بينما كان الجدل يحتدم بين الوزراء، سُمِع فجأة ضجيج من خارج قاعة الاجتماعات.
ـ “سمو الأمير! لا، سمو الأمير، لا يمكنكم الدخول!”
انفتح الباب بعنف، ودخل وجه مألوف. كان أخي الأصغر “جينر”، الذي لم يتجاوز الثانية عشرة بعد.
قطب “دياكويت” حاجبيه بحدة وهو ينظر إلى جينر.
ـ “ما الذي تفعله؟ هذا ليس مكاناً يليق بفتى مثلك.”
نظر جينر بعينين محمرتين بالتوتر، متنقلاً بيني وبين دياكويت.
ـ “أحقًّا ما يُقال عن زواجك من الإمبراطور؟”
أجاب دياكويت بلهجة جامدة:
ـ “كنا نناقش الأمر للتو.”
نهضتُ من مكاني واقتربت من جينر.
كان أصغر إخوتي بفارق ثماني سنوات، ومنذ وفاة والدتنا كان يتبعني بحب وولاء شديدين.
ـ “أختي! قولي شيئاً على الأقل.”
كان على وشك البكاء في أي لحظة، لكن قبل أن أتمكن من تهدئته، قاطعنا دياكويت مجدداً:
ـ “إنها خطة تحالف منطقية.”
ـ “منطقية؟! أترى بيع أختك منطقياً؟!”
ـ “ذلك المجنون الذي يفتعل الحروب بين الحين والآخر، هو من عرض التحالف أولاً، بل وبشروط سخية على نحو غير مسبوق. إنها فرصة لا تتكرر.”
ـ “تسميها فرصة؟! يا أخي!”
رمى جينر بكل قواعد الأدب أمام الوزراء، ورفع صوته في وجه دياكويت.
ـ “جينر، كفى.”
وضعت ذراعي حول كتفيه وربتُّ عليه.
بيع نفسي؟ بصراحة، كنت ممتنة لأن جسدي ما زال يستحق أن “يُباع” إلى كواناخه.
حين نظرت إلى جينر الغارق في الحزن، مرت بخاطري كلمات سمعتها حين كنت شبحاً:
“أبلغوا الكتيبة الثانية… إن، إن سمو الأمير جينر…!”
جينر، الذي كنتُ أحبّه حتى لو وضعتُه في عيني، كان… قد مات في ساحة المعركة. في عمر الخامسة عشرة.
لن أسمح لذلك المستقبل أن يتكرر أبداً.
تطلعت بهدوء حول قاعة الاجتماعات وقلت:
ـ “أنا صاحبة الشأن ولا أشتكي، ومع ذلك يبدو أن الوزراء يبالغون في ردود أفعالهم.”
ـ “سمو الأميرة!”
ـ “أنا بخير. على أي حال، أنا في سن الزواج. سمو ولي العهد، فلنقبل المعاهدة.”
ـ “أختي!”
أمسك جينر بمعصمي بشدة. لكن أحد الوزراء، وقد بدا عليه الارتباك، قال:
ـ “لا حاجة لتضحيتك يا سمو الأميرة، يمكننا أن نجد طريقة أخرى…”
ـ “تضحية؟ ليست تضحية. أنا أريد الزواج منه بصدق.”
ارتجفت حاجبا دياكويت.
ابتسمت بهدوء. كنت جادة. كم انتظرت هذه اللحظة!
لقد قضيت أكثر من عشر سنوات في انتظار زوجي الذي قضيت معه نصف يوم فقط. والآن حان وقت لقائنا.
—
بتدخلي المباشر، انتهى المجلس بالموافقة على عرض التحالف.
وبمجرد أن بدأ خبر زواجي من كواناش، أو بالأصح بيعي له، ينتشر في المملكة، عمّت الفوضى في كل مكان.
توالت عرائض الشعب، وحتى قائد حرس الحدود جاء مسرعاً إلى القصر محاولاً إقناعي بالعدول عن الأمر.
ـ “سمو الأميرة، هذا غير معقول. كيف تتزوجين من ذلك العبد الحقير؟! إن هذا إهانة لمملكتنا. سأكون في الصفوف الأولى وأقاتل الإمبراطورية الرادونية، حتى لو مزق جسدي إرباً…”
ـ “لا بأس، أنا بخير حقاً.”
كنت أعني ما أقول، لكن القائد لم يكن مستعداً لتقبله. وكانت تلك أول مرة أرى فيها رجلاً ناضجاً في منتصف العمر يوشك على البكاء أمامي.
ـ “تجنب الحرب أمر جيد إن استطعنا.”
ـ “لكن…!”
ـ “الحرب مع الإمبراطورية لن تنتهي بسهولة. سيسفك الكثير من الدماء. حتى لو جمعنا جيشاً متحالفاً وانتصرنا، فلن تبقى أرضنا سليمة. أنت تعرف هذا جيداً، أليس كذلك؟ الحرب لا تترك خلفها سوى الخراب.”
كنت أفكر بعقلانية، ولم أشعر بأي نفور من فكرة زواج التحالف.
لكن الآخرين ظنوا أنني أتحمل تضحية نبيلة. ومع اقتراب موعد الزفاف، أصبحت المملكة كأنها تعيش أجواء جنازة، حزينة وكئيبة.
وفي أحد الأيام، جاءني دياكويت بمفرده.
ـ “ما شعورك قبل الزواج؟”
على عكس حياتي السابقة، لم يعد يجرؤ على معاملتي باستهانة، لأني لم أعد أسمح له بذلك.
ربما لهذا السبب كان يبدو منزعجاً كلما وقف أمامي.
ـ “لا أشعر بشيء خاص. تفضل بالجلوس.”
جلس قبالتي واضعاً ساقاً على ساق.
ـ “هاها، تقولين لا تشعرين بشيء… تتظاهرين بالقوة.”
ـ “أنا صادقة.”
ـ “لكن إن سمعتِ ما عندي، ربما سيتغير رأيك.”
ضاقت عيناه وابتسم بابتسامة لينة:
ـ “أتعلمين أن هناك أرشيفاً ملكياً لا يدخله إلا الملك؟”
ـ “نعم.”
ـ “والدي ما زال بصحة جيدة، لكن بما أنني أتولى الوصاية، لدي الحق في الاطلاع عليه.”
لم أفهم بعد ما الذي يود قوله. وضعت يدي فوق تنورة فستاني ونظرت إليه مباشرة.
ـ “وجدت هناك وثائق سرية عن أفراد أسرتنا ممن مُنحوا اليقظة.”
ـ “……”
ـ “الحاكمة فاهار كانت ماكرة بالفعل.”
ابتسمت شفتاه وكأنه يستمتع بالأمر.
ـ “يبدو أنها لم تكن تريد أن تتسرب القوة التي منحتها لحماية الغابة الفضية في هذه الأرض إلى الخارج.”
ـ “ماذا تقصد؟”
ـ “المتيقظ لا يمكنه إنجاب الأطفال.”
تجمد ذهني لوهلة عند سماع كلماته.
ـ “سواء كان رجلاً أو امرأة، المتيقظ لا ينجب. أنتِ عقيم.”
ـ “لكن في السجلات…”
ـ “صحيح، هناك أبناء لمتيقظين. لكن الأمر كان مزوراً. كانوا يسجلون أبناء الإخوة على أنهم أبناء المتيقظين لإخفاء العقم.”
قبضت على أصابعي المرتجفة، محاوِلة الحفاظ على هدوئي.
مع كلامه، بدأت أفهم أشياء كانت تثير استغرابي من قبل.
سحر الغابة يظهر فجأة عند سن العاشرة تقريباً، بلا أي علامات منذ الولادة.
ولا يُورَّث عبر الدماء، بل تختار الغابة شخصاً عشوائياً واحداً في كل جيل.
إذا كان ما قاله صحيحاً، فأنا لا أستطيع إنجاب الأطفال. ولم أشعر بالحزن لذلك، إذ لم أمتلك يوماً وهماً عن تكوين أسرة.
لكن ما أقلقني هو… ما الذي سيحدث إن انكشف هذا السر؟
“هل سيلغى التحالف كما في حياتي السابقة؟”
فما يريده كواناش هو نسلي. وإذا علم أن ثمن التحالف كان خداعاً من البداية، فلن يغفر لي ولا لمملكتي.
هل ستجرفنا مجدداً تيارات الزمن نحو حرب أخرى؟
ابتلعت ريقي وضبطت صوتي بصعوبة:
ـ “هل أنت متأكد؟”
ـ “هل لدي سبب لأكذب عليك؟”
ولم أرَ أيضاً سبباً يجعله يقول لي الحقيقة.
تأملت وجهه بصمت.
“لماذا لم يخبرني بهذا في الماضي؟”
فكوني عقيمة أمر خطير لدرجة أنه قد يطيح بالتحالف، ومع ذلك لم يُذكر في حياتي السابقة.
الوضع مختلف الآن، وتصرفات دياكويت مختلفة… علي أن أكون يقظة.
هدأت ضربات قلبي المتسارعة.
ـ “إن كُشف هذا السر، فسينهار التحالف.”
ـ “صحيح. وسيغزو ذلك العبد أرضنا.”
ـ “وبقوتنا الحالية…”
ـ “لا يمكننا مواجهته. أعلم ذلك. ولهذا دورك مهم.”
أدخل يده في جيبه وأخرج قلادة صغيرة.
ـ “هذا أثر تواصلي سحري نادر حصلت عليه بصعوبة. خذيه.”
تناولت الأثر بحذر.
ـ “حتى لو ذهبتِ إلى الإمبراطورية، يمكنك التواصل معي فوراً من خلاله. ولن يكتشف أحد أنه أثر إلا إذا كان ساحراً بارعاً، فلا تقلقي.”
ـ “…من أين حصلت عليه؟”
ـ “ليس من شأنك.”
في زمن يتلاشى فيه السحر شيئاً فشيئاً في القارة البشرية، كان ثمن أثر هجومي يُستخدم لمرة واحدة يعادل راتب عام كامل لعامة الناس. أما مثل هذا الأثر الاتصالي الراقي، فثمنه يعادل حصنًا كاملاً.
مملكتنا، المبنية على أرض قاحلة، لم تكن غنية. فمن أين حصل على المال لشراء هذا الأثر دون الرجوع لمجلس الدولة؟
ـ “وماذا تريد مني بالمقابل؟”
ـ “المعلومات.”
ابتسم دياكويت بابتسامة جانبية وأكمل:
“لسنة أو سنتين، لن يبدو الأمر غريباً إذا لم تُنجبي. فلتخدعيهم بطريقة ما… وحاولي قدر الإمكان تجنب المعاشرة.”
وألقى دياكويت نظرة متعمدة، صعوداً وهبوطاً، على كامل جسدي.
ـ “أنتِ على النقيض تماماً من معايير الجمال في الجنوب، لذا ربما كواناش لن يكلف نفسه عناء الاقتراب منك أصلاً.”
ـ “……”
ـ “خذي وقتك في المماطلة، وحاولي جمع أي معلومات عن الإمبراطورية وكواناش، ثم انقليها إليّ. خارج هذه الأرض، أنتِ لستِ سوى فتاة لا قيمة لها. لكن على الأقل تستطيعين فعل هذا، أليس كذلك؟”
كنت على وشك أن أوبخه على أسلوبه، لكن فجأة ضربت رأسي صدمة إدراك هائلة.
لا يعقل…
ـ “أخي… هل كنت تنوي كسر التحالف منذ البداية؟”
ـ “أتظنين أنني سأخضع لذلك العبد الحقير طواعية؟ كنت أنوي أخذ ما أريده منه، ثم التخلص منه في الوقت المناسب.”
ـ “لكن هذا سيؤدي إلى اندلاع حرب.”
ـ “لقد تحدثت بالفعل مع الممالك الأخرى في الشمال. سنكوّن تحالفاً لمواجهة الإمبراطورية.”
كلما واصل حديثه، ازدادت فرضية واضحة تتشكل في ذهني، حتى شعرت بجفاف في حلقي.
ـ “في الأصل، كنت أنوي ضرب كواناش مباشرة في ظهره حين يأتي لتوقيع التحالف. كنت أريد إشعال الحرب هنا، حيث لدينا بعض الأفضلية الجغرافية. لكن هناك من رأى أنه من الأفضل أن نستغل دورك كجاسوسة لزيادة الاستعدادات أولاً. على أي حال، أنتِ ذكية بما يكفي لهذا.”
اجتاحت جسدي قشعريرة باردة فجأة. كان دياكويت ينوي إشعال الحرب منذ البداية.
أتذكر أنني، في حياتي السابقة، حين مت، تشكل تحالف الشمال على الفور تقريباً. وقد استغربت حينها كيف استطاعت عدة ممالك الاجتماع بهذه السرعة، وهو أمر ليس سهلاً.
لكن الآن عرفت أن كل ذلك كان مخططاً مسبقاً.
الفرق الوحيد هذه المرة هو أنني علمت بالأمر.
ويبدو أن دياكويت بات يراني ورقة مفيدة على رقعة الشطرنج، لذلك شارك خطته وأدخلني في هذه اللعبة السياسية.
تذكرت السهم الذي دفعني إلى حتفي وأشعل فتيل الحرب.
لم يكن من الممكن لسهم عادي أن يخترق عربة الإمبراطورية ويصيب قلبي مباشرة. لطالما ظننت أنه كان سهماً مسحوراً.
والآن، ومع الأثر السحري الذي سلّمه لي دياكويت، أصبح لديّ دليل على أن هناك ساحراً يساعده، في وقت يكاد السحر يختفي فيه من القارة البشرية.
كل الخيوط اتجهت إلى نقطة واحدة.
وفي لحظة اشتعال غضبي، شعرت أن رأسي يبرد بشكل غريب. حدّقت به وأنا أكبح ابتسامة ساخرة كانت على وشك الخروج.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات