بدأ جسدي كله يزداد شفافية شيئًا فشيئًا. ومع ذلك لم أتوقف عن السير. وأخيرًا، عندما وصلت إلى الطفلة——
ومضة.
غُمر كل شيء بالظلام. اختفت الشجرة، والطفلة أيضًا تلاشت.
وفي عمق العتمة، ناداني صوت مألوف سمعته من قبل:
< يوسيفر، أنا أؤمن بخيرك وصلابتك. >
ومن العجيب أنني عرفت على الفور هوية صاحب الصوت…
إنها الحاكم فاهار، سيدة هذا العالم.
< لقد فقدتُ بركتي. لم يعد لدي من القوة ما يكفي لأمنحها لصاحب القدر المولود به. >
اهتز رأسي من وقع صوتها في داخلي.
< أنا كيان وُجد بالإيمان. وفي أرض ضعُف فيها الإيمان… لا أستطيع الاستقرار. لكن أختي شاركتك بعضًا من قوتها، وقد استعدتِ أنتِ بجهودكِ مصيرك. >
إن كانت تقصد أختها، فلا شك أنها تشير إلى الغابة الفضية… حيث ترقد أختها نصف-الحاكمة نصف-البشر.
< سأعصر ما تبقى من قوتي وأبعثها إليك. عليك أن تحميني. >
وبهذا تلاشى صوت الحاكم تدريجيًا وابتعد. وفجأة انفتحت عيناي بقوة.
“أه…….”
رفعت جفوني الثقيلة بصعوبة. كنت مستيقظة، لكن رأسي ما زال مثقلًا وكأنني في ضباب.
ربما لأن أيام الحلم طالت كثيرًا، شعرت لوهلة وكأنني قُذفت في مكان غريب، فارتعبت. لكن سرعان ما استوعبت.
(كان حلمًا…….)
لقد عدت. عدت إلى واقعي، إلى حياتي الثانية مع كواناش.
كان جسدي يؤلمني كله، لكن ليس كالمرض… بل كأن قوة غير مرئية ضغطت عليّ.
خشوع، رهبة، خوف… كل ذلك اجتاحني بلا وعي.
(هل كانت حقًا الحاكم؟ لكن… أنا لست كاهنة، فكيف أسمع صوت الحاكم؟)
قد يكون مجرد حلم صنعه خوفي واضطرابي. لكن صوتها ظل يتردد في أذني بوضوح، كأنها همست بجانبي حقًا.
فكرة أن الحاكم نادتني بدت ضربًا من الكفر، أمرًا لا يُصدَّق.
ومع ذلك… مع تلوث النهر وضعف بركة الحاكم شيئًا فشيئًا في القارة البشرية، ساورتني شكوك متعجرفة وخائفة في آن… ربما طلبت الحاكم مساعدتي فعلًا.
(استعدت مصيري… ما معنى هذا؟ هل كان الحلم كله امتحانًا خططت له الحاكم؟)
لم أستطع معرفة شيء. ومن الطبيعي أن بشرًا مثلي لا يمكنه إدراك قصد الحاكم.
(إنني أجهل الكثير عن الحاكم…….)
لذلك طلبت من ماريان أن تحضر لي من المكتبة أكبر عدد ممكن من الكتب عن الحاكم فاهار.
لا أحد يجهل أسطورة الحاكم التي توصف بأنها خالقة هذا العالم. حتى الأطفال يحفظون أسطورة الخلق. لكنني لم أدرس علم اللاهوت قط، فلم أكن أعرف التفاصيل المتخصصة.
كما اعتدت دومًا، صليت أن تمنحني الكتب بعض المعرفة المفيدة.
—
مضت أيام أخرى وأنا حبيسة الغرفة، أقضي وقتي بقراءة الأساطير والحكايات عن الحاكم فاهار.
لكن في أي منها لم يُذكر أن الحاكم تظهر مرارًا في الأحلام، أو أن هناك طفلة في الأحلام.فقط وجدت في مذكرات بعض الأبطال الذين ظهروا في عصور الفوضى، ادعاءاتهم بأنهم مختارون من الحاكم.
(كلمات كهذه… يقولها كل بطل أو ملك ليجمّل نفسه.)
كان من الصعب تمييز الحقيقة. حتى سلالة فيرنين، السلالة الملكية السابقة، اشتهرت بأن مؤسسها نال بركة الحاكم.
بعد أن قرأت عدة كتب، بدأ اهتمامي يخبو وحلّ بي شعور باللاجدوى. فما جدوى تراكم المعرفة إن لم يكن بوسعي أن أفعل شيئًا الآن؟
إن كان نداء الحاكم ليس وهمًا بل حقيقة… فماذا عساي أن أفعل؟
قالت الحاكم إنها تريدني أن أحميها. لكن كيف أحميها وأنا سجينة بين الجدران؟ لا أعرف حتى ما يحدث في الخارج بالتفصيل.
ولا أستطيع أن أظل أرهق ماريان بالسؤال. فطلب المعلومات منها أشبه بدفعها لمخالفة أمر الإمبراطور، وسيثقل كاهلها.
كنت متأكدة أن أجواء الحرب تخيّم في الخارج… لكن داخل القصر كان كل شيء مسالمًا أكثر مما يجب.
أما كواناش، فعلى الرغم من انشغاله، كان يجد وقتًا يوميًا ليزورني. يسألني باختصار عن حالي ثم يرحل.
لم أُظهر له غضبًا، ولم أتعامل معه بمودة كأن شيئًا لم يكن. فقط كنت أكتفي بهز رأسي بصمت.
لكن حتى هذا الرد البارد كان كافيًا ليجعل كواناش يبدو وكأنه سينهار من الداخل.
التعليقات لهذا الفصل " 51"