لحظة توقف العربة، لم ينتظر إريك السيد راي ليفتح الباب. فتحه بنفسه وانطلق مسرعًا نحو النزل، وقلبه يخفق بشدة بهدف وحيد يائس: العثور على ديليا.
ما إن غادر مأوى العربة حتى انفتحت السماء. بدأ المطر يهطل، ليس كرذاذ خفيف، بل كهطول أمطار غزيرة مفاجئة، بلّل معطفه فورًا ولصق شعره برأسه. كان على بُعد أقدام قليلة من ضوء مدخل النزل الدافئ والجاف، لكنه لم يستطع الحركة. تجمد في مكانه، وفجأة أصبحت قدماه ثقيلتين كالرصاص.
بدا العالم من حوله وكأنه يزداد حدة، ويتحول. كان يشم رائحة الأرض الرطبة وهي تتحول إلى طين تحت قدميه. كان يشم رائحة التبن الكثيفة المألوفة القادمة من الإسطبلات القريبة. كان يسمع وقع أقدام الخيول المتوترة وصهيلها المضطرب بفعل العاصفة. كان كل إحساس بمثابة مفتاح يفتح غرفة مظلمة في ذاكرته أبقاها مختومة لسنوات.
ابتلع إريك ريقه بصعوبة، وحلقه مشدود. حاول إجبار ساقيه على التقدم، ليخطو تلك الخطوة الأخيرة إلى النزل، لكنه لم يستطع. رفضت عضلات جسده الانصياع.
ترددت في ذهنه ذكريات حادة وحيوية، فأغرقت الحاضر.
مطرٌ كهذا، يُدقّ على سقف إسطبل خيولٍ مُظلمٍ وواسع. رائحةُ التبن المُبلّل والخوف. طفلٌ صغيرٌ، لا يتجاوز العاشرة من عمره، يبكي، جسده الصغير مُغطّى بالتراب والتبن. مُتكوّرٌ في زاوية، مُحتضنًا نفسه، وهو يُحدّق في ظلّ ساكنٍ لشخصيةٍ مُحطّمةٍ مُلقاةٍ على الأرض خارج باب الإسطبل.
بدأت أحداث ذلك اليوم المروع تتكرر في ذهن إريك، كفيلمٍ مُرهقٍ لا هوادة فيه. أصبح تنفسه ضحلًا، ثم تسارعت وتيرة أنفاسه إلى شهقاتٍ متقطعة. بدأ جسده كله يرتجف، رعشةٌ لا يمكن السيطرة عليها بدأت في يديه وامتدت إلى جسده بأكمله.
ثم ظهر أمامه شبحٌ تحت المطر، شبحٌ تشكّل من ذنبه. كان هو نفسه، في شبابه، وجهه شاحبٌ وهو يُلقي نظرةً اتهاميةً على إريك.
همس إريك الصغير بصوتٍ مليءٍ بحكمٍ طفوليّ بسيطٍ ومُدمر: “كدتَ أن تقتل أخانا. يا لك من شرير! الآن سيضطر فيليب للمشي بعصا طوال حياته، كل ذلك بسببك.” أشار الشبح إليه بإصبعٍ صغيرٍ مرتجف. “أنت من فعل هذا!”
كان إريك يُعاني من نوبة هلع شديدة. غمره المطر، فأصابه بالبرد حتى النخاع، لكن البرد الذي شعر به كان أعمق، قادمًا من الداخل إلى الخارج. جرّ قدميه، واستدار ليغادر، ليهرب من الذكرى، ليهرب من نظرة نفسه الأصغر المُدانة. كان عليه أن يرحل.
ثم سمع صوتًا، صوتًا عذبًا ونقيًا، شقّ طريقه وسط هدير أذنيه. صوتًا طمأن روحه.
“صاحب السمو؟”
كانت ديليا
استدار إريك ببطء ليرى المرأة واقفة هناك، أمام مدخل النزل مباشرةً، وتساقط المطر الغزير على شعرها المصفف بعناية. كان فستانها البسيط مبللاً بالكامل.
“ديليا،” تنفس، واسمها دعاءٌ على شفتيه. كان لا يزال يرتجف، لكن ليس من البرد. كانت ارتعاشةٌ عنيفةٌ نتجت عن نوبة هلعه. حاول كبحها، إخفاؤها، كي لا تراه ضعيفًا ومنكسرًا بهذا الشكل.
حاول السير نحوها مجددًا، ليُقرّب المسافة بينهما، ليحتضنها ويطمئن نفسه أنها حقيقية وآمنة. لكن عندما وصل إلى تلك البقعة الخفية نفسها، على بُعد أقدام قليلة من النزل، تجمد مجددًا، كاشفًا عن جسده.
نظرت ديليا إليه، إلى هذا الدوق القويّ الآمر، الذي يرتجف كطفلٍ خائفٍ تائهٍ في عاصفة. وسط ارتجافات هجومه العنيفة، تمكن من السؤال بصوتٍ متوتر: “أين فيليب؟”
“أخبرني أنه سيكون هنا، لكنني لم أره بالداخل”، أجابت ديليا، بصوتٍ مليءٍ بالارتباك الذي سرعان ما تحول إلى قلق. “هل هناك خطب ما؟”
لم يُجب إريك. لم يستطع. وقف هناك يرتجف، وقلبه ينبض بسرعة هائلة حتى شعر أنه سينفجر من صدره. في البداية، ظنت ديليا أن البرد هو السبب، وأنه ببساطة غارق في الماء ومتجمد. لكنها لاحظت بعد ذلك النظرة المشوشة المرعبة في عينيه، وسرعة تنفسه البطيئة والسريعة. كان هناك خطب ما.
“ما بك؟” سألته وهي تندفع نحوه تحت المطر. “هل تشعر بالبرد؟ هل أنت مريض؟”
“لا،” تلعثم، وأسنانه تصطك. “أنا فقط… أشعر بقليل من الدوار.”
انهارت ساقاه من تحته، وسقط على ركبتيه في الفناء الموحل.
لم تتردد ديليا. ركضت وجثت بجانبه في الوحل والمطر. سألت بصوتٍ مُنفعل: “جلالتك، هل أنت بخير؟”. أبعدت شعره المبلل عن وجهه الشاحب. فركت ظهره بحركاتٍ دائريةٍ بطيئةٍ وثابتة، ثم أمسكت بيديه المرتعشتين، محاولةً تدفئتهما وتثبيتهما.
“هذا ليس عادلاً”، قال إيريك بصوت منخفض ومكسور.
سألت ديليا في حيرة: “ما هو؟”
“أخبرتني… ألا أتجاوز الحدود”، تمكن من النطق، ونظره ثابت على وجهها كما لو كانت الشيء الوحيد الذي يبقيه متماسكًا. “لكنكِ… تجاوزتِ… الحدود.”
ثم أغمي عليه، وأصبح جسده مترهلًا، وسقط رأسه إلى الأمام ليستقر بثقل على صدرها.
“يا صاحب الجلالة!” صرخت بصوتٍ ملؤه الذعر. “يا صاحب الجلالة، استيقظ!” هزته برفق، لكن لم يُجبها أحد. بدأ الذعر يسيطر عليها، وقلبها ينبض خوفًا. “يا صاحب الجلالة! يا صاحب الجلالة، أرجوك!”
احتضنته كطفل، هناك تحت المطر الغزير، وجسده الثقيل فاقد الوعي كثقلٍ ثقيل بين ذراعيها. نظرت حولها في الفناء الخالي المظلم، وصرخت استغاثة، وكان صوتها صرخة يائسة مذعورة ضاعت في هدير العاصفة.
“أرجوكم ساعدوني! جلالتك، استيقظ! أرجوك!”
في الأعلى، في غرفة خاصة بالطابق الثاني من النزل، وقف فيليب أمام النافذة، وفي يده كأس نبيذ. كان يقف هناك لبعض الوقت، يراقب المشهد بأكمله وهو يتكشف.
“ما هذا يا إريك؟” قال لنفسه، وابتسامة بطيئة وقاسية ترتسم على وجهه. “كنت تتصرف وكأنك قويٌّ جدًا، مسيطرٌ على نفسك. كدتُ أذعر، ظننتُ أنك بخير أخيرًا.” ارتشف رشفةً بطيئةً من نبيذه، ونظره مُثبّت على المشهد البائس بالأسفل. “يبدو أن الماضي لا يزال يطاردك يا أخي الصغير.”
ابتسم، إذ رأى ديليا تستغيث بيأس، ويرى أخاه القوي فاقدًا للوعي عاجزًا بين ذراعيها. تنهد، صوت رضا خالص ورضا.
“أخي لا يزال كما هو،” همس وهو يرتشف رشفة أخرى. “هشّ جدًا، جدًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 65"