كان كواناش يحدّق بي ملياً، ثم قرّب جبينه بحذر حتى التصق بجبيني. قال بصوت متقد بحرارة عميقة:
“يوسفير. أنتِ إنسانة تشرقين وحدكِ حتى ولو لم أكن بقربك.”
أجبته وأنا أكتم مرارةً في صدري:
“أنتَ تراني بمنظارٍ حسن أكثر مما أستحق.”
صحيح أنني في هذه الحياة أُعامل معاملة جيدة، لكنني في حياتي السابقة كنتُ بائسة لا تساوي شيئاً.
أنا أعرف جيداً كيف يكون شعور أن يتجاهلك العالم ويزدريك. ومع ذلك، لم أستطع أن أنطق وأقول له: “أنا أفهمك، فقد كنتُ كذلك أيضاً.”
قال بإصرار أشد:
“لا. يوسفير، أنتِ إنسانة نبيلة وقيمة. وهذه المرة تأكدتُ مجدداً من ذلك.”
فقلت بابتسامة باهتة:
“بسبب عودة قوتي؟”
“لن تعود إليكِ تلك القوة دون سبب أبداً.”
“…أتظن ذلك؟”
انتقلت الحرارة المنبعثة من جبين كواناش الملتصق بجبيني إلى جسدي.
مددتُ يدي لأحيط كتفه بذراعي، ثم وأنا أستعيد كلمات قلتها له في صغري، فتحتُ شفتي لأقول:
“أتدري؟ قد يقولون إنني أنقذتُك، لكنك أنتَ من أنقذ مئات وآلاف العبيد.”
صمت.
“العبيد كانوا يُعاملون كالممتلكات، فلا يملكون حتى الحق في الاعتراض على أي ظلم. أنتَ من حال دون أن يظهر (روزان) ثانٍ أو ثالث. هل تدرك كم أن هذا عظيم؟ هل تعلم كم هو ثمين ما فعلت؟”
همس وكأنه يريد التقليل من شأن نفسه:
“أنا فقط…”
لكني منعتُه من قول المزيد، واقتربتُ منه أكثر.
حياتان، وزيجتان، ورجلٌ واحد ظلّ يحبني في كل مرة.
وضعتُ شفتي برفق على شفته السفلى المرتجفة وقبّلتها قبلة قصيرة ثم قلت:
“قلتَ إنك صرتَ امبراطورًا لكي تتزوجني، لكن فكر في مسارك بعد الثورة: لقد حررتَ العبيد، واقتلعتَ الفساد، وبنيتَ وطناً جديداً. وأنا أحبك من أجل ذلك. أنتَ رجل صالح، يحق لك أن تثق بنفسك.”
كان يصغي إليّ بصمت، ثم ابتعد قليلاً وأدار رأسه بسرعة.
“كواناش؟”
غطّى عينيه بكفه وضغط عليهما بقوة. وبعد وقت طويل تكلم أخيراً:
“يوسفير…”
حين التفت إليّ من جديد، كانت عيناه السوداوان تلمعان بدموع لم يستطع حبسها.
“ألستِ تبغضينني؟”
خرج صوته مشققاً محمّلاً بالندم.
“أنتِ دائماً من تنقذينني. وقد تعهدتُ هذه المرة أن أكون أنا من يحميك وينقذك…”
ظل يحدّق بي طويلاً، ثم مال برفق، ببطء شديد، كأنه يريد أن يمنحني وقتاً كافياً لأدفعه إن لم أرغب.
لكنني لم أهرب منه.
اصطدمت شفتاه الخشنتان الساخنتان بشفتي.
كان قبلة رقيقة يائسة، يمسك فيها كتفي بخفة، وكأنه يخشى أن أذوب بين يديه لو ضغط أكثر.
رغم حديثه، لم أستطع أن أفهم بعمق مشاعره. لا أجرؤ أن أقدّر لماذا يحبني بهذا القدر.
لكن شيئاً واحداً كان واضحاً: أن هذا الرجل الذي بذل حياته كلها في حبي، بدا لي مثيراً للشفقة، وفي الوقت ذاته محبباً إلى قلبي.
انتهت القبلة بعد غياب طويل عنها، وتنفّسنا معاً زفرة ضعيفة. ثم التقطتُ أنفاسي وسط أثر القُبلة وقلت:
“كواناش.”
“…نعم.”
“حين تحمي هذا البلد وتجعله صلباً، فذلك سيكون طريقك لحمايتي أنا أيضاً.”
ارتسمت في عينيه، التي كانت ملبّدة بالقلق والاضطراب، نظرة أكثر صلابةً من قبل.
“إذن، أسرع وأمسك بالذين يحاولون تدمير هذه الأرض وأوقفهم.”
هزّ كواناش رأسه موافقاً، ثم قبض بقوة على يدي وقال:
“…لكن لهذا أحتاج إلى قوتك.”
“ماذا؟”
“لن أحجزك بعد الآن.”
الرجل الذي حاول أن يقيّدني في قفص من الأمان المصطنع والوهم، قد فتح القفل أخيراً.
شعرتُ بأن الثقة نمت بيننا بعد أن تبادلنا ما أخفيناه طويلاً. وربما كان ذلك كفيلاً بتسكين قلقه بعض الشيء.
“حقاً… حقاً؟”
“نعم. لكن بشرط… ألّا… تفعلي أي أمر خطير… أوه.”
لم أستطع كبح فرحتي، فأطبقتُ ذراعي حوله بقوة.
“يـ… يوسفير.”
ارتجف صوته بالارتباك. لم أكن سعيدة فقط لأني صرتُ قادرة على الخروج من الغرفة؛ فمنذ أن عادت قوتي، كنت قادرة على الفرار متى شئت.
لكن السبب الحقيقي لسعادتي أنني صرتُ أشعر أنني أقف معه على قدم المساواة.
لم أعد مضطرة إلى مجادلات مرهقة معه، ولقد بدأ أخيراً يثق بي وبنفسه أكثر.
قلت مطمئنة:
“لا تقلق، كواناش. الآن بعد أن عادت قوتي، لن يكون صعباً عليّ حماية نفسي.”
لكن صوته عاد يمتزج فيه القلق:
“ومع ذلك قد يحدث ما لا نتوقعه…”
فقاطعتُه سريعاً وأنا أهمس بخجل:
“أظن أنني أحببتك أكثر قليلاً الآن، كواناش…”
“تبا.”
أمسك بذقني بعنف وقبّلني من جديد، قبلة مشتعلة تخلو من أي تردد.
ذراعان صلبتان أحاطتا بي، وحرارة متدفقة غمرتني. كان هذا ما اشتقتُ إليه بشدة.
—
بعد القبلات القصيرة، بدأنا نتناقش معاً في أمور كثيرة. كانت هناك قضايا عديدة تحتاج إلى حل.
وأخيراً هدأ قلب كواناش المليء بالقلق قليلاً، وبدأ يطلعني على الوضع الحالي.
ما زال مصير (رومان) مجهولاً. فقد أفلت من شبكة المراقبة، ولا يكف عن تغيير مظهره والهرب، مما يجعل تعقبه أمراً صعباً.
فتشوا جميع فروع (جيللييه) التجارية، لكن لم يعثروا على أثر له. حتى بعدما ألقوا القبض على جميع أفراد القافلة للتحقيق، لم يحصلوا على شيء ذي قيمة.
يبدو أن معظمهم لم يكونوا يعرفون هوية رومان الحقيقية، ولا حتى مؤامراته.
كان يعيش حياة مزدوجة، يخفي فيها شخصيته تماماً.
رجّح كواناش أن وجهته التالية ستكون الشمال. فإذا كان (دياكويت) حقاً حليفاً لرومان، فسيعبر الحدود شمالاً.
لكن كواناش كان قد أغلق الحدود منذ وقت مبكر. وأمر ألا يخرج حتى نملة واحدة، وقطع كل أنواع التجارة الخارجية، وجعل الإمبراطورية تنشغل كلها بمطاردة رومان.
لذلك، الأغلب أنه لم يستطع تجاوز الحدود. مما يعني أنه مختبئ في مكانٍ ما على الطريق المؤدي إلى الشمال.
رومان كان بارعاً في الاختباء خلف الناس كظلّ. لذا لن يكون إخراجه من مخبئه سهلاً.
لذلك قرر كواناش أن يلقي له طُعماً.
وكان الطُعم هو (جاكسور)، أقرب أصدقائه وأشبههم بالأخ.
رغم أن الشك في أن جاكسور خائنٌ موجعٌ لقلبه، فقد بدا أن كواناش قد حسم أمره باستغلاله. كان ينوي أن يسرّب له معلومات عمداً ليجذب بها رومان.
إن فشل الأمر، فسيكون قد تأكد على الأقل من أن جاكسور بريء. وإن نجح، فسيمسك برومان.
لكن حين شرح لي خطته بالتفصيل، لاحظتُ أنها لا تزال مضطربة بعض الشيء. فطبيعة كواناش أنه رجل يبرع في المواجهة المباشرة بالقوة، وليس في هذا النوع من الخداع.
قلت:
“كواناش. ضُمّني إلى خطتك.”
“لكن…”
“أنتَ وحدك لا تكفي. أنتَ تعلم ذلك.”
“…سيكون الأمر خطراً.”
“مهما بلغ الخطر، فأنا الآن أستطيع حماية نفسي. أعدك بذلك.”
قال بحزم:
“إذن عليكِ أن تعديني: إن شعرتِ بأن الخطة ستفشل، تهربين دون تردد. سلامتكِ تأتي أولاً.”
بعد أن طمأنته مراراً، سمح لي أخيراً بالانضمام إلى رحلة مطاردة رومان.
—
لم يكن أحد يعلم بأمر هذه الخطة سوى قلة قليلة.
منذ أن فرّ رومان من القصر الإمبراطوري، لم يعد كواناش يثق بأحد بسهولة. لا بجاكسور، ولا حتى بحرسه الخاص الذين أقسموا له بالولاء.
وكانت خطتنا كما يلي: أولاً سيختلق كواناش عذراً زائفاً.
“تاجر من الشمال، يُدعى (بيلزار)، وافق على تزويدنا بمواد سحرية.”
بالطبع، لا وجود لمثل هذا التاجر.
اختلقوا اسماً لتاجرٍ وهمي، يملك بضائع قادرة على قلب موازين الحرب، ويريد أن يبيعها في سرية تامة لأنها تتعارض مع سياسات المملكة التي ينتمي إليها.
قرر كواناش أن يذهب بنفسه إلى قرب الحدود المتاخمة للشمال ليتحقق مما إذا كانت البضاعة حقيقية، وليلتقي بالقافلة هناك.
وقال:
“في الوقت المحدد، سيفتح الحصن الثالث لبرهة وجيزة.”
لم يُخبر بهذا الأمر إلا عدداً قليلاً للغاية، واصطحب معه أقل عدد ممكن من الرجال إلى الحدود. ثم ينتظر.
إلى أن يبتلع رومان الطُعم.
في اليوم الذي يُفتح فيه الممر المغلق بإحكام نحو الشمال ولو لحظة قصيرة، إن كان الجاسوس الذي زرعه رومان في القصر قد علم بالأمر، فسيحاول رومان أن يتسلل متنكراً في هيئة أحد جنود حرس الحدود لينفذ من الإمبراطورية.
في الظروف العادية، لا أحد يستطيع أن يميّز رومان عن غيره. لكن إن كنتُ أنا هناك، فالأمر يختلف.
فالنباتات تستطيع أن تنفذ عبر السحر لترى الحقيقة المخفية في الداخل. وهي لا تكذب ولا تنخدع. ولهذا كنت قادرة على سؤالها ومعرفة من هو رومان الحقيقي.
سألتُ كواناش عمّا كان ينوي فعله أصلاً قبل أن أطلب مشاركتي. فكان جوابه صادماً بعض الشيء.
قال:
“كنت أنوي الذهاب إلى مكان اللقاء ومعي جاكسور وحده دون أي حرس آخر. أي أن أعرّض نفسي مكشوفاً تماماً. فإن كان جاكسور متحالفاً حقاً مع رومان، فسوف يُعلمه بذلك، وحينها سيحاول رومان القضاء عليّ.”
لقد كان ينوي أن يجعل نفسه الطُعم.
إن كان رومان حقاً آخر وريث متبقٍ من سلالة بيرنن، فسيكون حقده على كواناش عظيماً. ولو تمكن من التخلص من كواناش مسبقاً، فسيصبح ابتلاع القارة أيسر بكثير.
إن كان جاكسور خائناً، وقد وصلته هذه المعلومة، فلن يستطيع رومان أن يتجاهلها أبداً.
فقلتُ له معترضة:
“هذه خطة خطيرة جداً. ماذا لو كان رومان قد أرسل رجاله للاختباء هناك مسبقاً، فهجموا عليك دفعة واحدة؟ قد تُصاب بجراح خطيرة!”
فأجاب بثبات:
“كنتُ قد عزمتُ أمري على احتمال الإصابة.”
كانت تلك استراتيجيته: أن يُقدّم لحمه ليمسك عظم خصمه.
صحيح أن كواناش عُرف بأنه يتجاوز حدود البشر بقوةٍ لا مثيل لها، حتى قيل إن عدداً من الفرسان لو هاجموه معاً لما استطاعوا مجابهته.
فلقد كان موهوباً بالفطرة في استخدام طاقة السيف، عبقرياً بكل ما للكلمة من معنى. ولو لم يولد عبداً، لكان قد اشتهر منذ وقت أبكر كسياف عظيم يدوّي اسمه في العالم.
لكن، حتى ولو كان كواناش بهذه القوة، فلا ضمان أبداً أن يخرج سالماً إن واجه رومان، الساحر الذي يملك قوة غريبة وعجيبة.
التعليقات لهذا الفصل " 59"