“خذي هذا وغادري هارزن قبل الصباح. إن رأيتُ وجهك غدًا، فسأبلغ رسميًا عن سرقتك.”
“سيدتي!”
“تذكري كلماتي. آمل ألا تتقاطع طرقنا مرة أخرى.”
مدّت الكونتيسة الأرملة ليناريس يدها نحو بريانا. “لنذهب.”
أسندت بريانا الكونتيسة وهما تنصرفان.
حتى بعد رحيلهما، بقيت مارغوت جامدة في مكانها. مدت يدها ببطء نحو الخاتم الملقى على الأرض. وهي تقبض عليه بقوة بين أصابعها المتسخة بالتراب، جزّت مارغوت على أسنانها غيظًا.
***
في طريقها إلى غرفة السيدة، توقفت بريانا فجأة عند سماع سعال.
“سيدتي، هل أنتِ بخير؟” سألتها، وقد بدا القلق واضحًا في صوتها.
لوّحت ليونا بيدها بلا اكتراث، وهي تغطي فمها بمنديل. “أنا بخير. لا داعي لكل هذا القلق.”
“كم من الوقت قضيتِ في الخارج؟”
“أوه، نحو نصف ساعة على ما أظن؟”
من دون تردد، خلعت بريانا معطفها وألقت به على كتفي ليونا. ورغم احتجاج ليونا، لم تكن بريانا ممن يمكن ثنيهم بسهولة.
“أخبرتكِ أن تبقي دافئة يا سيدتي. بماذا كنتِ تفكرين وأنتِ تمكثين في الخارج كل هذا الوقت من دون معطف؟” انهالت عليها كلمات التوبيخ الصارمة، فنظرت ليونا إلى بريانا بدهشة خفيفة.
“كنت أنوي البقاء قليلًا فقط، لكن هواء الليل كان منعشًا جدًا، وصوت صراصير الليل كان ممتعًا. أليس من الحماقة البقاء في الداخل في ليلة كهذه؟”
غير أن كلماتها الحالمة لم تُخفف من غضب بريانا.
“لنتحدث عن هذا في الداخل.”
ما إن دخلتا الغرفة، حتى قادت بريانا ليونا إلى السرير. واصلت توبيخها بلا هوادة، وهي تفرك يديها وقدميها حتى دبّ فيهما الدفء.
ولم تتوقف إلا حين شعرت بأن الحرارة قد انتشرت في جسد ليونا. ساد صمت قصير قبل أن تتحدث من جديد.
“هل تظنين أن مارغوت ستغادر فعلًا؟”
“بالطبع ستغادر. البقاء هنا يعني مواجهة عقوبة السرقة.” عقدت ليونا حاجبيها قليلًا عند رؤية ملامح بريانا القاتمة. “لا تضيعي تعاطفك عليها. إعفاؤها من العقاب أصلًا أكثر مما تستحق. هل تعلمين كم يساوي ذلك الخاتم؟ لولا أنني أردت إسكاتها، لما تخلّيت عنه.”
“ليس تعاطفًا. الأمر فقط أن…” تنهدت بريانا، وارتسمت ابتسامة خاوية على شفتيها. “هل تتغير العلاقات حقًا مع مرور الوقت؟ كنت قريبة جدًا من مارغوت عندما كنا أطفالًا. تباعدنا لاحقًا، لكنني ظننت أننا سنظل صديقتين على نحو ما دائمًا.”
عندما كان والدها حيًا، كانت مارغوت تسكن بجوار بريانا. ورغم الشجارات المتكررة، كانتا لا تفترقان.
بعد وفاة والدها وانتقال بريانا إلى القلعة، قلّت لقاءاتها بمارغوت. وبعد سنوات، حين التحقت مارغوت بالقلعة كخادمة، بدأت تضايق بريانا بدافع الاحتقار.
تنهدت ليونا، وقد ارتسم على وجهها تفهم عميق. “العلاقات تتغير، حتى تلك التي ظننتِ أنها ستدوم إلى الأبد. أشخاص اعتقدتِ أنهم سيكونون دائمًا إلى جانبك قد ينتهي بهم الأمر إلى الرحيل.”
وحين رأت ملامح بريانا تزداد حزنًا، أضافت بلطف، “لكن تلك الفراغات ستُملأ قريبًا بأشخاص جدد. هذه هي الحياة. يا بريانا، لا يجب أن تخافي التغيير.”
“…في الحقيقة، كانت مارغوت تريد مغادرة هذا المكان”، اعترفت بريانا.
أب مقامر، وأخ سكير يطالب بالمال مستخدمًا قبضتيه—كانت مارغوت تعذب بريانا بكلمات قاسية، تناديها باليتيمة التي لا والدين لها، ومع ذلك لم تكن هي نفسها سعيدة رغم امتلاكها عائلة.
“كانت مارغوت تأمل دائمًا أن يأتي شخص ما لينقذها من حياتها البائسة ويأخذها إلى مكان رائع. لذلك كانت غاضبة مني دائمًا. لم يكن لديها أحد مثلكِ أو مثل فلوريان.”
ورغم أن بريانا فقدت والديها، كانت الكونتيسة الأرملة ليناريس دائمًا إلى جانبها. أما فلوريان، فمتجاهلًا أحكام المجتمع، فقد أصبح أقرب أصدقائها.
“حتى لو كنتما أنتما الاثنتين فقط…” توقفت، عاجزة عن التعبير عن أعمق أمنياتها.
كانت تتمنى، ولو من باب الرجاء، أن يبقى كلًا من ليونا وفلوريان إلى جانبها دون أن يتغير شيء. لكن ذلك كان طلبًا مبالغًا فيه. فالكونتيسة الأرملة كانت تقترب من نهاية حياتها، وفلوريان سيبدأ قريبًا مسيرته النبيلة بعد تخرجه. كان التعلق ببقائهما معها إلى الأبد لا يختلف عن أحلام مارغوت العقيمة.
“بريانا، هل تتمنين أن يبقى فلوريان كما هو دائمًا؟”
فوجئت بريانا بالصوت الهادئ الذي قطع الصمت، وترددت قبل أن تجيب.
“بالطبع، أعلم أن ذلك طلب كبير. فلوريان سيرث لقبه يومًا ما، وقبل ذلك سيتزوج سيدة فاضلة من عائلة جيدة. أعلم أننا لن نبقى أصدقاء طفولة إلى الأبد.”
“بري، لم أقصد ذلك…” توقفت ليونا قليلًا، تفكر، ثم جلست. وساعدتها بريانا على الجلوس براحة على السرير.
وبنظرة جادة، حدّقت ليونا في بريانا. “لم أكن أظن أنه من الصواب أن أخبرك بهذا أولًا، لكن يبدو أن عليّ فعل ذلك. في الآونة الأخيرة، طلب فلوريان إذني. إنه يريد أن يتقدم لخطبتك.”
اتسعت عينا بريانا دهشة وهي تنظر إلى ليونا. “خطبة؟ ماذا تعنين…؟”
“قال إنه يخطط للتقدم لكِ بعد التخرج، وأراد مباركتي أولًا. وقد وافقت فورًا. إن كنتِ تشعرين بالمثل، فلا أرى سببًا للمعارضة.”
وقفت بريانا جامدة، كأن ضربة ثقيلة أصابتها. كانت كلمات ليونا عسيرة على الفهم.
“بريانا، ربما لم تكوني تعلمين، لكن فلوريان أَحبكِ من بعيد منذ وقت طويل جدًا.”
“أ… أنا…”
“ولهذا لم أستطع أن أتبناكِ ابنةً لي. لو فعلتُ ذلك، لأصبحتما عائلة.”
“ماذا؟”
وعند رؤية ذهول بريانا، ابتسمت ليونا برفق. “هل آذاكِ ذلك يومًا؟ قلتُ إنني أعتز بكِ، ومع ذلك لم أتبناكِ.”
أمسكت بريانا يد ليونا على عجل. “سيدتي، أبدًا. كيف لي أن أتمنى أمرًا كهذا؟ لطفكِ الذي أغدقتِه عليّ أكثر من كافٍ. لم أرغب يومًا في شيء يتجاوز ذلك.”
“أعلم. أعلم أي نوع من الأشخاص أنتِ. ولم يكن فلوريان السبب الوحيد لعدم تبنيكِ.” ربّتت ليونا على ظهر يد بريانا.
“بريانا، الارتباط بعائلة يعني أنكِ تنالين حمايتها، لكنه يعني أيضًا أنكِ ملزمة بواجباتها. لو كنتِ ابنتي بالتبني، لكان من الممكن أن تُجبري على وضع لا ترغبين فيه. كما حدث معي. أنا كنت أستطيع المقاومة والمطالبة بالمال إن أصرّوا على إبعادي، لكنكِ لم تكوني لتحصلي على هذا الخيار. وبعد تفكير طويل، قررتُ أن الأفضل أن أبقيكِ كما أنتِ.”
“سيدتي…”
داعبت ليونا وجه بريانا بلطف، وقد بدا على وشك البكاء. “خذي وقتكِ في التفكير في فلوريان. ورغم أن فكرة بقائه دائمًا إلى جانبكِ تريحني، فإن الأهم هو قلبكِ.”
“لكن فلوريان وأنا… نحن من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين. إن علمت عائلته بالأمر، فسيعارضون بالتأكيد…”
“بالطبع ستكون هناك معارضة شديدة. لكن فلوريان لن يفكر في التقدم لكِ من دون أن يكون مدركًا لذلك. قد يبدو مستهترًا، لكنه في الحقيقة متأنٍ وحكيم.”
“والأهم أنني ما زلت لا أفهم… الحب… ومثل هذه الأمور.”
كان الحب شيئًا لم تفكر فيه بريانا بعمق من قبل. فالحب الذي عرفته من والديها كان ممتزجًا بالحزن أكثر من الفرح.
راقبت ليونا حيرتها وابتسمت ابتسامة هادئة. “بريانا، إن لم تعرفي قلبكِ بعد، فلا تحاولي فهمه. فقط راقبي إلى أين يقودكِ.”
“أراقب إلى أين يقودني قلبي؟”
“للقلب أقدام خفية قد تأخذكِ إلى مكان ما من دون أن تشعري. وغالبًا لن تفهمي إلا لاحقًا وستفكرين بـ ‘آه، لقد كنت أحب ذلك الشخص حقًا’.”
التعليقات لهذا الفصل " 18"