•
•
•
مع اقتراب نهاية وجبة الجميع، نهضت مارغريتا من مقعدها.
وفي ظل تركيز الأنظار عليها، اقتربت من الكونت جراي في الجهة المقابلة.
“يبدو أن الأوان قد حان للانتقال إلى مكان آخر، ما قولك؟”
ارتكزت يد مارغريتا بشكل طبيعي على كتف الكونت.
بدت أصابعها في غاية الرشاقة وهي تداعب كتفه.
“إذا كانت هذه رغبتك، فلا بد لنا من الامتثال.”
نهض الكونت غراي فورًا وتحدث.
اختفى تعبير الملل الذي لازمه طوال الوجبة، ليحل محله شغف جارف تجاه مارغريتا.
حاوطت يده كتف مارغريتا.
ابتسمت مارغريتا دون أدنى تردد، وأعانته ببراعة على الوقوف.
أدارت إيزابيل وجهها قسرًا بينما كانت تشاهدهما بذهول.
يجب ألا تنغمس في ردود أفعالها.
لقد أدركت ذلك، لكن كان من الصعب أن تتحمل رؤية الكونت حراي مع ابنتها.
– كفى… –
أغلقت عينيها بإحكام، ثم فتحتهما لترى مارغريتا تقف مع الكونت جراي عند مدخل قاعة الطعام الرسمية.
قالت مارغريتا بوجه مبتسم:
“سأقوم الآن بتوجيه الجميع إلى غرفة الألعاب. لقد أعددت نبيذ غلوش المعتق لعام 791، لذا آمل أن يستمتع الجميع به مع لعبة ورق.”
وما أن أنهت كلامها، حتى بدأ النبلاء في التهامس.
“اعتقدت أنه لا يُخزن إلا في القصر الإمبراطوري.”
“يبدو أنهم تلقوه هدية. يبدو أن الرابطة بين كونتية جراي وسمو ولي العهد ما زالت قوية.”
رفع الكونت جراي رأسه بشموخٍ، ونحّض حلقه.
“إنه نبيذ منحه سمو ولي العهد تكريمًا لجهودي في مشروع التنمية الجنوبية.”
أومأ الجميع برؤوسهم وكأنهم توقعوا ذلك.
“إذًا هل ننتقل جميعًا إلى غرفة الألعاب؟”
أشارت مارغريتا بحركة يد أنيقة، تقود الطريق.
وفي اللحظة التي كان فيها النبلاء على وشك اجتياز عتبة قاعة الطعام الرسمية، رفع إيان يده اليمنى، فأوقفهم.
“لحظة من فضلك، حضرة الكونتيسة.”
“سيد إيان ريفيلوس، أفترض.”
“أجل سيدتي. إن لم يكن في ذلك حرج، هل لي بزيارة قبو النبيذ؟”
أومأت مارغريتا برأسها برحابة صدر.
“أخبرتني خادمة أن السيد إيان قد أعد شيئًا لنا. إذا كنت ستذهب لاستحضاره، فلا يمكنني بحال من الأحوال أن أمنعك.”
“نعم، إنه شيء سيرضيكم جميعًا أيضًا.”
توقف إيان للحظة، متفقدًا النبلاء من حوله.
بدوا جميعًا فضوليين.
وحده سيرن، الواقف شامخًا بفخر إلى جوار إيان، بدا وكأنه يعرف ما الأمر.
“إنه نبيذ يعود لسبعة قرون من ماركيزية روبرت.”
اتسعت أعين النبلاء بذهول.
“هل هو ذلك الذي قيل أنه صُنع عندما تأسست الماركيزية؟”
“سمعت أن محصول العنب كان سيئًا للغاية آنذاك، فلم ينتج إلا حوالي ثلاثين زجاجة… ويقال أن طعم ذلك العنب رائع لا مثيل له.”
“والدتي، الكونتيسة ميلا ريفيلوس، تربطها صداقة خاصة بالماركيزة روبرت، لذا حصلت عليه بصعوبة بالغة.”
كان رد الفعل أكثر حماسًا من رد الفعل على نبيذ غلوش.
حتى الماركيزة سبيير، التي كانت هادئة عندما سمعت عن نبيذ غلوش المهدى من ولي العهد، أطلقت شهقة إعجاب.
انحنى إيان برقة.
“إذن، أراكم جميعًا بعد قليل.”
تاركين إيان وحيدًا، بدأ النبلاء الآخرون في التحرك.
حتى سيرن، الذي كان دائمًا ملازمًا لإيان، كان يسير خلف الآخرين.
– إلى أين ينبغي أن أذهب؟ –
ناوبت إيزابيل بصرها بين إيان والنبلاء الآخرين، غير متأكدة إلى أي اتجاه تذهب.
في تلك اللحظة، سمعت صوت إيان.
“أنتِ، معي.”
كان أمرًا بالمتابعة.
نظرت إيلي بقلق، لكن لا مفر.
تبعته إيزابيل بصمت نحو قبو النبيذ.
– إذن، هكذا تكون النهاية. –
سواء كان إيان حليفًا أو عدوًا، فإن أي محادثة بينهما ستكون شديدة السرية.
لم يكن لديه خيار سوى خلق موقف يكونان فيه بمفردهما.
أمسكت إيزابيل السكين، المخفي في جيب زي خدمتها، وأحكمت قبضتها على مقبضه.
لم تكن متأكدة ما إذا كان جسدها سيندفع في اللحظة المناسبة.
لكن إذا لزم الأمر، فقد تتمكن من التلويح بالسكين مرة واحدة.
وأخيرًا، وصل إيان إلى قبو النبيذ ودفع بابه الثقيل ليفتحه.
تبعته إيزابيل إلى الداخل، ويدها ثابتة في جيبها.
***
بمجرد دخول إيزابيل، أغلق إيان الباب.
تأوهت المفصلات الصدئة، ملتهمة ببطء الضوء المتسرب من شق الباب.
لم تستطع إيزابيل أن ترفع عينيها عن الفجوة حتى اختفت.
شعرت وكأن حبلًا واحدًا من السماء قد اُنتشل بعيدًا عنها.
وما أن أُغلق الباب، حتى استدار إيان.
أصبح الآن من المستحيل الخروج دون تجاوز إيان، الذي كان ظهره إلى الباب.
فضاء مغلق تمامًا.
بمجرد إدراكها أنهما وحيدان في مكان لا يخترقه شعاع نور واحد، انحبست أنفاسها في حلقها.
كان خوفها مختلفًا عن الذي شعرت به عندما لم تكن تعرف علاقتها الدقيقة بإيان.
كان رعبًا بدائيًا أكثر بكثير.
– لماذا هذا… لماذا فجأة، لماذا يحدث هذا…؟ –
— إيزابيل.
سمعت صوتًا مجهولًا في أذنها.
— ارفعي ذراعكِ. أجل، هكذا…
انحبست أنفاسها.
شعر جسدها بالبلادة والخدر، وكأن كل حبال السيطرة قد سُلبت منها.
الخوف، الذي كان يقضم صدرها دون حتى أن يمر عبر أفكارها، دفع إيزابيل.
خطوة واحدة إلى الخلف كانت مجرد البداية.
خطوتان، ثلاث خطوات، واصلت الابتعاد عنه، لكن أنفاسها تزداد اضطرابًا.
— واسحبي الـ…
رؤيتها تلاشت إلى الأبيض.
كانت على وشك التعثر والوقوع، على وشك الانهيار.
أُعيد فتح الباب.
كان إيان.
كان يمسك مقبض الباب مفتوحًا، عابسًا وهو يرى إيزابيل تتراجع.
لكن إيزابيل لم تكن في حالة تسمح لها بتمييز تعابيره.
“هاه…”
أخيرًا زفرت بعد أن استقبلها الضوء من خارج الباب المفتوح.
عندها فقط، انطلق أنفاسها المكبوتة.
انهارت على الأرض، دافنة رأسها في الأرض وتلتقط أنفاسها.
تعالى صدرها ثم انخفض مرارًا وتكرارًا.
كان خوفًا رهيبًا، لا يمكن وصفه بالكلمات.
“هاه، هـ- هاه، هاه…”
كافحت لالتقاط أنفاسها.
كان وجهها المحمر في حالة فوضى.
– لم أكن خائفة من إيان ريفيلوس. –
حتى وهي مستلقية على الأرض وتسعل، كانت مدركة.
كانت إيزابيل ستخاف أيًا كان من يقف أمام الباب المفتوح.
أي شخص، طالما كان رجلًا نبيلًا.
تباطأت سرعة صعود وهبوط صدرها.
كانت أنفاسها تستعيد استقرارها.
رفعت رأسها.
وهناك، وقف إيان يراقبها بهدوء حتى عادت أنفاسها إلى طبيعتها.
الرجل الذي كان يبتسم دائمًا كلما رأته، كان يرسم الآن تعبيرًا غامضًا على وجهه.
بدا وكأنه مندهش ومحرج نوعًا ما.
“ربما كان ينبغي عليّ إحضار سيرن. لم أحضره لأني ظننت أنك قد تشعرين بضغط أكبر بوجود سيرن هنا، لكنني لم أتوقع أن يكون الانفراد مشكلة…”
تنهد إيان وأخرج منديلًا من جيبه، وقدمه لها.
نظرت إيزابيل إليه بذهول ، وهي لا تزال منهارة على الأرض.
“لماذا…؟”
“يتصبب العرق البارد من جبينك. امسحيه.”
عند كلماته، رفعت إيزابيل يدها وتلمست جبينها.
كانت قطرات العرق متجمعة بكثافة.
“شكرًا لك…”
كادت إيزابيل لا تقاوم الرغبة في عدم الاقتراب منه، وتناولت المنديل بأطراف أصابعها.
وبينما كانت تمسح العرق، أحضر إيان كرسيين حديديين مهترئين كان حارس قبو النبيذ قد تركهما هناك.
“تفضلي بالجلوس.”
عرض عليها مقعدًا، لكن إيزابيل ترددت.
إذا جلست، فسيظهر السكين في جيبها من فوق ملابسها.
“إذا شئت، يمكنكِ الاحتفاظ بذلك في جيبكِ، ولكن تفضلي بالجلوس الآن.”
“…”
قال إيان ذلك وعرض على إيزابيل المقعد مرة أخرى.
هذه المرة، لم تستطع الرفض.
وبينما جلست إيزابيل على الكرسي على مضض، جلس إيان قبالتها.
نشأ موقف غريب للغاية في قبو النبيذ المظلم، حيث يجلس نبيل وخادمة وجهًا لوجه.
جلس إيان باستقامة، وشابك أصابعه.
“نظرًا لامتثالك الفوري لكلامي، لا بد أنكِ تعلمين بالفعل ما أنا على وشك قوله.”
“نعم… كونت ريفيلوس.”
“من فضلكِ، نادني سيد إيان.”
“سيد إيان.”
“جيد. آنسة ‘بيل آلي’. لتسهيل الأمر، سأخاطبكِ بـ ‘الآنسة بيل’ في الوقت الراهن. هل هذا مقبول؟”
بينما أومأت إيزابيل برأسها قليلاً، مال إيان بجزءه العلوي نحوها وقال،
“ليس لدينا متسعٌ من الوقت، فلندخل في صلب الموضوع مباشرة.”
“صلب الموضوع، تقصد…”
“الأمر بسيط. آنسة بيل، هل أنتِ إيلين نوفا؟”
كان السؤال مفاجئًا لدرجة أن إيزابيل لم تستطع الإجابة.
وبينما كانت تحدق بحدة في فك إيان وفمها مفتوح، اشتدت حدة عيني إيان.
تغيرت هالته فجأة.
“أجيبيني. بناءً على إجابتك، قد أضطر آسفًا للجوء إلى القوة.”
“أنا…”
“إن لم تكوني إيلين نوفا، فلماذا تستخدمين اسم ‘بيل آلي’؟”
الاسم
ارتجف قلب إيزابيل.
هذا هو السبب.
من هنا كُشِفَت.
– اسم ‘بيل آلي’ نفسه كان المشكلة. لم يكن متأكدًا بعد رؤية وجهي، لكنه عرف هذا الاسم! –
كانت خطة التظاهر بأنها شخص مختلف تمامًا عديمة الفائدة منذ البداية.
عضت إيزابيل شفتها الداخلية بإحكام وقالت:
“لا أتذكر… أعتذر.”
“ماذا تقصدين؟”
“بالمعنى الحرفي للكلمة. لا أملك ذاكرة.”
“أظن أنني بحاجة إلى بعض التوضيح. إذن، هل تقصدين أنك لا تتذكرين من أنت، أو ماذا كنت تفعلين على الإطلاق؟”
“عندما استيقظت، لم أمتلك أي ذكرى على الإطلاق. لم أتذكر حتى اسمي، لذا لا أعرف ما إذا كنت إيلين أم لا.”
وبينما قالت ذلك، راقبت إيزابيل رد فعل إيان بعناية.
– لو كان عدوًا، لكان سيحاول قتلي فورًا عند سماع هذا الجواب. –
إذا لم يكن لدى امرأة يشتبه في أنها مخبرة للعدو أي ذاكرة، فلا يوجد سبب للإبقاء عليها حية.
لا توجد معلومات يمكن استخلاصها، وستسبب فقط المشاكل إذا انكشفت هويتها.
أعادت إيزابيل يدها إلى جيبها.
كان ذلك لإبقاء السكين في يدها، تحسبًا لأي طارئ.
لكن في اللحظة التي قبضت فيها يدها على مقبض السكين، سحب إيان سكينًا عسكريًا من عباءته ولوَّح به.
كان مساره موجهًا بدقة نحو مؤخرة عنقها.
•
•
•
-انتهت-
شكرا على الفصل قلبيي😍🌹💋