كان الصمت الذي يتمسك به كواناش يخنق أنفاسي تدريجيًا. أدرت رأسي بسرعة ثم انحنيت قليلًا.
“إن كان ذلك قد أزعج جلالتك، فسأعود إلى مناداتك بـ (جلالتك).”
حينها فقط انفرجت شفتا كواناش.
“لا، لا بأس.”
ازداد تجهم حاجبيه أكثر.
(… هل هو حقًا بخير؟)
لقد بدا غاضبًا بوضوح، فكيف لي أن أعرف على أي إيقاع يجب أن أساير هذا الرجل؟
تذكرت جملة كان ديكويت يرددها دائمًا ولم أكن أعيرها اهتمامًا:
“بهذه البرودة ستجعلين أي رجل يفرّ هاربًا. لا أدري من ذا الذي سيأخذك أصلًا.”
نظرت إلى كواناش بوجه مضطرب.
لطالما قالوا إن الرجال مخلوقات معقدة، لكني فعلًا لا أعرف كيف أتعامل معه. هو أطول مني بما يقارب رأسين كاملين، وها هو يعبس في وجهي، ما جعل القلق يتسرب إليّ.
عضضت شفتي من دون وعي، فتأملني كواناش مليًّا قبل أن يقول:
“بل يبدو أنك أنتِ غير مرتاحة. وكأنك لا ترغبين في مناداة اسمي.”
هل من الطبيعي أن أشعر بالراحة حين يُطلب مني فجأة أن أنادي إمبراطورًا باسمه؟ بالطبع لا.
لكن لم يكن بوسعي الاعتراض عليه، فأجبته بهدوء:
“ليس الأمر كذلك، إنه فقط… غير مألوف قليلًا.”
“أحقًّا؟ إذن جربي مناداتي مرة أخرى.”
“هاه؟”
ورغم ارتباكي، فعلت ما طلبه:
“كواناش.”
“مرة أخرى.”
“… كواناش.”
“نعم، هكذا ناديْني.”
ساد بيننا صمت ثقيل. ومن هذا الحوار القصير، تأكدت أن لا هو ولا أنا نملك طبيعة ودودة أو ثرثارة.
حدق بي بعينيه الحازمتين وكأنه اتخذ قرارًا مهمًّا، ثم حرّك شفتيه ببطء. ومن بينهما، لمحت لسانه الأحمر.
“… يوسفير.”
تمتم باسمي مرتين أو ثلاثًا وكأنه يتذوقه:
“يوسفير… يوسفير…”
كان اسمي المألوف يبدو اليوم غريبًا على مسمعي.
اقترب مني خطوة واسعة، حتى باتت صدورنا على وشك التلامس، وظلّ ظلّه الضخم يغمرني.
“أنتِ…”
“نعم؟”
“لا شيء. لقد أخذتُ من وقتك للتحضير للمراسم بسببي. سأذهب الآن. نلتقي بعد قليل في القاعة.”
قال ما عنده بشكل أحادي، ثم خطا بخطوات واسعة وخرج من الغرفة.
وقفت متسمّرة، أستعيد في ذهني هذا الحوار الأول الذي كان كالعاصفة. حاولت تحليل ما يدور في قلب الرجل الذي سأدخل معه قاعة الزواج بعد ساعات، لكن…
(لا فكرة لدي. لا أعرف أي نوع من الأشخاص هو.)
وهذا طبيعي… ففي حياتي السابقة، تزوجتُه ولم تمضِ سوى ساعات قبل أن أموت. كل ما أعرفه عنه مصدره القصص التي يرويها المنشدون أو ما يُكتب في الصحف.
أعرف “الإمبراطور الشمالي كواناش رادون”، لكن لا أعرف “الرجل كواناش “.
هل سيكون هذا الزواج قرارًا صائبًا؟
حين بدأ التوتر المكبوت في جسدي يتلاشى، شعرت برأسي يثقل وجبهتي تسخن. وضعت يدي على جبيني وجثوت على الكرسي كما لو أني على وشك الانهيار.
—
تم تبسيط مراسم الزواج بناءً على طلب كواناش، وكأنه يريد إنهاء الأمر سريعًا والعودة إلى الإمبراطورية.
(الاستعجال… تمامًا كما في حياتي السابقة.)
حتى وصيفاتي كنّ أكثر غضبًا مني، واعتبرن إقامة مراسم الزواج الوحيدة بهذه السرعة أمرًا غير مقبول.
“هذا غير معقول أبدًا!”
قالتها الوصيفة وهي تصلح آخر لمسات على فستاني. أما أنا، فبعد ساعات من الوقوف كدمية لتلقي الزينة، كنت مرهقة تمامًا.
“لا بأس. يكفي أنه جاء بنفسه حتى هنا، وهو أمر لم يكن سهلًا عليه أن يترك القصر.”
“لكن من واجب العريس أن يأتي بنفسه ليأخذ عروسه!”
“صحيح، لكن…”
حتى لو تصرف كواناش بعناد، من ذا الذي يجرؤ على الاعتراض؟ بالنسبة لي، مجرد أنه التزم بالحد الأدنى من البروتوكول كان أمرًا يستحق الامتنان.
“كان يجب أن نلبسك فستانًا أكثر فخامة…”
“أكثر من هذا؟”
بالمقارنة مع فستان حياتي السابقة، ما أرتديه الآن مفرط الفخامة بالفعل.
على ما يبدو، ديكويت هذه المرة لم يبخل، ربما لأنه كان يضع أعين النبلاء في الحسبان.
رفعت رأسي المتعب ونظرت في المرآة. شعري مقسوم من المنتصف ومضفور للأعلى، تتخلله دبابيس مزينة باللؤلؤ.
اللؤلؤ موجود في كل مكان، ليس فقط في الشعر، بل على الأكمام الطويلة المتدلية، وعلى الزخارف التي تلتف حول خصري، وعلى الصليب الزخرفي المتدلي.
منطقة الصدر المربعة مغطاة بطبقتين من عقود اللؤلؤ، وحافة الفستان البيضاء كلها مرصعة بلآلئ تلمع بهدوء. حتى الطرحة البيضاء الطويلة تناثرت عليها لآلئ صغيرة، وعلى طول حافتها طوق من اللؤلؤ.
“انتهينا الآن؟”
“نعم… آه! لحظة!”
أخرجت الوصيفة قرطي زمرد متقنين، يلمعان بلون أخضر براق. وبعد جهد، اكتمل كل شيء أخيرًا. تنفست بعمق وشربت بضع رشفات ماء.
“أنتِ حقًا رائعة الجمال يا أميرتي!”
ابتسمت لها مجاملة: “حقًا؟”
“لا أحد يناسبه اللؤلؤ مثلك! حتى تسريحة الشعر الكاملة أبرزت بياض عنقك ورقتك كالغزال…”
“كفى.”
أشرت بيدي أن تتوقف، فبدت عليها ملامح الامتعاض.
“يكفي المظاهر.”
“لكنني أقول الحقيقة!”
“حسنًا، حسنًا.”
رغم أني أعلم أن المظهر جميل وفاخر، إلا أنه كان ثقيلًا عليّ. بعد أن اعتدت على ارتداء قمصان النوم والبقاء في الغرفة، صار هذا الثقل غريبًا ومزعجًا.
نظرت إلى الخارج، كانت الشمس لا تزال في كبد السماء. ومنذ الصباح، قابلت كواناش وتجهزت، فشعرت بأن طاقتي أوشكت على النفاد. لكن علي أن أكون يقظة.
حتى الآن، كانت الأحداث الكبيرة تتطابق مع حياتي السابقة. وإن نجوت اليوم، فسأبدأ بكتابة وقت جديد لم أعشه من قبل.
قبضت أطراف أصابعي على ذيل الفستان الأبيض، أنتظر اقتراب ساعة موتي.
وبعد قليل…
“أميرتي، حان وقت التوجه إلى القاعة.”
بدأ زفافي الثاني.
—
باستثناء أن فستاني أكثر فخامة، كان الحفل شبيهًا بما أتذكره. تسلسل المراسم مألوف، وعهد الزواج الثاني:
“هل تقبلين يوسفير كاتاتيل زوجة لك؟”
“نعم.”
كان كواناش ينظر إليّ من علٍ ويداه خلف ظهره. ارتدى زيًّا احتفاليًّا من الساتان الأسود، مطرّز بخيوط ذهبية على أشكال متعددة.
وعلى عكس ما اعتاد الرجال ارتداؤه من سترات عالية الرقبة، ترك هو صدره مكشوفًا، وكأن برد الشمال لا يمسه. ومن بين فتحة الياقة، ظهرت عنقه القوي وعظمة ترقوته.
ملابسه أبسط مما يتوقع من إمبراطور، بلا عباءة مرصعة بالجواهر أو تاج مثقل بالماس.
ومع ذلك، لم يكن في القاعة من هو أكثر هيبة منه.
كان كواناش يسطع من تلقاء نفسه، بلا حاجة لأي زينة. بل إن هذه البساطة أبرزت ملامحه أكثر، وجعلت عينيه الداكنتين تبدوان أشد حدة.
“أمام الحاكمة فاهار التي فتحت بداية العالم وستغلق نهايته، تعاهدا على الزواج، واثبتا ذلك بقبلة.”
انتهت العهود، وحان وقت “قبلة العهد الثانية”.
في ذاكرة روحي، كان آخر مرة قبّلني فيها كواناش قبل أكثر من عشر سنوات. ومع ذلك، ما زلت أتذكر بوضوح حرارة شفتيه على شفتي، ورائحة المسك التي لامست أنفي، ونكهة رجل غريب.
بمجرد أن استرجعت ذلك، شعرت برأسي يثقل. في المرة الأولى، كادت قدماي أن تخور قواهما بعد قبلة منه، لكن هذه المرة، ظننت أنني سأكون أكثر ثباتًا… لكنني كنت مخطئة.
فك كواناش يديه من خلف ظهره، وتقدم بخطوات واسعة نحوي، وأمسك بعضدي العلوي بكفه الضخمة التي غمرته بالكامل، وجذبني نحوه بلا أي مقاومة ممكنة.
انحنت خصري قليلًا إلى الخلف، وفي اللحظة التي أحاط فيها ساعد كواناش القوي بخصري…
غطت شفتاه الحارّة والخشنة شفتيّ بالكامل.
“أه…”
شدّ كواناش أكثر على ذراعه الملفوف حول خصري، فالتصقتُ بصدره بلا أي فراغ بيننا. من خلف طبق القماش، شعرت بوقع دقات قلبه الثقيلة، دق، دق، تضرب بانتظام.
ثم ضغط بأسنانه العلوية على شفتي السفلى بقوة.
وانفرجت شفتاي من دون وعي، لينفذ لسانه الساخن إلى داخلي.
“…!”
ارتجفت مذعورة.
قبلة العهد في حفلات الزواج لم تكن سوى إجراء شكلي، عابرة وسريعة. هكذا كان الأمر في حياتي السابقة أيضًا.
لكن هذه المرة مختلفة. لسان كواناش أخذ يعبث في فمي بلا رحمة.
امتزج لعابانا، ومعه دوى صوت رطب ولزج في القاعة الساكنة. كانت قبلة فاضحة إلى حد مفرط.
“مم…!”
دار رأسي من الدوخة. لم أستطع الإفلات من ساعده المحكم حولي. كلما حاول لساني التراجع، كان لسانه يلحق به ويطوّقه.
(لماذا… لماذا يفعل هذا…؟)
تجمدت أفكاري، ولم أعد أقوى على التفكير بوضوح. أخذت ألهث وأتنفس من أنفي بصعوبة، وكل ما استطعت فعله أن أتشبث بذراعه بقوة كي لا أسقط.
حين غمرني الحَرّ من الرأس حتى أخمص القدمين، ابتعد كواناش عني أخيرًا، ببطء شديد.
فتحت عيني المغمضتين بعناء، والتقت عيناي بعينيه على بُعد شبر واحد فقط. عيناه السوداوان تومضان بنار صامتة.
كما في حياتي السابقة، خارت قواي فجأة، وكدت أتهاوى أرضًا. لكن كواناش، الذي ما زال ممسكًا بخصري، حال دون أن أتعرض لمثل تلك الفضيحة.
لبرهة، لم أسمع سوى صوت أنفاسه الخشنة القريبة في أذني.
ذاك النفس المضطرب، ودقات قلبه التي شعرت بها عبر جسده الملتصق بي… عدا ذلك، غاب كل صوت عن حواسي.
“يوسفير.”
تمتم باسمي بصوت منخفض أشبه بالترتيل، ثم أفلت خصري أخيرًا. عندها فقط استطعت أن ألتفت حولي وأرى ما يحيط بي.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 9"