قال كواناش وعيناه محمرتان بالدموع. كان صوته ثابتًا، وكأنه يعلن أنه لن يتراجع عن عناده مهما كان.
شعرت بقلبي ينقبض بألم. فقلت بصوت متوسل:
“كواناش، لا… لا تقل هذا رجاءً.”
أجاب وهو يحدق بي بعزم:
“إن كان بوسعي أن أحميكِ بأمان… فسأفعل أي شيء.”
كأن جدارًا سميكًا قد ارتفع بيني وبينه. بدا وكأن لا فائدة من أي كلام أقوله الآن، فقد حسم أمره وسلك طريقًا لا رجعة فيه.
كنت أفهم شعوره… كدت أموت بالفعل، فلا بد أنه قلق. لكن ربما لهذا السبب بالذات شعرت بالاختناق أكثر.
ومع ذلك، لم أستطع القبول بأن يحبسني هنا هكذا.
“حتى لو قلت لك… إنني لا أريد ذلك؟ حتى لو كنت أرفض… بكل كياني؟”
توسلتُ بصوت مرتجف، لكن كواناش، وقد التوى قلبه بالفعل، لم يتأثر.
“لقد أعددت نفسي سلفًا… لأن أُبغَض منك.”
“كواناش!”
نهض من وضعية الركوع التي كان فيها. وقف جسده الضخم أمامي، فألقى ظلًا أسودًا غطى جسدي بالكامل.
شدّ على فكّه المرتعش وبدأ يكبح مشاعره بسرعة. شيئًا فشيئًا جفّت الرطوبة من عينيه، حتى صارت نظراته صلبة وقاسية.
قال بصوت جاف وحاد:
“الخارج في غاية الخطورة. عليك البقاء في القصر الإمبراطوري حتى تُحَل الأمور.”
“…….”
“سامحيني.”
كانت مجرد اعتذار شكلي لا أكثر. ثم استدار بخطوات ثقيلة وغادر الغرفة.
أُغلِق الباب، وبقيت وحيدة تمامًا.
أنفاسي كانت متلاحقة، ويدي تشدّان على ركبتيّ. كان دفء كواناش الذي التصق بجلدي ما يزال عالقًا في جسدي.
ذهني كان في فوضى عارمة. إن بقيتُ حبيسة هنا، فلن يختلف ذلك عن حياتي في حياتي السابقة.
(لكن… ماذا عساي أفعل؟)
هل يمكنني إقناع كواناش؟
لقد كان يغلي غضبًا وقلقًا. ولن يستعيد برودة عقله بسهولة. تذكرت تلك النظرات المليئة بالاضطراب والجنون التي لمعت في عينيه قبل قليل.
أعرف أن دافعه مختلف عن دياكويت (من حياتي السابقة)… فـكواناش يريد حبسي لأنه يحرص عليّ ويخشى عليّ. لكن…
مهما كان، فهذا القصر لم يكن سوى سجن فاخر ومترف. وكواناش رادون لم يكن سوى قيدٍ لطيفٍ مغلف بالحنان.
—
مرّت أيام أخرى وأنا محبوسة في الغرفة. منذ نجاتي من محاولة التسميم، تغيّر كل شيء.
كواناش رادون الذي انقلب تمامًا، والناس من حولي الذين صاروا يتعاملون معي بحذر شديد.
وحتى ليالي نومي المليئة بالغيبوبة لم تسلم من التغيير.
< يوسيفر. >
صوتٌ كان يتردد دومًا في أحلامي. نفس الصوت الذي سمعته حين كنت أحتضر من أثر السم.
لم يكن هناك سوى ظلام دامس بلا اتجاه أو حدود. ومن عمق ذلك الفراغ اللامتناهي، كان صوتٌ خافت يناديني.
< يوسيفر …… >
لم أكن أعرف مَن صاحب الصوت. وهكذا تكرر الحلم ذاته لعدة أيام.
وفي الليلة الثالثة، قررتُ أن أتبع الصوت وأخطو بلا وجهة. عندها بدأ السواد ينقشع تدريجيًا، حتى ظهر شكل باهت.
(شجرة البتولا…؟)
مستحيل أن أخطئها. تلك الشجرة التي رُبِطت إليها روحي لسنوات طويلة بعد موتي في حياتي السابقة.
الشجرة التي كانت رفيقي الوحيد.
(ما الذي يجري هنا؟)
وقبل أن أستوعب، تبدلت المشاهد فجأة. انقشع الظلام، وظهرت أمامي مناظر مألوفة.
“آه…….”
نعم، كان ذلك المكان.
المكان الذي قُتلت فيه.
الطريق حيث عُلّقتُ كروح عاجزة لا حول لها.
فجأة اجتاح جسدي برد قارس. تحسست نفسي بهلع، لأجد أنني أرتدي نفس فستان الزفاف البالي الذي متُّ فيه في حياتي السابقة.
كان كل شيء حيًّا لدرجة أن حياتي الثانية بدت لي وكأنها حلم بعيد.
(لا، مستحيل… كنت نائمة فقط. هذا حلم… لا بد أنه مجرد حلم……)
لكن كما عدتُ طفلة فجأة في حياتي السابقة، فقد يكون الزمن قد عاد للوراء من جديد. ومن قال إن ما حدث مرة لا يمكن أن يتكرر؟
ارتجفت أفكاري من هذا الاحتمال المرعب.
ناديت الشجرة باضطراب:
(ما الذي يحدث؟ لا أفهم لماذا أنا هنا. كـ… كواناش، أين هو؟)
وبفعل خوفي، فكرت غريزيًا في كواناش. فجاءني صوت الشجرة مألوفًا، يهمس:
< كواناش في ساحة الحرب. أنت تعلمين ذلك. قيل إنه يثور هناك كالمجنون. >
(……ماذا؟)
وعلى جانب الطريق بجوار الشجرة، مرّت قافلة جيش الاتحاد الشمالي. كانوا منهكين من حربٍ طويلة، والجنود تنبعث منهم رائحة الحزن والألم.
وفجأة اندفع رسول مسرعًا وهو يصرخ:
“أبلغوا الكتيبة الثانية! ا… الأمير جينر……!”
جينر. أخي الصغير.
كان هذا نعي موته.
في حياتي السابقة، شارك في الحرب ومات وهو في الخامسة عشرة. وكل شيء أمامي كان يتكرر كما رأيته من قبل.
(لا… لا يمكن أن يكون…)
< يوسيفر، ما بك؟ >
(لا يجب أن أكون هنا. لقد حصلتُ على فرصة أخرى، أليس كذلك؟ التقيت كواناش مجددًا، بل وتزوجته كي أمنع اندلاع الحرب…!)
< ماذا تقولين؟ ربما كنتِ تحلمين فقط. حلم طويل جدًا. >
(……حلم؟)
كلام الشجرة بدا منطقيًا بدوره. ربما كنت أتوق للهروب من هنا بشدة… فخلقت حلمًا طويلًا في عقلي.
تذكرت حينها كلمات كواناش الدافئة، حرارته، حنانه…لكن ما إن خطر لي أن كل ذلك قد يكون مجرد وهم من خيالي، حتى انفجرت عاطفتي واغرورقت عيناي بالدموع. حتى شجاري الأخير معه بدا بعيدًا أمام مرارة هذا الشعور.
< إن بقيتِ هنا وانتظرتِ، قد تحلمين بذلك الحلم مجددًا، أليس كذلك؟ >
بقيت جامدة، أعيد كلمات الشجرة في ذهني، وقلبي يثقل بفكرة أن حياتي الثانية كلها ربما لم تكن سوى وهم صنعته نفسي.
الزمن راح يمر سريعًا بشكل عجيب. لم يعد الجنود يظهرون على الطريق، وتعاقب الليل والنهار مرات. ومضت أيام أخرى.
وفي يومٍ، وأنا غارقة في خوفي من أن تكون حياتي الثانية كلها مجرد وهم، ظهرت فجأة على طرف الطريق طفلة صغيرة.
دهشت. كيف لطفلة أن تمشي وحدها وسط هذه الحرب؟
كان ثوبها مجرد خِرَق، وشعرها الطويل متشابك، وقدماها الحافيتان مغطاتان بالدماء.
أردت بكل قلبي أن أساعدها، لكنني كنت مجرد روح معلقة بالشجرة. لن تستطيع أن تراني أو تلمسني.
وبينما كان إحساس العجز يثقلني كما في حياتي السابقة، رفعت الطفلة رأسها وحدّقت مباشرة نحوي.
“أرجوكِ…… ساعديني.”
سمعت صوتها الضعيف.
“أ… أنت ترينني؟”
أومأت برأسها قليلًا، ثم هوَت على الأرض فاقدة الوعي.
ركضت غريزيًا نحوها، لكن صوت الشجرة صدني:
< يوسيفر. أنت تعلمين. لا يمكنك مغادرة هذا المكان. >
(ربما أستطيع الوصول إلى حافة الطريق هذه المرة!)
< لا أنصحك بذلك. >
(لكنها رأتني! هذه أول مرة يحدث ذلك! لا أستطيع أن أتجاهلها… أريد مساعدتها.)
نزلت من بين أغصان الشجرة. كان فستان زفافي البالي يجرجر على الأرض.
خطوت خطوة بعد أخرى نحو الطفلة. وكلما ابتعدت عن الشجرة، أحسست أن ساقي تثقلان وأن صدري ينضغط.
في حياتي السابقة حاولت مرارًا أن أنفصل عن الشجرة… لكن قوة مجهولة كانت دائمًا تسحقني وتعيدني.
“آه…….”
تأوهتُ وأنا أحدق بالطفلة الممددة.
(أليس من الغريب أن أشعر بألم، وأنا لست سوى روح بلا جسد؟ هذا كله وهم من عقلي إذن. وبما أنه وهم… أستطيع التغلب عليه.)
أقسمت في نفسي، وواصلت التقدم.
(أستطيع الخلاص. لست مقيدة… لا شيء يربطني. سأفعلها… أستطيع ذلك.)
لكن كلما اقتربت من الطفلة، اشتد الألم حتى صار جسدي يتفتت، وأطراف أصابعي بدأت تتلاشى.
بدأ جسدي كله يزداد شفافية شيئًا فشيئًا. ومع ذلك لم أتوقف عن السير. وأخيرًا، عندما وصلت إلى الطفلة——
ومضة.
غُمر كل شيء بالظلام. اختفت الشجرة، والطفلة أيضًا تلاشت.
وفي عمق العتمة، ناداني صوت مألوف سمعته من قبل:
< يوسيفر، أنا أؤمن بخيرك وصلابتك. >
ومن العجيب أنني عرفت على الفور هوية صاحب الصوت…
إنها الحاكم فاهار، سيدة هذا العالم.
< لقد فقدتُ بركتي. لم يعد لدي من القوة ما يكفي لأمنحها لصاحب القدر المولود به. >
اهتز رأسي من وقع صوتها في داخلي.
< أنا كيان وُجد بالإيمان. وفي أرض ضعُف فيها الإيمان… لا أستطيع الاستقرار. لكن أختي شاركتك بعضًا من قوتها، وقد استعدتِ أنتِ بجهودكِ مصيرك. >
إن كانت تقصد أختها، فلا شك أنها تشير إلى الغابة الفضية… حيث ترقد أختها نصف-الحاكمة نصف-البشر.
< سأعصر ما تبقى من قوتي وأبعثها إليك. عليك أن تحميني. >
وبهذا تلاشى صوت الحاكم تدريجيًا وابتعد. وفجأة انفتحت عيناي بقوة.
“أه…….”
رفعت جفوني الثقيلة بصعوبة. كنت مستيقظة، لكن رأسي ما زال مثقلًا وكأنني في ضباب.
ربما لأن أيام الحلم طالت كثيرًا، شعرت لوهلة وكأنني قُذفت في مكان غريب، فارتعبت. لكن سرعان ما استوعبت.
(كان حلمًا…….)
لقد عدت. عدت إلى واقعي، إلى حياتي الثانية مع كواناش.
كان جسدي يؤلمني كله، لكن ليس كالمرض… بل كأن قوة غير مرئية ضغطت عليّ.
خشوع، رهبة، خوف… كل ذلك اجتاحني بلا وعي.
(هل كانت حقًا الحاكم؟ لكن… أنا لست كاهنة، فكيف أسمع صوت الحاكم؟)
قد يكون مجرد حلم صنعه خوفي واضطرابي. لكن صوتها ظل يتردد في أذني بوضوح، كأنها همست بجانبي حقًا.
فكرة أن الحاكم نادتني بدت ضربًا من الكفر، أمرًا لا يُصدَّق.
ومع ذلك… مع تلوث النهر وضعف بركة الحاكم شيئًا فشيئًا في القارة البشرية، ساورتني شكوك متعجرفة وخائفة في آن… ربما طلبت الحاكم مساعدتي فعلًا.
(استعدت مصيري… ما معنى هذا؟ هل كان الحلم كله امتحانًا خططت له الحاكم؟)
لم أستطع معرفة شيء. ومن الطبيعي أن بشرًا مثلي لا يمكنه إدراك قصد الحاكم.
(إنني أجهل الكثير عن الحاكم…….)
لذلك طلبت من ماريان أن تحضر لي من المكتبة أكبر عدد ممكن من الكتب عن الحاكم فاهار.
لا أحد يجهل أسطورة الحاكم التي توصف بأنها خالقة هذا العالم. حتى الأطفال يحفظون أسطورة الخلق. لكنني لم أدرس علم اللاهوت قط، فلم أكن أعرف التفاصيل المتخصصة.
كما اعتدت دومًا، صليت أن تمنحني الكتب بعض المعرفة المفيدة.
—
مضت أيام أخرى وأنا حبيسة الغرفة، أقضي وقتي بقراءة الأساطير والحكايات عن الحاكم فاهار.
لكن في أي منها لم يُذكر أن الحاكم تظهر مرارًا في الأحلام، أو أن هناك طفلة في الأحلام.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 51"