كانت الرحلة إلى المقصورة طويلةً ومؤلمةً وخانقةً. لم يكن هناك سوى صوت حوافر الحصان الإيقاعية واهتزاز العربة الخفيف، تاركةً ديليا وحيدةً مع دقات قلبها المضطربة. كل دقيقة تمر كانت بمثابة أبدية، تُشدّ عقدة القلق في معدتها أكثر فأكثر. جلست في سكون تام، ويداها متشابكتان في حجرها، وعيناها مثبتتان على المشهد المظلم العابر خارج النافذة. ماذا فعلت؟ بخطوة جريئة واحدة، ضمنت لقاءً خاصًا مع الدوق، ولكن بأي ثمن؟
خاطرت بإلقاء نظرة جانبية عليه. جلس إريك قبالتها، بوضعية مريحة، وملامحه هادئة وهو ينظر من نافذته. بدا مرتاحًا تمامًا، رجلًا مسيطرًا تمامًا على الموقف. هذا زادها توترًا. لقد لعبت لعبة ذكاء وفازت بالجولة الأولى، لكنها الآن متجهة إلى منطقة مجهولة بلا خريطة ولا خطة، يقودها رجلٌ نواياه غامضة تمامًا.
أبطأت العربة أخيرًا، وانحرفت عن المسار الرئيسي إلى درب أصغر مخفي قبل أن تتوقف تمامًا. أطلت ديليا من النافذة. هناك، في فسحة صغيرة، مغمورة بضوء القمر الفضي الخافت، كانت كوخًا صغيرًا جميلًا. بُني ببراعة من جذوع أشجار داكنة متينة، مع مدخنة حجرية ونوافذ كبيرة بدت وكأنها تراقبها بصمت. بدا هادئًا، يكاد يكون رومانسيًا، لكنه لا يزال مقلقًا.
قام السائق، دون أن ينبس ببنت شفة، بفك رباط الحصان بمهارة وقاده نحو إسطبل صغير يقع بين الأشجار.
“يأتي إلى هنا كثيرًا”، فكرت ديليا، وقد تبادر إلى ذهنها إدراكٌ بارد. حركات السائق الروتينية، والطريق المُعتنى به جيدًا، ووجود هذا المكان المنعزل بحد ذاته – كل ذلك يُشير إلى كثرة استخدامه. ثم تلا ذلك على الفور فكرةٌ أكثر شرًا، غير مُرحب بها وغير مُرحب بها: “يُحضر نساءه إلى هنا”.
سرت في جسدها رعشة لا إرادية، قشعريرة لا علاقة لها بهواء الليل. تخيلت صفًا طويلًا من السيدات الجميلات الراغبات يُرافقن إلى هذا المكان ، ويختفين خلف بابه المتين. هل كانت مجرد آخر مغامراته؟ تبخّرت الجرأة التي شعرت بها في الحديقة، وحل محلها خوف بدائي خام.
“أحم!”
صفّى إريك حلقه، صوتٌ خافتٌ هشّم الصمت وأفاق ديليا من أفكارها المظلمة. رفعت رأسها لتراه واقفًا عند باب العربة المفتوح، ويده ممدودة ليس إليها، بل نحو مدخل المكان.
“بعدكِ يا سيدتي،” قال بصوتٍ هادئٍ ومنخفض. انحنى انحناءةً خفيفةً رسميةً، لفتةً تدلّ على أدبٍ مُطلق، بدت في غير محلها تمامًا نظرًا لطبيعة وضعهما المُشين.
رسمت ديليا ابتسامةً قسريةً على وجهها. شعرت بتيبسٍ وغرابة، لا تُخفي سوى رعبٍ مُريع. أخذت نفسًا عميقًا وخرجت من العربة، وساقاها لا تستقران تحتها. مشيا بضع خطواتٍ إلى الباب الأمامي، وكان صوتُ حذائهما على الطريق الحصويّ عاليًا بشكلٍ غير طبيعي.
دخلا المكان وتوقفا عند باب، ووقفا هناك للحظة، يحدقان في الخشب الداكن غير المطلي. أدار إريك رأسه قليلًا، وفي عينيه بريق مرح. سألها، ونظر إلى المفتاح الذي لا يزال ممسكًا بيدها: “ألن تفتحيه؟”
نظرت ديليا إلى يدها وكأنها مندهشة من وجود المفتاح هناك. انقضّ عليها واقع قرارها بكل قوة. تذكرت أنها انتزعته من على المقعد، وعقلها منصبّ فقط على هزيمة آن، على ضمان هذا النصر. “فعلتُ ذلك لإغضاب آن”، فكرت بجنون، “والآن أوقعتُ نفسي في ورطة كبيرة.”
رفعت نظرها إليه ولوّحت بالمفتاح بعصبية، وأطلقت ضحكة خفيفة بدت أشبه بسعال مختنق. قالت بصوت مرتجف قليلاً: “بالتأكيد”.
التفتت نحو الباب، ويدها ترتجف وهي تحاول إدخال طرف المفتاح الحديدي في ثقبه. احتكاك باللوحة المعدنية لكنه رفض الدخول. سحبته وحاولت مرة أخرى، وكان تركيزها شديدًا لدرجة أنها بالكاد تتنفس. لكنه ما زال يرفض الدخول. بدلًا من ذلك، فقدت أصابعها المرتعشة قبضتها، وانزلق المفتاح، محدثًا صوت ارتطام على الشرفة الخشبية.
مع شهقة خفيفة، انحنت وانتزعته. حاولت مرة أخرى، وهمست في نفسها بإحباط: “لماذا لا يمر؟”
فجأة، غطت يد دافئة يدها، مُسكِّنةً حركاتها المضطربة برفق. ارتجفت من لمسته. كانت أصابع إريك ثابتة ودافئة حولها. انحنى أقرب، وانخفض صوته إلى نبرة أجشّة منخفضة ارتجفت في جسدها.
“لا تقلقي كثيرًا،” قال بهدوء، وأنفاسه دافئة على أذنها. “أعلم أن هذه أول مرة لكِ. سأحاول ألا أكون قاسيًا عليكِ.”
كلماته، بنبرةٍ مثيرةٍ بشكلٍ لا يُصدق، هزّت جسدها. كانت صريحةً وأكدت أسوأ مخاوفها. ظنّ أنها هنا من أجل… هذا. كان يُغيظها، يُداعبها، يستمتع برعبها.
أخذ المفتاح برفق من يدها التي أصبحت مترهلة. بحركة سلسة وسلسة، أدخله في ثقب المفتاح وأداره. أصدر القفل صوت طقطقة مُرضية. دفع الباب ليفتحه إلى الداخل المظلم، ثم أشار لها بالدخول. بعد أن عبرت العتبة بتردد، تبعها إلى الداخل وأغلق الباب خلفهما، وأدار المفتاح في القفل مرة أخرى. دوّى صوت الطقطقة الأخير القوي في المساحة الضيقة، مغلقًا إياهما.
كان قلب ديليا يخفق بشدة. كانت متكئة على الباب، واستعدت للمصير المحتوم. لكن بينما اعتادت عيناها على الضوء الخافت المتسلل من النوافذ، لم تصدق ما تراه.
لم تكن الغرفة غرفة نوم. لم يكن فيها سرير كبير فاخر بملاءات حريرية. لم تكن تفوح منها رائحة عطر أو نبيذ. بل وجدت نفسها فيما يمكن وصفه فقط بمكتب خاص أو دراسة.
اصطفت رفوف كتب ممتدة من الحائط إلى الحائط، مليئة بكتب مغلفة بالجلد من جميع الأحجام، في أرجاء الغرفة. في المنتصف، طاولة مركزية بسيطة وأنيقة، يحيط بها كرسيان بذراعين مريحان. وعلى أحد الجدران، وُضعت أريكة استرخاء طويلة وفخمة، مثالية للقراءة. وفي الزاوية، في وضع يسمح بدخول أفضل ضوء من نافذة كبيرة، وُضع مكتب وكرسي شخصيان. لم يكن المكتب فارغًا؛ بل كان مغطى بأكوام مرتبة من الكتب، ودفاتر حسابات مفتوحة، وأوراق برشمانية ملفوفة، مع أقلام حبر ومحابر جاهزة.
وقفت ديليا جامدة، وفمها مفتوح قليلاً. لم تستطع إلا التحديق. كل افتراضاتها المرعبة، وكل السيناريوهات الفاضحة التي نسجتها في ذهنها، تبددت إلى رماد. همست لنفسها: “أحضرني إلى مكتبه”.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"