عند كلمات كارهان، تغير تعبير وجه إيليا على الفور.
ثم نهضت فجأة وصرخت.
“تقول إنك ميؤوس منه؟! هل يعني هذا أن كل من في هذا العالم مجرد قمامة؟!”
جفل كارهان لا إرادياً، واهتزت كتفاه قليلاً.
“وأين في العالم من هو لطيف مثلك؟”
رغم أنهما لم يعرفا بعضهما البعض منذ وقت طويل، إلا أن إيليا فهمت طبيعة كارهان اللطيفة.
حتى رغم أنه يُساء فهمه، فقد ظل ثابتاً على مساعدة الآخرين.
إنه شخص جيد لدرجة أن مشاهدته يتصرف هكذا كانت محبطة أحياناً.
“…… أنتِ الوحيدة التي تقول إني لطيف.”
“هذا ليس صحيحاً. عينيّ دقيقتان جداً، كما تعلم.”
أضافت إيليا شيئاً آخر.
“باستثناء ريهارت تيرسيان.”
في ذلك الوقت، كانت معمية بالحب تماماً.
تظاهر ريهارت بأنه يحبها، وهو يعطيها الطُعم باستمرار، فأخذته بلهفة دون أن تُدرك.
شعرت إيليا فجأة بموجة غضب، فهزت رأسها وتحدثت.
“على أي حال، مما أراه، أنت شخص جيد حقاً، فلا تقل مثل هذة الكلمات مرة أخرى.”
“……”
“أنت تُسيء إلى حكمي.”
كارهان، الذي كان يستمع بهدوء، طرأ تغيير طفيف في تعبير وجهه.
شخص جيد.
حفرت هذه الكلمات عميقاً في قلبه.
لطالما تمنى كارهان أن يكون شخصاً جيداً، لكنه اعتقد أنه فشل.
حتى تيسيون اعتبر لطفه مجرد حماقة.
الكلمات السلبية التي تجمدت بداخله لفترة طويلة كانت تذوب تدريجياً.
في اللحظة التي اعترفت فيها إيليا به، شعر وكأنه أصبح شخصاً جيداً حقاً.
“هل تعلم كم من المتاعب كنت أُسبب عندما كنت صغيرة؟”
مالت إيليا نحوه، وأخفضت صوتها وكأنها ستُشارك سراً.
“كنت أقرأ كتاباً، وكان هناك مشهد لعشرين سفينة تُبحر. في اللحظة التي رأيته فيها، أردتُ تجربته بنفسي.”
لذلك، جمعت إيليا جميع ألعاب السفن وألقتها في بركة الحديقة.
غرقت بعض تلك السفن المصنوعة من الذهب والفضة، بينما انجرف البقية بعيداً كأوراق اللوتس.
عندما رأى والداها ذلك لاحقاً، قالا ببساطة.
[في المرة القادمة، سندعكِ تبحرين بسفينة حقيقية.]
مُتذكرة تلك الذكرى، تابعت إيليا.
“تركتهم هناك لفترة طويلة، لكن المطر هطل بغزارة، فغرقوا جميعهم.”
كانت صغيرة جداً آنذاك لدرجة أنها لم تُدرك أنها سببت المتاعب.
واصلت إيليا حديثها، مُشاركة المزيد من قصصها.
كيف أحدثت فوضى في المطبخ ذات مرة، إذ غطت كل شيء بالدقيق أثناء محاولتها الطهي……
كيف رسمت على لوحة ثمينة كان والدها يُقدّرها……
“منذ اللحظة التي بدأتُ فيها المشي، كنتُ أشبه بكارثة متحركة.”
بينما كارهان يُنصت في صمت، لانت نظراته.
عيناه اللتان كانتا منخفضتان تحركتا ببطء نحو إيليا.
استمر في النظر إلى إيليا دون أن يُدرك حتى تعبير الوجه الذي يقوم به.
“على أي حال…… أعتقد أن الدوقة تُسيء فهم أمر ما.”
بكلمات إيليا، عاد كارهان إلى الواقع.
“رغم أنكم عائلة، إلا أن هناك الكثير من الأمور التي لا تعرفونها عن بعضكم البعض.”
تحدثت إيليا بحذر، مُعتقدة أن كارهان منبوذ من عائلته.
خاصة أنه قضى وقتاً طويلاً في ساحة المعركة، فمن المُرجّح أنه لم يكن لديه وقت كافي ليكون معهم.
وبعد اختياره كوريث بدلاً من أخيه الأكبر، ربما أصبحت العلاقة بينه وبينهم أكثر توتراً.
“إذا كان هناك أي شيء يُمكنني فعله للمساعدة، فأخبرني.”
حتى لو لم تستطع التدخل كثيراً في شؤون العائلة، أرادت أن تفعل ما في وسعها.
حدق كارهان في إيليا بصمت.
بعد صمت طويل، تحدث أخيراً.
“…… لا أفهم لماذا تساعديني.”
منذ البداية، كانت إيليا تساعده.
كانت أول من ساعده دون انتظار أي مقابل.
شعر كارهان ببعض التوتر، غير مدرك لأي رد سيتلقاه.
عندها أجابت إيليا بنبرة هادئة.
“بالطبع، لأننا على نفس القارب.”
في اللحظة التي ذكرت فيها علاقتهما التعاقدية، شعر بألم في صدره.
انتشر شعور بالوخز بين أصابعه.
دون أن يُدرك، شدد كارهان على قبضتيه بقوة.
كانت الإجابة واضحة، فلماذا يشعر بخيبة الأمل……؟
للحظة وجيزة، تساءل كارهان، لو اكتشفت إيليا يوماً ما أنه ليس سوى وريث مُهمَل، مجرد وريث مزيف، ماذا سيحدث؟
هل ستُعامله بنفس الطريقة؟
هل يجب أن يكون صادقاً معها الآن؟
رفع رأسه ليلتقي عينيه بعينيّ إيليا.
عكست عيناها الأرجوانيتان الصافيتان ملامح وجهه تماماً.
في تلك اللحظة، فقد القدرة على الكلام.
لم يُرد أن يرى عينيها مليئتان بخيبة الأمل.
أدرك الآن كم أن الدفء التي تقدمه إيليا حلواً حقاً.
إن الفرق شاسع بين عدم معرفة شيء ما ومعرفته ثم فقدانها.
حالياً، إنه بالكاد يُمسك طرف فستانها.
لو تركته إيليا، سيسقط.
وإن حدث ذلك، فلن يتمكن من النهوض مجدداً.
أخفض كارهان رأسه.
مهما تقول إيليا، فهو ليس شخصاً جيداً.
“كارهان، ما الأمر؟”
لاحظت إيليا تعبير وجهه الجاد، ونظرت إليه بقلق.
رفع كارهان رأسه ببطء، متجاهلاً الألم الخفيف في صدره.
ثم خفف تعبير وجهه، وتحدث.
“لقد غرقتُ في أفكاري للحظة.”
وتابع حديثه وهو ينهض من مقعده.
“دعيني أريكِ غرفي.”
حالياً، إنهما يجلسان في غرفة استقبال متصلة بالممر.
هناك ثلاثة غرف إضافية متصلة بهذه الغرفة.
“هذه الغرفة هي غرفة النوم، والغرفة المقابلة لها مكتبي.”
في العادة، يكون لوريث في مكانته مكتب منفصل تماماً.
حتى مكتب هاينلي وغرفة نومه منفصلين تماماً.
“والغرفة الأخيرة؟”
“غرفة تخزين.”
كان من غير المعتاد رؤية غرفة تخزين بجوار غرفة نوم.
بدا واضحاً أن كارهان لا يُعامل معاملة لائقة في منزل الدوق.
شعرت إيليا بانفعال مفاجيء يغمرها.
‘لو كان يعيش في منزلي، لمنحته طابقاً كاملاً.’
عندما فكرت إيليا في ذلك، وقعت عيناها على شيء مألوف.
إنه الشيء الذي أوصت به شخصياً في متجر صناديق الموسيقى في آخر مرة.
“ألم يكن من المفترض أن تكون هذه هدية؟”
“حسناً……”
تردد كارهان، وتحركت عيناه بشكل غريب.
“بصراحة، لطالما رغبتُ في اقتناء واحدة…… لكنها لا تُناسب مظهري.”
اعترف بالحقيقة.
تذكرت إيليا فوراً كيف استمر في الوقوف بتردد أمام متجر صناديق الموسيقى من قبل.
وجدت الفكرة مُحببة بشكل غير متوقع، فقالت.
“إذا كان هناك أي شيء آخر تريده، فأخبرني.”
لو ذكر الأمر ببساطة، لملأت غرفته بصناديق الموسيقى.
واصلت إيليا فحص الغرفة.
يبدو أنه يعيش حياة مُقتصدة، ليست هناك الكثير من الأشياء الثمينة.
كتب، باقة زهور، صناديق ورقية كانت تُحفظ فيها الحلويات……
عندما نظرت حولها بعناية، أدركت شيئاً ما.
هذا المكان مليء بالأشياء التي أهدته إياها.
شعرت بالغرابة، إنها ليست أشياء مميزة، ومع ذلك مُرتبة بعناية.
‘كان ريهارت يرمي الأشياء بمجرد أن يمل منها.’
هزت إيليا رأسها.
كانت تستمر بالمقارنة بين ريهارت وكارهان دون وعي.
ومع ذلك، هذه ليست علاقة حقيقية.
عندما انتهت من النظر حولها، لاحظت خزانة الملابس المغلقة بإحكام.
“هل تخلصت من جميع ملابسك القديمة؟”
“حسناً، شعرتُ أنه من العبث التخلص منهم……”
سارع كارهان إلى تقديم عذر.
مع ذلك، ذكر أنه خزّن ملابسه القديمة في الداخل وفتح خزانة الملابس.
أول ما لفت انتباهها هو زي ذو ألوان فاتحة.
بجانبه، مجموعة من الملابس الداكنة معلقة.
في نهاية الخزانة، رأت ملابس تبدو قديمة أكثر.
حتى أنها لمحت تصاميم كانت رائجة منذ ما يقرب من عقد.
“لقد مر وقت طويل منذ أن رأيتُ هذا التصميم.”
شعرت إيليا بالحنين إلى الماضي، فأخرجت غريزياً إحدى الملابس.
كانت بدلة حفلة رسمية كانت رائجة في السابق.
تجمدت للحظة في مكانها وهي تفحصها.
أحد الأزرار المرتبة بعناية مفقود.
بدت الأزرار مألوفة، وبينما كانت على وشك إلقاء نظرة فاحصة.
دق، دق.
التفت كلٌّ من إيليا وكارهان نحو الصوت.
“سيدتي.”
كان صوت مالك.
يبدو أنه جاء ليأخذها لأن الوقت قد تأخر.
أعادت إيليا ملابسه وقالت.
“يبدو أنني يجب أن أذهب.”
“سأرافقكِ.”
ذهبا إيليا وكارهان إلى الممر.
كانا في انتظارهما فرانسيس، مالك، وتيسيون.
رحّبت إيليا بتيسيون بابتسامة.
“ظننت أنني سأغادر دون رؤيتك اليوم.”
“كان عليّ على الأقل أن أُلقي عليكِ التحية، لذلك هرعت من العمل.”
أجاب تيسيون بابتسامة.
سارا إيليا وكارهان جنباً إلى جنب، بينما تبعهما الثلاثة الآخرون.
الممر، الذي لطالما بدا طويل، بدا قصير بشكل غير عادي اليوم.
قبل أن تُدرك، كانت قد وصلت إلى المدخل.
كان هواء الليل بارداً، فارتجفت إيليا قليلاً.
لاحظ كارهان ذلك، فخلع معطفه.
“لا بأس. سأكون في العربة قريباً.”
“لكن قد تشعرين بالبرد حتى ذلك الحين……”
شعرت بالتردد، إذ شعرت أن رفض لطفه سيكون وقاحة.
عندها همس كارهان.
“أعيديه إليّ في المرة القادمة.”
رمشت إيليا في صمت.
“…… هل من الخطأ اختلاق عذر لرؤيتكِ مجدداً؟”
للحظة، تلاشت كل الأفكار في رأسها.
قلبها، الذي كان هادئاً، بدأ ينبض بشكل أسرع قليلاً.
‘هل تعلم هذا من رواية رومانسية؟’
إنه يستوعب الأمور بسرعة كبيرة.
“حسناً. سأعيده إليك في المرة القادمة.”
“يبدو أنه سينزلق. دعيني أزرره لكِ.”
أحكمت أصابعه الطويلة إغلاق الأزرار بسلاسة.
نظرت إيليا إلى المعطف.
كان فرق الحجم بينهما كبيراً، مما جعلها تشعر وكأنها تغرق في القماش.
وخاصة الأكمام طويلة جداً لدرجة أن أصابعها ليست ظاهرة.
تراجع كارهان للخلف، وصمت للحظة.
“أنت طويل حقاً.”
ضحكت إيليا ضحكة خفيفة.
شعرت وكأنها استعارت معطف والدها.
حملت الرياح الباردة رائحة معطفه نحو أنفها.
بدا الأمر كما لو أنها محاطة به تماماً.
صعدت إيليا إلى العربة.
“شكراً لقدومكِ اليوم.”
وقف كارهان أمام العربة وانحنى قليلاً.
رأت إيليا الخدم ينظرون من مسافة، فأشارت له أن يقترب.
عندما اقترب بطاعة، مدت ذراعيها.
“تصبح على خير يا كارهان.”
عانقته برفق وهي تهمس.
تجمد كارهان في مكانه على الفور.
ثم سحبت ذراعيها ببطء.
سمع صوت باب العربة وهو يُغلق.
حتى حينها، ظل كارهان متجمداً في مكانه.
سرعان ما بدأت العربة تتحرك، واختفت عن الأنظار.
“سيد كارهان، ربما عليك أن تدخل……”
تحدث تيسيون بحذر، ثم قطع كلامه.
كان تعبير وجه كارهان غير عادي.
إنهما معاً منذ سنوات، لكن تيسيون لم يره هكذا من قبل.
“سيد كارهان؟”
سمع كارهان صوت دقات قلبه.
وكأنه يغوص تحت الماء، والأصوات المحيطة به تبتعد.
شعر بذلك من قبل.
في ذلك اليوم الممطر عندما شارك إيليا المظلة.
همس كارهان، وهو لا يزال يحدق في اتجاه العربة.
“قلبي…… يؤلمني……”
شهق تيسيون.
“هل يمكن أن لديك مشكلة في القلب؟! وجهك محمرّ قليلاً أيضاً……”
قال تيسيون بتعبير وجه جاد للغاية.
“سأستدعي طبيباً فوراً!”
هل هذا صحيح……؟
أمال كارهان رأسه قليلاً في حيرة، ولكن قبل أن يستوعب، أمسك تيسيون ذراعه وسحبه إلى الداخل.
التعليقات لهذا الفصل " 41"