سارعتُ بشرح فرضيتي له بسرعة، لكن يبدو أنّ الأمر كان أسرع من اللازم. وقف كواناش متحيرًا قليلًا ثم رفع يده ليوقفني.
“انتظر. فقط لحظة.”
فكّر مع نفسه لمرتين أو ثلاث قبل أن يومئ برأسه وكأنه استوعب الأمر.
“هل استنتجتِ هذا للتو من مجرّد سماع الوضع؟”
“قد لا يكون صحيحًا.”
“لا، بل له وجاهة كافية. كنتُ أفكر أصلًا بمن قد يكون جاسوسًا لرومان.”
“هل هناك شخصٌ ينطبق عليه الشرطان معًا؟ أن يكون قد حقق في رومان، وأنه كان من المرافقين معنا حين ذهبنا إلى نهر فاهار؟”
“…….”
“إن كان الجاسوس يعرف ما فعله رومان بمياه نهر فاهار، فقد يكون قد ارتاب في تنقلاتنا السرية وأبلغ عنها.”
تصلبت ملامح كواناش تدريجيًا، ولم ينبس ببنت شفة، رغم أن شفتيه تحركتا مرتين بلا صوت.
رفعتُ بصري أنظر إلى كواناش، الذي كان يقف شامخًا أمامي. عيناه المرتجفتان بدتا وكأنهما مذعورتان. ببطء مددت يدي وأمسكت طرف كمّه بحذر.
“……كواناش؟”
“آه.”
ارتجف جسده قليلًا ثم أطلق زفيرًا طويلًا.
“هناك شخص خطر ببالي…….”
“من هو؟”
“……جاكسور.”
بمجرد أن سمعتُ الاسم، أدركت فورًا سبب اضطراب كواناش.
جاكسور كان الرجل الذي عاش مع كواناش حياة العبودية منذ طفولتهما المبكرة، وكان رفيق دربه وأخاه في السلاح. لمجرد التفكير بأنه قد يكون جاسوسًا كان ذلك مؤلمًا بما يكفي لكواناش. كان جاكسور واحدًا من القلائل الذين وثق بهم كواناش ثقةً عمياء وأسند ظهره إليهم.
“آه، رب… ربما لا يكون جاكسور. ما زال الأمر مجرد افتراض.”
قلت ذلك محاوِلةً تهدئته بأي شكل. دون أن أشعر، تشبثت بيده بقوة. لقد صرتُ أنا نفسي قلقة.
(مستحيل…… أليس كذلك؟)
صحيح أنني لم أعرف جاكسور شخصيًا، لكن قصصه ذاعت حتى وصلت إلى أطراف الشمال وصارت شهيرة. فقد كان أحد أبرز القادة الذين ساهموا في تأسيس الإمبراطورية الجديدة.
وكانت هناك قصص مشهورة تدل على مدى ولائه العميق لكواناش.
أثناء الثورة، تعرض كواناش مرارًا لأزمات كادت تودي بحياته. وفي كل مرة كان جاكسور يضحي بنفسه لحمايته حتى النهاية.
“لا، لا بد أن نتحقق من الأمر.”
رغم قلقي، استعاد كواناش رباطة جأشه بسرعة مذهلة. عيناه، اللتان كانتا تضطربان، استعادت صلابتهما. أمسك يدي بإحكام وقال:
“في الآونة الأخيرة بالفعل لاحظت أنّ جاكسور تغيّر قليلًا. كما أنّ عودته المفاجئة إلى القصر معلنًا تقاعده كانت غريبة.”
“وكيف…… ستتحقق من ذلك؟”
“إن كان جاكسور جاسوسًا فعلًا، فالأجدى أن نستخدمه بدلًا من أن نقضي عليه مباشرة.”
“نستخدمه؟”
“يمكننا أن نمده بمعلومات كاذبة عمدًا لنوقع رومان في الفخ. سأراقبه أولًا، وأستبعده من الخطوط الأمامية.”
“……هل أنت بخير حقًا؟”
حركتُ أصابعي بقلق داخل قبضة يده. أنا التي طرحتُ احتمال خيانته، والآن لم أستطع كتمان قلقي. ربما كان قلب كواناش ممزقًا رغم مظهره الصارم.
لكنّه قال ببرود:
“لن أترك مشاعري تفسد الأمور.”
“لا، لم أعنِ هذا. كنت أسأل…… هل قلبك بخير؟ فهو من أخلص رجالك.”
“إنه أحد أعز أصدقائي، صحيح. لكن في ساحات الحرب، ليس غريبًا أن تتبدل الأحوال في أي لحظة. وما نحن فيه الآن لا يختلف عن زمن حرب.”
“هل تعتقد…… أن الحرب ستقع فعلًا؟”
ابتلعت ريقي جافة، فيما صور المشاهد المروعة من حياتي السابقة تطفو في رأسي لتعذبني.
“لقد أفلت منا رومان، وعلى ما يبدو فحسب قولك هناك حلفاء أقوياء يدعمونه. أولئك يتوقون لغزو هذه البلاد. ليس مستغربًا أن تندلع الحرب في أي لحظة.”
“لكن…….”
“بل أراه أمرًا حسنًا. سنستغل هذه الفرصة لنكتسح القارة كلها، ونقتلع جذور كل خطر.”
كانت تلك كلمات يائسة بالنسبة لي، أنا التي ناضلت بشتى الطرق لتجنب الحرب.
“كواناش. ستكون حربًا عظيمة مدمّرة. إن اتحد الشمال فلن يكون من السهل هزيمتهم. تضاريسه الوعرة ومناخه القاسي سيكونان وبالًا على جيش الإمبراطورية. ثم إن رومان يعدّ شيئًا ما باستمرار…….”
“أعلم. ستكون حربًا طويلة الأمد.”
قالها بصوت صلب وهادئ، وكأنه جاهز للاندفاع إلى ساحات القتال في أي لحظة.
أدركت مجددًا أن كواناش نشأ منذ صغره جنديًا عبدًا في ساحات القتال، وبلغ ما هو عليه عبر الحرب فقط.
بالنسبة له، قد تكون الحرب أيسر السبل وأكثرها راحة. لا حاجة لصداع المناورات ضد رومان، بل يشعل حربًا ويقاتل حتى يُفنى أحد الطرفين.
سحبتُ يدي من قبضته ببطء. ارتجف قليلًا وهو يطالعني.
“أنا…… أنا أكره الحرب، كواناش.”
“أفهم ذلك. فمن الطبيعي أن تكرهي مواجهة وطنك كعدو. إن كان هناك من تريدين إخراجه من وطنك وجلبه إلى هنا، قولي لي، وسأحاول أن أساعد.”
“لا، ليس لهذا السبب. بل لأنك قد تُصاب…….”
“لم أخسر أي حرب قط. فلا تقلقي.”
“لكنها تظل خطيرة. أنا…… أنا أعرف مدى فظاعة الحرب.”
“القصر سيظل آمنًا. ستحيين هنا حياة هانئة كما في السابق. آه، مع فارق واحد: أنني سأكون أغلب الوقت في ميادين القتال. لكن إن انتظرتِ بضع سنوات فقط…….”
“سيظل القصر آمنًا؟”
قبضتُ يديّ المرتجفتين بقوة. ارتعش كتفاي.
“بينما يموت الناس في الخارج، تقصد أن عليّ أن أتنعم بحياة فاخرة هنا؟”
“يوسيفر.”
“إن اتحد الشمال وهاجم، فستكون حربًا أوسع بكثير من ذي قبل. الآلاف من الشعب سيفقدون حياتهم، وحتى لو انتصرت الإمبراطورية…… فآثار الحرب ستجعل جيلًا كاملًا يعاني.”
“…….”
“بينما أعيش أنا على رفاهية زائفة هنا.”
لم أعد للحياة بعد موتي لأجل متعتي الخاصة.
لم يكن لديّ تعلق بالحياة أصلًا. لم يؤلمني موتي كثيرًا. صحيح أن احتجازي في صورة شبح مقيد بشجرة كان بغيضًا، لكن حياتي في القصر لم تكن أفضل: معاملة محتقرة وعزلة بائسة.
ما كنت أريده هو فقط منع المأساة التي تسببت بها وفاتي.
(إن اندلعت الحرب هذه المرة، سيصير كل شيء أسوأ من حياتي السابقة……)
ارتجفت بشرتي بقشعريرة باردة. كنت قد رأيت بعيني تجارب رومان. كان يعدّ لأمر أعظم وأفظع.
لا يمكن أن أظل متفرجة.
“علينا أن نفعل شيئًا قبل أن تتوسع الأمور إلى حرب. لنبدأ برومان. إن قبضنا عليه وكشفنا أنّ دياكويت هم من دبّروا تسميمي، فلن يجدوا حجة واضحة لشنّ الحرب.”
“نحن نبذل أقصى جهدنا في تتبعه، لكن…….”
حتى كواناش كان يدرك انسداد الأفق. أسرعتُ أقول:
“استخدمني. النباتات لا تكذب. يمكنني اختراق السحر والكشف عن الحقائق. فهي لا تُخدع. ربما أستطيع معرفة وجهة رومان.”
“هذا غير ممكن.”
تجمد صوته فجأة ببرود شديد.
“الوضع خطر للغاية. لا يجوز أن تتدخلي.”
“حتى مجرد تفقد النباتات قرب القصر؟ بالتأكيد سيكون ذلك مفيدًا للتتبع. وأنت ستكون معي. سأظل ملتصقة بك.”
“كنتُ بجوارك في الوليمة، ومع ذلك كدتِ أن تموتي.”
كان يستعيد تلك اللحظة ببرود، يتحدث بغضب مكتوم. ضخامته الماثلة أمامي بدت كصخرة لا تنكسر، أو كموجة هائلة على وشك أن تبتلعني.
شعرتُ للحظة وكأن أنفاسي انحبست.
“إذن…… عليّ أن أبقى حبيسة هذه الغرفة طوال الوقت؟”
“حين يهدأ الوضع قليلًا، ستتمكنين من الخروج من الغرفة. أعلم أن الأمر سيضايقك، لكن تحمّلي بعض الشيء.”
“الغرفة فقط؟ إذن لا أستطيع الخروج من القصر أيضًا؟”
“…….”
“إلى متى؟ لقد قلت بنفسك إن الحرب قد تندلع. فهل يعني هذا أنني سأظل هنا لسنوات بلا أفق…… بلا أن أفعل شيئًا…… فقط أجلس كدمية جميلة؟”
“يوسيفر.”
“أعرِف…… أعرف كم تقلق عليّ. لكن…….”
“لا. أنتِ لا تعرفين.”
قطع كواناش كلماتي بحدة، واهتز حلقه بخشونة.
“لن تفهمي أبدًا ما يعنيه بالنسبة لي أن أفقدك.”
تمتم بصوت مبحوح، ثم ببطء جثا على ركبتيه عند قدميّ. تجمدتُ جالسة على حافة السرير، أحدّق فيه بذهول.
الرجل الذي يُلقب بـ ابن الشمس. سيد الإمبراطورية الجديدة. ذاك الذي أخضع القارة بأكملها بالتوتر والخوف…… ها هو يركع أمامي بكلتا ركبتيه.
ورغم ركوعه، بقي مستوى أنظارنا متقاربًا. أمسك بذراعي بكلتا يديه بإحكام، وقال متوسلًا:
“ألا…… تبقين هنا من أجلي؟”
تلألأت دموع في عينيه.
“كواناش…….”
“أعلم. أعلم أن طلبي فيه إهانة لك. فأنتِ إن كان الأمر يتعلق بالشعب، فلن تترددي في المخاطرة بنفسك ولو كنتِ ستُجرحين.”
“…….”
“لقد فكرتُ دومًا أنكِ أنسب مني للعرش. أما أنا…… فحتى لو هلكت آلاف مؤلفة، فإن كنتِ وحدكِ بخير…… سأضحي بالجميع بلا تردد.”
كان يتحدث وهو يثبت نظره في عينيّ.
تملكني ألم في صدري من شدة الإلحاح واليأس المرسومين على وجهه، ومن ذاك التعلق المتطرف في نبرته.
كان ينطق كلمات مخيفة بلا تردد، ومع ذلك كانت عيناه طيعتين إلى حد العبودية. لولا الدموع فيهما لظننت أنه مجرد خروف صغير مسكين.
“لهذا…… يوسيفر، أرجوكِ. لا أستطيع أن أسمح لكِ بالخروج. لا أستطيع.”
بهذه الرقة والاستجداء، يطلب مني أن أقبل بسجني.
أيّ رجلٍ هذا، يضع وجه الضعيف المستعطف ليقيّدني هكذا؟
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 50"