“يُقال إن الشمال أرض قاحلة جدًا. لكن، بما أنه لا توجد عبودية هناك… ربما تكون الحياة أهون قليلًا.”
سألته بنبرة مترددة:
“إذن… هل انتهى بك الأمر إلى هذه الحالة لأنك حاولت حماية تلك الفتاة؟”
ضحك كواناش بمرارة.
“مهلًا، يمكن القول إنني نلتُ عقابًا على فعلٍ يتجاوز قدري.”
“كيف يمكن أن يكون ذلك…؟ لقد قمت بما هو صائب. لا بد أن الأمر مؤلمٌ لك جدًا.”
تمتم كواناش:
“مملكة فيرنين فاسدة حتى النخاع.”
قالها بلهجة باردة، وكأن الأمر لم يعد يستحق الغضب.
لقد عاش حياةً قاسية حدّ أن الظلم لم يعد يثير فيه سوى مرارة عابرة. وما حدث مؤخرًا، رغم قسوته، لم يكن سوى جزء صغير من سلسلة مآسٍ طويلة عاشها.
ويوسفير شعرت بذلك؛ ظهر الحزن في عينيها. هي أيضًا كانت تحمل ندوبًا داخلية بسبب نظرات الناس واحتقارهم لها باعتبارها “مستيقظة ناقصة”.
فالجرحى يتعرفون إلى بعضهم.
اقتربت يوسفير بخطوات حذرة من كواناش، وهي تشكر في داخلها أن ثوبها قصير بما يكفي ليسمح لها بالجلوس القرفصاء بجواره.
كان ذلك فعلًا غير لائق بأميرة. بعيدًا عن كل قواعد الآداب… بل متهورًا أيضًا. لكن لقاءها بكواناش أثار فيها مشاعر لم تعرفها من قبل.
وما إن جلست بجانبه حتى ارتجف كواناش بشدة والتفت إليها.
“م-ماذا تفعلين؟ لماذا جلستِ بجانبي؟!”
كتم أنفاسه من شدة التوتر. فرؤية يوسفير عن قرب جعلته في ذهول. كانت بشرتها صافية تكاد تكون شفافة، وعيناها بلون أخضر فاتح يفيض بالنعومة.
بدت في نظره كاملة، بلا أي عيب. أميرة من قصص الخيال، لا يجرؤ أمثاله حتى على النظر إليها.
مع كل نفسٍ كان يشم عبيرًا عذبًا منها لم يظن أن البشر يمكن أن تفوح منهم رائحة كهذه.
فتحت يوسفير شفتيها بصوتٍ خافت:
“أشعر أن الظلم موجود في كل مكان… وأن هناك دائمًا من يعاني.”
لم يرد.
“أود أن أساعدك، لكنني بلا أي قوة… وفوق ذلك فأنا من بلد آخر.”
“لم أطلب المساعدة.”
“مع ذلك… قلبي لا يطيق الأمر.”
ليخفي اضطرابه قال بحدة مصطنعة:
“ما أضعف قلبكِ. لم أرَ أحدًا يصغي لعبدٍ مثلي كل هذا الوقت… بل ويجلس بجانبه غير آبهٍ برائحته.”
رغم ذلك، في أعماقه كان يشعر بالفرح.
كلماتها ودفؤها كانا كالمطر بعد جفاف طويل، بلل قلبه الذي لم يعرف يومًا الحنان. لكنه لم يستطع تقبُّل ذلك بسهولة… فارتبك، وابتعد قليلًا عنها.
(قلتُ ما يكفي، ستغضب الآن… ربما تنهض وتغادر.)
لكن يوسفير خالفت توقعاته. مدّت يدها إليه بمنديلها.
“… لماذا تعطيني هذا؟”
أشارت إلى فمها بأصابعها الصغيرة، في إشارة إلى أن يمسح الدم من شفتيه.
تردد قليلًا، ثم أخذ المنديل. كان ناعمًا للغاية ويفوح بعطر يشبه رائحة الزهور.
(هل يليق بي أن أضع شيئًا كهذا على فمي؟)
شعر أن قطعة القماش الصغيرة أسمى منه قيمة. ومع ذلك، مسح بها الدم الجاف على شفتيه، فسرعان ما تلوث المنديل الفاخر.
تمتم كواناش:
“الآن لم يعد صالحًا للاستعمال.”
“يمكنك الاحتفاظ به.”
تردد لحظة ثم سألها:
“لكن… لماذا تأتي امرأة مثلكِ إلى إسطبل قذر كهذا؟”
ابتسمت: “امرأة مثلي؟”
“يكفي النظر إليكِ… تبدين كأميرة عظيمة.”
“حقًا؟”
مالت برأسها باستغراب، كأنها لم تفهم قصده. أما كواناش فتعجب أكثر من ردها.
(هل تجهل جمالها؟ هي تجسيد للنبل ذاته… وجودها يجعلني أشعر أنني أحقر إنسان في الدنيا.)
كل حركاتها وحديثها كان يحمل وقارًا طبيعيًا. ورغم أنها أصغر منه سنًّا، إلا أنه شعر وكأنها تعلوه كثيرًا.
دقات قلبه تعالت بعنف، جسده كله في فوضى لم يعهدها من قبل.
وعيناها، وهما تحدقان فيه بلطف، زادتا ارتباكه.
الناس كانوا إما يحتقرونه لأنه عبد، أو يخشونه لقوته بين العبيد. لكن نظرات يوسفير لم تكن هكذا ولا هكذا.
وهذا أربكه أكثر.
“هل يجوز لأحد مثلي… عبدٍ حقير… أن يتحدث معكِ؟”
ابتسمت بخفة:
“لا يجوز بالطبع. لكن بما أنه لا أحد هنا، فلا بأس. على كل حال، أنت تعاملني وكأنني أميرة بالفعل، أليس كذلك؟”
“… هل أنتِ حقًا أميرة؟”
رفع بصره المرتبك إليها. لم تجب، لم تؤكد ولم تنفِ. خيّم صمت غريب بينهما.
قلبه يخفق بعنف، والحمّى تكاد تفتك به. ومع ذلك، شعر بالراحة بجوارها، أكثر بكثير مما شعر به وهو يُساق كالسلعة على يد دياكويت التاجر.
الغريب أن فتاة غريبة تمامًا عنه، وأصغر حجمًا منه بكثير، لم تبدُ مخيفة له.
تمتم بقلق:
“طريقة كلامكِ لا تشبه الأطفال أبدًا. سمعت أن أميرة من أكايا جاءت إلى هنا… لا تقولي إنكِ…”
ابتسمت بخفة:
“يبدو أنكَ سمعت عني.”
ارتجف صوته:
“… هل سيقبضون عليّ بتهمة العصيان؟”
كان يظنها مجرد فتاة نبيلة، لكنه الآن يواجه حقيقة أنها أميرة حقًا. وهذا جعل وجودها أثقل عليه أكثر.
(هل صحيح أن النسب يصنع الفرق؟ ربما يولد بعض الناس عظماء فعلًا.)
كانت يوسفير تجسد صورة الأميرة التي وُلدت لتكون كذلك.
(لكن أي أميرة تجلس هكذا بجوار عبدٍ مثلي؟ بل وتعطيني منديلها؟)
لمح ارتباكه، فضحكت فجأة.
“القبض عليك؟ بالطبع لا.”
انتشر صوت ضحكتها في الإسطبل.
في تلك اللحظة، نسي كواناش كيف يتنفس. مع ابتسامتها، بدا وكأن نورًا ساطعًا انبعث حولها. كانت ابتسامة كزهرة تتفتح، رشيقة وجميلة.
حين تكون صامتة، بدت صارمة قليلًا، لكن ضحكتها غيّرت الجو كله.
كواناش أمسك صدره بيده، يحاول كبح دقات قلبه الجامحة. جسمه المتألم من الضربات يئن، الحرارة تتصاعد من جبينه، وجفونه تؤلمه… لكن النظر إلى يوسفير جعل كل ذلك يشتد أكثر.
قالت بهدوء:
“لا تقلق. لن أخبر أحدًا بما جرى هنا. ولا داعي لتتكلّف أمامي.”
“لكن لماذا…؟”
“لأنني لست مميزة ولا عظيمة كما تظن.”
قالتها بنبرة حزينة.
كواناش لم يستوعب ما سمع.
“ماذا… تقولين؟”
وبلا شعور استخدم الألقاب الرسمية معها:
“ما الذي تعنينه يا مولاتي؟”
ضحكت من جديد:
“قلت لك، لا داعي للألقاب.”
ازداد رأسه دورانًا. شعر كأن الهواء يضيق عليه.
حين تبتسم يوسفير، كان دم كواناش كله يغلي في عروقه حتى يشعر بالألم.
يتمنى أحيانًا لو أنها لا تبتسم، ومع ذلك… يتمنى في الوقت نفسه أن يرى تلك الابتسامة إلى الأبد.
رغم إدراكه أنها مجرد أحلام عقيمة.
ظلت يوسفير تحدّق بصمت في كواناش الضخم المرتجف، ثم قالت بصوت شاحب حزين:
“أنا بلا قوة، رغم مقامي العالي.”
“لماذا؟”
“من يدري… ربما الحاكم قد تخلّى عني.”
“لا أظن ذلك…”
(أن يختارها الحاكم فهذا ممكن، لكن أن يتخلى عنها؟)
كواناش أراد أن يعترض، أن يقول إن ذلك غير صحيح، لكن لسانه كان أثقل من أن ينطق. كل ما شعر به هو حيرة عميقة: كيف لامرأة تبدو كاملة بهذا الشكل أن تحمل فكرة كهذه؟
ظلال قاتمة مرّت على وجه يوسفير، لكنها سرعان ما تلاشت، ثم غيّرت الموضوع.
“بالمناسبة، إلى متى ستبقى هنا؟”
“لا أعرف. ربما… حتى يهدأ غضب ذلك الوغد فينن.”
“فينن… هو من فعل بك هذا؟”
“نعم. قائد جنود العبيد.”
“أليس هناك مكان يمكن تقديم شكوى إليه؟”
ضحك بمرارة:
“ومن سيصغي لعبد؟”
في الواقع، الغريب أن يوسفير ـ وهي من سلالة ملكية ـ تجلس كل هذا الوقت لتتبادل الحديث مع عبد مثله.
تنهدت بخفة وقالت:
“أعلم أن هذا ليس بلدي، لكن… يبدو أن نظام الطبقات في فيرنين فاسد جدًا.”
قال كواناش باستهزاء:
“قلت لكِ، هذه المملكة فاسدة حتى النخاع. لو زالت من الوجود لما ندمت لحظة.”
كان يرميها ككلمة ساخرة، لكن يوسفير تلقّت كلامه بجدية أكبر مما توقع.
التعليقات لهذا الفصل " 56"