعاصمة، والغرب.
والطريق المعاكس تمامًا لقطار العاصمة كان هو المتجه جنوبًا.
المحطة التالية للقطار المتجه جنوبًا كانت على بعد نصف يوم، لذا إذا استقلت القطار الخطأ، فسيستغرق العودة وقتًا طويلًا.
استعادت إيزابيل في ذهنها جدول مواعيد المغادرة الذي حفظته للتو بالنظر.
– كان قطار الجنوب في الساعة 9:57، وقطار العاصمة في العاشرة. –
نظرت إلى الساعة المعلقة على جدار غرفة الانتظار.
بقي حوالي خمس دقائق حتى موعد المغادرة.
– قليلًا بعد، عليَّ الانتظار قليلًا بعد، ثم… –
ما إن اقترب موعد مغادرة القطار المتجه جنوبًا، حتى ركضت إيزابيل خارج غرفة الانتظار وتوجهت نحو كشك التذاكر.
“تذكرة واحدة لقطار الجنوب، من فضلك.”
“عفوًا؟ تبقى دقيقة واحدة على المغادرة…”
“أرجوك، هات تلك التذكرة!”
صرخت، وألقت قبعتها، فتطاير شعرها البني.
سلمها موظف التذاكر التذكرة بوجه مرتبك.
وعندما التفتت إيزابيل، رأت رجال الشرطة يتهامسون عندما لمحوا شعرها البني.
بدأت إيزابيل بالركض بكل قوتها نحو رصيف القطار المتجه جنوبًا.
-انتهت-
التعليقات لهذا الفصل " 3"