بينما كان فتى يتدحرج في إسطبل، غارقًا في اليأس والألم لليوم الثاني على التوالي، كانت فتاة تبحث عن مكان تختبئ فيه.
إنها يوسيفر.
لقد وصلت هي أيضًا إلى جبال رادونيا للمشاركة في حملة إبادة الوحوش.
القوة التي أرسلتها أكايا تجمعت في القلعة التابعة لمملكة ستندال القريبة من الجبال. مملكة ستندال كانت موطن والدة يوسيفر الأصلي.
مملكة صغيرة ذات تعداد سكاني قليل. حتى بعد وفاة والدتها، استمر والدها في الحفاظ على تحالف مع ستندال، بل وأرسل إليها متطوعين عسكريين.
كانت أكايا منطقة تعج بالوحوش أكثر من أي مكان آخر بعدة أضعاف، ولم يكن هناك جنود يبرعون في مقاتلة الوحوش مثل جنودها.
أما دياكويت، فعندما علم أن أهل الجنوب قادمون للمشاركة في الحملة، قاد بنفسه القوات المساندة وتوجه إلى ستندال.
وربما كان هدفه أيضًا أن يعقد روابط سياسية مع الجنوب. فمنذ ذلك الحين، كانت طموحات دياكويت السياسية واضحة وكبيرة.
أما عن السبب الذي دفعه لأخذ يوسيفر معه إلى ستندال، فكان بسيطًا للغاية:
> [“نحن أهل الأطراف لا تتاح لنا فرصة لقاء الجنوبيين كثيرًا. من يدري، ربما يمكن أن نجد لكِ زوجًا جيدًا هناك. اهتمي بمظهركِ، على الأقل ليقع نظر أحدهم عليك.”]
صحيح أنها مستيقظة لكنها لم تكن تملك قوة تُذكر، ولذلك كان أقصى قيمة لها أن تحظى بزوج جيد.
كان عمرها لا يزال صغيرًا للزواج، لكن ذلك لم يكن يعني شيئًا لدياكويت. في نظره، ما دامت قد بلغت، فما المشكلة؟
لكن يوسيفر، ومنذ وصولها إلى قلعة ستندال الملكية، التزمت الصمت، الأمر الذي أثار خيبة أمل واضحة لدى دياكويت.
كان يظن أنه على الأقل كان عليها أن تتودد وتكسب بعض العلاقات، أما تصرفها كدمية فقد أزعجه كثيرًا.
هربت يوسيفر من إلحاح وضغط أخيها، وغادرت غرفتها. وأثناء تجنبها لأنظار دياكويت والآخرين، انتهى بها الأمر في ركن قصي.
لم يكن المكان حيث تُربى خيول الملك، بل إسطبلًا للجنود العاديين. وكان المكان رثًّا إلى حدٍّ ما.
> [“هنا، لن أجد أحدًا.”]
تنفست يوسيفر الصعداء ودخلت الإسطبل.
لكنها لم تكن وحدها.
هناك، في زاوية الإسطبل، كان رجل جاثمًا على نفسه.
ارتبكت يوسيفر وكادت تصرخ. لكنها تذكرت أنها جاءت تبحث عن مكان تكون فيه وحدها، فلا أحد بقربها. ولو رآها أحد على هذه الحال مع رجل غريب، ربما اتُهمت بما يُخجل.
ارتجفت وتراجعت خطوة إلى الوراء، فأصدرت صوتًا خافتًا.
ورغم أن الصوت كان ضعيفًا، إلا أن الرجل، كواناش، استيقظ فورًا وقفز واقفًا.
“آه…”
تشبثت يوسيفر بطرف فستانها بين يديها ووقفت متوترة. بدا كواناش في نظرها شديد الريبة.
ملابسه بالية وممزقة، ومن بين شقوق القماش بدت بقع الدم اليابس.
شعره الأسود المموج كان طويلًا ومتوحشًا، كأنه لم يقصه منذ زمن. غطت غُرَّته الطويلة نصف وجهه، ولم يظهر بوضوح إلا شفاه متشققة ووجنتان مليئتان بالجروح والدم المتجلط.
> [“هل هو عامل هنا؟”]
تساءلت في نفسها. لكنها سرعان ما رفضت الفكرة؛ فمظهره رث جدًا ليكون من خدم القصر. حتى أدنى العاملين في القصر كانوا مطالبين بارتداء لباس لائق.
أما هو، فكان أقرب إلى متشرد.
> [“وفوق ذلك يبدو مصابًا… لماذا كان نائمًا هنا؟”]
قررت يوسيفر أنه ربما لم يكن شخصًا خطرًا.
فالقلعة آنذاك كانت مكتظة بجيوش الحملة الكبرى، والحراسة مشددة بحيث لا يمكن أن يتسلل غريب مريب.
ثم إنها لم تره خطرًا بقدر ما رأته بائسًا.
“ذاك…”
نادته بلا شعور.
لقد كانت لحظة نادرة، حيث تجرأت يوسيفر ــ تلك التي كانت دومًا خجولة وجبانة في حياتها السابقة ــ على الحديث.
لقد رأت في كواناش المجروح والمنبوذ صورة تعكس ضعفها هي أيضًا. كانت تعتقد أنها الأضعف في هذا المكان، لكنها وجدت من هو أكثر بؤسًا منها، فانبثق في داخلها شعور بالشفقة.
ومن هنا بدأ كل شيء.
في اللحظة التي تحلت فيها يوسيفر بشجاعة غير معهودة، كان ذهن كواناش قد غمره بياض فارغ.
حدق فيها، مأخوذًا للحظة.
وبينما التقت عيناهما، ظن لبرهة أنه يحلم.
ذلك أن وجودها في هذا الإسطبل الرث بدا غير واقعي. كانت كأنما محاطة بهالة مضيئة.
لقد مر يومان منذ أن تُرك كواناش في الإسطبل. جسده المثخن بالجراح كان يغلي بالحمى، ولم يذق خلالهما خبزًا ولا حتى ماءً.
في وضع كهذا، لم يكن غريبًا أن يرى هلاوس.
“هل… هل أنت بخير؟”
حتى لحظة سماع صدى صوتها النقي مرة أخرى، كان واثقًا أنها مجرد سراب.
ثم رفع جسده المتعب ببطء، وحدق بها قائلاً بصوت متقطع:
“…من أنتِ؟”
شعر كأن حنجرته تتمزق بمجرد أن نطق. وسعل بعنف. ثم تف! وبصق الدم الذي ملأ فمه على الأرض.
ارتعشت يوسيفر وقالت بصوت مرتجف:
“دم… دم يخرج منك…”
“…”
“إلى أي فرقة تنتمي؟ هل أصبت؟”
ندمت لأنها دخلت، لكنها لم تستطع أن تترك جريحًا يعاني أمامها وتغادر.
كواناش تمايل قليلًا بعد السعال، ثم هوى جالسًا على الأرض، يلهث بحرارة.
لم يكترث لوجودها ولا اتخذ أي موقف لائق، الأمر الذي كان صادمًا ليوسيفر . فقد كانت المرة الأولى التي تواجه فيها شخصًا يتصرف هكذا بلا مبالاة.
رمقها كواناش بنظرة سريعة ومسح الدم عن شفتيه بظهر يده الخشنة.
> [“ما الذي تفعله فتاة من النبلاء هنا؟”]
بدا من ملامحه أنه من أهل الشمال. ورد فعل يوسيفر المذعور لم يَرُق له.
> [“حق لها أن تنفر. فتاة رقيقة مثلك، هل رأت يومًا شخصًا مثلي؟”]
ابتسم في داخله بسخرية مريرة، ثم قال بحدة:
“ليس شأنكِ. لا تتدخلي واخرجي.”
“لكن… أظن أنه من الأفضل أن تتلقى علاجًا.”
“قلت لا تهتمي بي. لماذا تزعجينني؟”
خطر بباله أن كلماته الوقحة قد تجر عليه تهمة التعدي على النبلاء، لكنه لم يكترث.
فليُضرب من جديد حتى يسقط. حياته منذ البداية لم تكن سوى سلسلة من المعاناة.
ترددت يوسيفر، لكنها لم تستطع أن تدير ظهرها لرجل يتنفس بصعوبة أمامها.
“كيف أستطيع أن أترك من يبدو وكأنه سيسقط في أي لحظة…؟”
“وأنتِ؟ لماذا دخلتِ هنا وحدك؟ لقد أيقظتِني من نومي!”
كلما ازداد وقاحته، ازداد اضطراب عينيها. لكنه لاحظ أمرًا غريبًا:
> [“لماذا لا تغضب؟”]
كانت صدمتها واضحة، لكنها لم ترد بعنف.
حتى الآن، كان يُتوقع منها أن تدوسه وتحتقره كعبد قذر.
> [“لابد أنها فتاة ضعيفة الخلق. ملامحها تقول كل شيء.”]
ظل يحدق فيها بينما لم تُبدِ أي رفض أو زجر.
> [“يا للعجب… كم هي صغيرة! لو لمستها بأصبعي لتكسرت. وعيناها؟ كأنها عينا غزال.”]
وبينما كان يتأملها من بين خصلات شعره الطويلة التي تغطي عينيه، كانت يوسيفر هي الأخرى غارقة في شعور غريب.
فللمرة الأولى في حياتها، واجهت من يتحدث إليها بوقاحة مباشرة.
صحيح أن الجميع كانوا يعتبرونها عديمة النفع، حتى وإن كانت مستيقظة ، لكنهم كانوا يتظاهرون باحترامها كأميرة.
إلا أن ذلك النفاق ــ القول الحلو في وجهها والطعن خلف ظهرها ــ كان يخنقها أكثر فأكثر.
ولهذا، بدا لها هذا الفتى الذي يتحدث معها بوقاحة صريحة أكثر راحة. على الأقل هو لا يلبس قناعًا أمامها.
اقتربت بحذر من كواناش المتهالك على الأرض.
“ماذا تريدين؟”
انتفض قليلًا وهو ينظر إليها. فأخرجت مناديلها الصغيرة بعفوية ومدتها نحوه.
كانت يوسيفر واقفة، بينما كان كواناش جالسًا، لكن مستوى أعينهما كان شبه متقارب.
حدق كواناش في المنديل بذهول.
“لماذا تعطيني هذا؟ لأمسح به وجهي؟”
أومأت يوسيفر برأسها.
“هـ… هه، امرأة مضحكة. لا حاجة.”
أدار كواناش رأسه بعنف، لكنه شعر باضطراب غريب في صدره.
فهو لم يتحدث يومًا مع امرأة عن قرب كهذا.
> [“ما هذا؟… من مسافة قريبة تبدو عيناها أكبر. وهذا العطر… هل جميع نساء النبلاء تفوح منهن هذه الرائحة؟ بينما أنا… لا بد أن رائحتي الآن كريهة للغاية. اللعنة.”]
عند رفض كواناش، أعادت يوسيفر يدها مع المنديل بحرج، ثم قالت:
“…لا أعرف ما قصتك، لكنني أيضًا جئت إلى هنا فقط لأبحث عن مكان أكون فيه وحدي.”
“سيئ الحظ إذن، فالمكان فيه نزيل قبلك. من الأفضل ألا ترتبطي بي. وإلا قد ينالكِ سوء.”
“ولماذا؟”
“أما ترين؟ أنا عبد مُهان.”
وأشار إلى نفسه بإصبعه مبتسمًا بسخرية.
ففتحت يوسبيا عينيها دهشة.
إذ لم يكن في الشمال نظام عبودية، وكانت تلك المرة الأولى التي تلتقي فيها بعبد.
“لقد تُركت هنا كعقاب.”
“عقاب؟”
“أجل… كان أحد الفرسان يحاول الاعتداء على خادمة صغيرة جاءت معي، فاعترضت طريقه… تبا. لماذا أحكي مثل هذا الكلام لامرأة أراها لأول مرة.”
أنهى كلامه بسرعة.
فمن منظور النبلاء، المخطئ ليس الفارس، بل العبد الذي تجرأ واعترض طريق سيده.
لم يكن غريبًا لو أن الفتاة أمامه شعرت بالاشمئزاز من كلامه وغادرت.
لكن يوسيفر همست، وصوتها يرتجف:
“أهذا صحيح؟ فارس يفعل ذلك وهو لا يعرف معنى الشرف…؟”
ارتبك كواناش للحظة وتصلب مكانه، ثم أطلق ضحكة صغيرة قصيرة.
لقد كان ردها مثاليًا لدرجة السذاجة، كأنها تتكلم من كتاب. وهذا جعلها أكثر إثارة لاهتمامه.
ثم قال بنبرة يائسة ساخرة:
“الشرف هو ما يُحفظ تجاه البشر. أما العبيد… فهم ليسوا بشرًا، بل مجرد أشياء.”
التعليقات لهذا الفصل " 55"