عندما سألتُه مجدداً، تحركت تفاحة آدم البارزة في عنق كواناش ببطء. ثم نطق بصوت منخفض مبحوح، متثاقلاً في كلماته:
“لأنني… أردت أن أراك.”
“كان بإمكانك أن تأتي لتراني فحسب.”
“ظننتُ أنك ستشعرين بعدم الارتياح لرؤيتي. كما أنني لم أكن أملك وجهاً يسمح لي بذلك.”
“على الأقل أنتَ مدرك لهذا.”
قلتُها بنبرة حادة بعض الشيء، على غير عادتي. فتنحنح كواناش عدة مرات، وساد الصمت لحظة.
ضوء صغير مضاء في غرفة النوم انعكس على ملامحه الحادة والصلبة. وعلى وجهه القاسي راحت تتصاعد مشاعر مختلفة وتختفي، كرذاذ نار متقلب.
كان يبدو وكأن لديه ما يريد قوله. فبقيت أنظر إليه بهدوء، منتظرة.
بعد فترة طويلة، قطع كواناش الصمت وقال بصوت متشقق:
“في الآونة الأخيرة، فكرت كثيراً أنني رجل جشع وحقير.”
منذ أول جملة فهمتُ غريزياً. كان يحاول أن يخرج أعماق قلبه، ليكشف نفسه بصراحة.
“حبستكِ هنا بحجة أنني أحميكِ، لكن هل أنا مؤهل لذلك أصلاً؟… أليس كل هذا بدافع أنانيتي فقط؟”
كانت عيناه ممتلئتين بألم واضح.
“كواناش. أعلم أنك فعلت ذلك لأنك كنت قلقاً عليّ.”
“لا. منذ البداية كنت أتساءل: لماذا أطمع بكِ بهذا الشكل، وأنا لا أعرف قدري؟ تلك الفكرة فقط سيطرت علي.”
كان صوته أشبه بمن يسجد أمام تمثال الحاكمة في المعبد ويعترف بخطاياه. ممتلئاً بالندم الحارق.
“سألتِني من قبل، أليس كذلك؟ إن كنا قد التقينا في الماضي.”
“…نعم، فعلت.”
أتذكر. بعد أن استيقظت من الغيبوبة، أثار سلوكه الغريب شكوكي فطرحتُ ذلك السؤال. أنكر عدة مرات، ثم أجاب مكرهاً:
“لقد كان منذ زمن بعيد. ليس عليك أن تتذكري. أُفضل ألا يتبقى ذلك المشهد في ذاكرتك… لقد كنتُ بشعاً للغاية.”
حينها لم يبدُ راغباً في قول المزيد، فلم أستطع أن أضغط عليه.
“لقد التقينا منذ زمن بعيد، في وقت لم تكوني تعرفين حتى اسمي…”
لكن الآن أخيراً فتح كواناش فمه.
شعرت بالمفاجأة والارتباك في الوقت ذاته.
حتى بعد حياتين كاملتين، لم يكن كواناش حاضراً في أي منهما.
“متى كان ذلك؟”
مددتُ يدي ووضعتها فوق يده. فتفاجأت.
فحرارة كواناش كانت دائماً كالنار، لكن الآن كانت يده باردة كالثلج. كان متوتراً بشدة.
جسده الراكع على ركبة واحدة بجانب السرير كان متجمداً.
“من الطبيعي ألا تتذكري. بل في الحقيقة، لم أرد أبداً أن تتذكري.”
“ولماذا…؟”
“لأنني كنتُ حينها بائساً وقذراً إلى درجة تجعل مجرد بقائي في ذاكرتك ذنباً.”
إنها نفس الكلمات التي قالها من قبل.
“ما الذي تقوله؟ هذا مستحيل.”
تحركتُ لأقترب منه أكثر. حتى أنني هممت بالنزول من السرير والجلوس بجواره، لكنه أوقفني بلطف. ثم تحدث بصوت كئيب:
“كنت أرغب أن أكون رجلاً يليق بكِ. رجلاً يستحق حبكِ… لذلك انشغلت بتزيين نفسي بادعاءات زائفة. لكن يبدو أن كل ذلك كان بلا جدوى.”
ظننت أنني بعد أن عشت حياتي الثانية أدركت الكثير. لكنني لم أعلم أبداً أن كواناه كان يحمل في قلبه مثل هذه المشاعر حتى الآن.
ربما كان عمق قلب هذا الرجل أعظم مما توقعت.
ارتجف صدري. قلبي كان يخفق بعنف. كلمات كواناش المليئة بالمرارة اخترقت ذهني المربك.
“حتى وأنا أحبسكِ هنا بإرادتي، ألا يبدو أنني ما زلتُ نفس الرجل البائس كما في الماضي؟ لم أتغير كثيراً.”
“…”
“مهما اجتهدت، يبدو أن دناءتي الفطرية لا تزول.”
“كواناش…”
“كلما وقفت أمامكِ شعرت أنني أصغر. حتى أنني عندما استعدت قوتي مؤخراً، لم أستطع إلا أن أفسر ذلك على أنه برهان على أن الحاكمة قد اختارتكِ. وكأنها تؤنبني: لا يحق لحقير مثلك أن يطمع في يوسفير كاتاتيل.”
كان رجلاً هيمن على القارة، لكن الآن، بدا كواناش ضعيفاً منهاراً وهو ينظر إليّ. عيناه كانتا مليئتين بالرجاء، وكأنه يتوسل ألا أتخلى عنه.
مشاعره المتصارعة كانت تنهش قلبه.
متى بدأت تلك المشاعر أصلاً؟
هل كان بيننا دائماً خلل ما؟
عندها بدأ كواناش بسرد القصة التي احتفظ بها طويلاً وحده:
“هل تذكرين جبال رادونيا؟”
—
جبال رادونيا كانت سلسلة جبلية تفصل جنوب القارة عن شمالها.
كواناش. في ذلك الوقت لم يكن يحمل لقب “رادون”، بل كان مجرد فتى في السابعة عشرة من عمره، يعيش كعبد بائس. وكانت قدماه قد وطأت تلك الجبال لأول مرة.
وهذه كانت قصة من حياته السابقة، قبل موت يوسفير.
—
فجأة، ازداد عدد الوحوش في جبال رادونيا. وبما أن السلسلة تمر عبر أراضي مملكتي فرنن في الجنوب وستاندال في الشمال، لم يكن بإمكان أي منهما التنصل من المسؤولية.
فاتحدت المملكتان معاً لشن حملة إبادة ضد الوحوش. وتم استدعاء كواناش – وهو عبد – كجندي تابع لتلك الحملة.
كان العبيد الجنود مثل كواناش يُزج بهم دوماً في الصفوف الأولى للقتال. مجرد دروع بشرية. موارد لا قيمة لها، موتهم لا يعني شيئاً. تلك كانت مكانته.
لذلك، لم يكن يُعامل كإنسان. على الأقل بحسب معايير مملكة فرنن آنذاك. كان مجرد سلعة عليه أن يثبت قيمته باستمرار. وإذا بلي أو تجرأ أن يتظاهر بأنه ليس سلعة، كان يُرمى بعيداً. هكذا ببساطة.
لكن ذات مرة، دفعه الغضب على الظلم لأن ينسى مكانه لحظة.
“كيف تجرؤ أيها العبد أن تهين اللورد فينن؟”
انهالت عليه ركلات متعددة بينما كان ينكمش على نفسه. لكنه لم يفعل شيئاً سوى إغلاق عينيه وتحمل الألم.
فينن كان القائد المسؤول عن العبيد الجنود الذين أرسلتهم مملكة فرنن إلى جبال رادونيا. وكان أيضاً قريب بعيد للعائلة الملكية. لم يكن يملك الشعر الفضي ولا العيون البنفسجية، سمات الدم الملكي، لكنه اعتمد على نسبه ليتصرف بغطرسة كفارس.
ولذلك، كان يؤمن أنه من الطبيعي أن يأخذ أي جارية تعجبه من بين العبيد. حتى لو كانت طفلة صغيرة.
ففي وضح النهار، حاول أن يعتدي على فتاة لم تتجاوز العاشرة. ولم يجرؤ أحد على منعه.
أن يحاول الاعتداء على طفلة… لا أثر لكرامة الفارس في ذلك. لكن بما أن الضحية لم تكن سوى عبدة جُلبت لأعمال الخدمة، فلم يُعتبر الأمر جريمة أصلاً.
حينها فقط، بينما الجميع يشيحون وجوههم، نهض كواناش.
لم يكن يعرف تلك الفتاة التي كان فينن يمسكها ويرعبها. كانت أول مرة يراها.
لكنه أدرك أن ما يحدث خطأ.
كان يعلم أنه ربما يموت بمجرد أن يتدخل. فقد خالف أوامر عليا، وفينن لم يكن رجلاً رحيماً.
ومع ذلك، تحرك جسده قبل أن يفكر.
باندفاع انتزع الفتاة من قبضته. وكانت نتيجة ذلك الفعل مروعة.
“كيف سأقتلك يا ترى؟”
تمتم فينن وهو يراقب كواناش يتعرض للضرب المبرح من الجنود.
شعر كواناش بفمه يمتلئ بالدم. كان الألم يمزق صدره وكأن أضلاعه تحطمت. تمنى لو يقتلوه حالاً. فما جدوى النجاة؟
لقد عاش حياته كلها مسحوقاً. لم يشأ أن يتخيل المستقبل. كان يؤمن أن الغد سيكون أسوأ من اليوم، وبعد الغد أشد بؤساً، ما دام لم يتحرر من عبوديته.
لم يتعلم الأمل قط. لم يعرف سوى اليأس، وكيف يكبت نفسه، وكيف يمحو وجوده.
التعليقات لهذا الفصل " 54"