كانت يوسيفر ترغب في أن يبقي كواناش تحت جناحها لبعض الوقت، لكنها لم تستطع فعل ذلك. كان لا بد أن تبقى لقاءاتها مع كواناش طيّ الكتمان.
فلو تسرّب خبر أنّ كواناش فضح أخطاء قائده “بينون”، لكان ذلك سبباً في جلب المتاعب عليه. لذلك، وبعد أن شرح يوسيفر له الموقف، أخذ يأتيه – كما في السابق – ببعض الطعام والقماش لعدة أيام.
لكن هذه المرة لم يكن السبب مراقبة “دياكويت”، بل لأن كثرة الأعمال حالت دون بقائه طويلاً في الإسطبل. ومع ذلك، وعلى خلاف حياته السابقة، أراد على الأقل أن يتعارف معه.
قال وهو يرمق كواناش الذي كان يأكل خبزاً:
“ما اسمك؟”
أطبق كواناش شفتيه للحظة، ثم ابتدع اسماً مستعاراً دون أن يذكر حقيقته.
“ماركوس.”
وكان سبب إخفائه لاسمه الحقيقي واحداً لا غير: لم يشأ أن يرسخ في ذاكرة يوسيفر بتلك الصورة البائسة.
فبينما ازدادت يوسيفر جمالاً ونبلاً عن حياتها السابقة، ظل هو عبداً لا يملك شيئاً.
(ليس بعد… عليَّ أن أصبر…)
كان يرغب أن يظهر أمامها بكامل هيئته الكاملة. ومع ذلك لم يكن واثقاً حتى إن كان سيستطيع أن يقف بجوارها يوماً.
“ماركوس… أجل، إذاً ماركوس.”
تمتمت يوسيفر بالاسم الذي لم يطتعرفه إلا في حياتها الثانية، وإن كان مجرد اسمٍ زائف. ثم قالت بابتسامة حزينة:
“ليت هذا العالم الظالم يتغير سريعاً.”
لم يكن إنقاذ “روزان” ليُنهي الأمر. فمثل هذه المآسي لا بد وأنها تقع في أماكن أخرى حتى الآن.
فكرت يوسيفر في الثورة التي ستقع بعد بضع سنوات، دون أن يخطر لها أنّ قائدها سيكون ذاك الصبي أمامها. ولم يخطر لها أيضاً أنها ستكون سبباً أساسياً في شرارتها.
—
“ذاك الصبي… كان أنا.”
ما إن انتهى كواناش من حديثه، حتى ارتسمت أمامي بوضوح مشاهد كانت مطموسة في أعماق ذاكرتي.
“بفضلك شعرت بأنفاسي تتجدد. لم أرَ في حياتي شخصاً بتلك الطيبة والجمال مثلما رأيتك آنذاك. ومنذ تلك اللحظة… وقعتُ في حبك.”
“…”
“أتدرين لماذا سُمّيت الإمبراطورية بـ(رادون)؟ لأنني التقيت بك هناك.”
أصابتني اعترافاته بالذهول. لم يخطر ببالي قط أن السبب في التسمية شيء كهذا. كنت أظن فقط أن الاسم جاء من سلسلة جبال “رادونيا” التي تقطع القارة.
“لكنني… كنت جاهلاً بمكاني. ورحتُ أُكنّ رغبة في امتلاكك، رغم كونك في منتهى الجمال والسمو.”
“…”
“ولكن عبدٌ ذليل كيف له أن يتزوج أميرة؟ مجرد النظر في عينيك كان يعدّ جريمة.”
امتدت يده الخشنة القوية إلى وجهي، لتحتوي خدي برفق.
“يقال إن قرين الأميرة لا بد أن يكون أميراً. لكنني لست ابن ملك. كان أمامي سبيل واحد فقط… أن أصبح ملكاً بنفسي.”
انغرست نظراته العميقة في عينيّ، فشعرت كأنها تفتت أعماقي وتكشف كل خباياي.
يا لها من قصة لا تُصدّق! وحتى ذلك الحب النقي الصريح الذي ينفثه أمامي، كان يصعب عليَّ تصديقه.
“من أجل فكرة واحدة فقط – أن أمتلكك – نميت قوتي، وأسسّت تنظيماً، وأسقطت دولة، ثم أصبحت سيد القارة.”
“كواناش…”
“بعد أعوام عدّة، جئت إليك تحت اسم التحالف. كان الأمر قسراً، وكان جبناً مني، لكنني فقط رغبت أن أمتلكك.”
شعرت بالاختناق. كان حبه ينهمر عليَّ كجبل ثقيل يضغط على أنفاسي.
“يوسيفر… منذ البداية، لم أرغب في شيء سوى أنتِ.”
كل كلمة منه كانت تهز كياني. ظللت أحدق فيه وهو جاثٍ على ركبتيه بجانب سريري. كانت عينيه في مستوى عيني تقريباً، وفيهما احتدام رغبة دفينة منذ زمن بعيد.
(إذن… طلبه لعقد التحالف الزوجي لم يكن سوى لأنه أرادني بحق…)
استعدت ببطء قصته في ذهني، وتأملت حياتي في المرتين.
(هل يُعقل أنه أحبني حتى في حياتي السابقة؟ وهل جنونه بعد موتي كان بسبب ذلك؟)
في حياتي السابقة، حين استمر كواناش في إشعال الحروب كالمُدمن على الدماء، خطر ببالي فجأة أن سبب جنونه ذاك قد يكون أنا.
صورته المظلمة بعد أن كدت أموت بالسمّ امتزجت في مخيلتي مع مساره السابق.
ثورة قلبت مجرى تاريخ البشرية. إمبراطورية الشمس العظيمة التي أفرزتها تلك الثورة. أن يكون دافع تلك البطولات أنا! حتى بعد سماع ذلك منه مباشرة، كان تقبّل الأمر عسيراً.
لكن في أعماقي، كنت أعلم أن كلماته لم تكن سوى صدق خالص.
كل المواقف الغامضة في تصرفاته بدأت تتضح: توتره كلما واجهني، تقليله من نفسه متوقعاً أنني سأكرهه، تواضع سيد إمبراطورية عظيمة فقط أمامي… كل ذلك أصبح له تفسير واحد: الحب.
قبض كواناش على ذراعي بكلتي يديه وقال:
“ولهذا فأنا خائف. أنتِ أساس حياتي. لولاك لما كنت ما أنا عليه اليوم. لقد أنقذتني.”
(لماذا قلب هذا الرجل بهذا العمق؟)
ظننت أنني أحببته أيضاً. لكن مقارنة بحبه، كان حبي ضئيلاً وسطحيّاً.
“لو فقدتكِ، أنا…”
كانت عيناه ترتجفان بالخوف. شعرت بألم في صدري. لم أظن أن لمسة الحنان التي منحته إياها طفلةً كانت تعني له الكثير. لكنه كان حينها طفلاً هشاً مرهقاً، يكفيه شيء بسيط من العطف ليفرّغ فيه قلبه كله.
“كواناش.”
طوال حديثه كان جاثياً على ركبتيه.
“اصعد إلى هنا… إلى جانبي.”
ارتجف عند سماع كلماتي الخافتة.
“أ… أيمكنني؟”
أومأت برأسي، فنهض بجسده الضخم وجلس إلى جواري. كان قريباً مني، ومع ذلك بدا أعلى مني بكثير، وحرارة جسده تلفحني.
نظرت إليه ملياً وقلت:
“لقد تذكرت… نعم، كان ذاك الصبي أنت. لم يخطر لي أبداً.”
كان آنذاك أصغر حجماً وأشد نحولاً بكثير من الآن. رغم أن هيكله كان أكبر من أقرانه، إلا أن سوء التغذية جعله بلا لحم تقريباً.
“أتذكرينني إذاً؟”
“بالطبع.”
قطّب حاجبيه قليلاً وقال:
“لكني لا أشعر بالسعادة.”
“ولمَ ذلك؟”
“أما قلتِ إنك لا تريدين أن يبقى في ذهنك مظهري البائس؟”
“لكن قصتي تختلف. لم أظنك يوماً قذراً أو حقيراً.”
للمرة الأولى منذ أيام، مددت يدي وأمسكت ظهر كفه. ارتجف حلقه بعنف.
“لقد كنتَ مجرد ضحية لنظام جائر. وأنتَ نفسك من أسقط ذلك النظام. فلماذا تشعر بالخزي من أصلك؟”
“ليس دائماً… فقط أمامك أشعر بهذا. فأنت… شامخة وجميلة حد أنني لا أجرؤ على مقارنتي بك.”
ما من أحد في الدنيا قدّرني كما قدّرني كواناش. حتى جنود وطني لم يعاملوني بذلك الإجلال.
أخذ يقترب ببطء، حتى لم يبقَ بيننا سوى مسافة قد تجعل أنوفنا تتلامس. عينيه المرتجفتان تحدّقان بي بشوق، وأنفاسه الحارة تلفح بشرتي.
“كواناش… صدّقني. وصدّق نفسك أيضاً.”
“…”
“تقول إنني أنقذتك؟ كلا. لم أفعل شيئاً. أنت قائد الثورة، وأنت من أنجز كل شيء بيديك.”
“لولاك لما فكرتُ أصلاً في إشعال الثورة.”
“لكن ليس كل من يجد دافعاً ينفذ ويُنجح ما قمتَ به.”
كانت عيناه تشبهان عيني وحش جريح: خطيرة، ومع ذلك تبعث على الشفقة.
قال ببطء:
“كما كنتِ طفلةً، كذلك أنتِ اليوم… تعاملينني كما لو أنني إنسان ذو قيمة، وكأننا متساويان. لم تدركي أبداً كم كان ذلك استثنائياً من الحنان.”
“ذلك… ينطبق عليّ أيضاً.”
ذكرى مساعدتي لذلك الصبي في الإسطبل الحقير.
كان ذلك الموقف بالنسبة إليّ استثناءً نادراً. لقد كان من بين الذكريات القليلة التي شعرت فيها أنني كنت ذات فائدة.
“كواناش… أنا أيضاً حين أكون معك، أشعر وكأنني إنسانة لها قيمة.”
شعرت بوجود رابط قوي يربط بيننا.
موتي السابق وأنا أجهل كل شيء بدا عبثياً للغاية. أن تكون صلتي الكبرى في الحياة هي كواناش، ثم أن أموت من دون أن أعرف من هو كواناش حقاً… يا له من أمر مؤلم.
لو أنني أدركت ذلك حينها، كيف كان سيكون الحال؟
الآن فقط، وبعد أن تحديت الموت وحصلت على حياة ثانية، بدأت أفهم قليلاً ما الذي ينبغي أن أفعله.
عليّ أن أنقذ هذا الرجل المتمسك بي حتى الأعماق.
ذلك هو السبيل الوحيد لجعل هذا العالم يستقر، ولمنع اندلاع الحرب.
قد يبدو كواناش أقوى وأصلب من أي أحد، لكن داخله هشّ وغير مستقر على الإطلاق. كان حبه الذي بناه على مدى طويل في مسار واحد هو ما جعله على هذه الحال.
نعم… الضربة القاضية التي قد تحطمه لم تكن سوى أنا.
فإن انهار هذا الرجل، الجالس على قمة الإمبراطورية، فلن يكون أمام العالم سوى الانزلاق في فوضى عارمة.
ولهذا السبب، عليّ أن أبقى على قيد الحياة… لأحمي كواناش.
كان لا بد أن أحتضنه بالحب، حتى لا يعود يشعر بالاضطراب والخوف بعد الآن.
التعليقات لهذا الفصل " 58"