وبينما أرتجف وأتخبط في ذلك الخواء، انطلقت من بعيد همسات منخفضة:
<عليك أن تفعلها.>
صوت غريب. عميق ورنان، بصوت امرأة.
لكنني أدركت هويتها فورًا، بلا أي دليل، فقط بروحي.
صاحبة الصوت الذي يهمس لي داخل هذا الفراغ، لم تكن سوى الحاكم فاهار.
<يوسفير… أنت من يجب أن يفعلها.>
حاولت أن أتحرك باتجاه مصدر الصوت، لكن جسدي لم يتحرك قيد أنملة.
حتى صوتي لم يخرج مهما ضغطت على حنجرتي.
(ماذا تريدين مني؟)
كنت في حيرة.
أردت أن أسألها: هل كان لها يد في إعادتي إلى الماضي؟ وإن كان كذلك، فما الذي يتوجب عليّ فعله الآن؟
<احمني.>
احميها؟ من ماذا؟ وكيف؟
امتلأت بالأسئلة.
لكن صوت الحاكم اختفى فجأة، وتغيّر المشهد من حولي مرة أخرى.
هواء جاف وحاد، يخترق بشرتي كما لو كان حقيقيًا.
رائحة أشجار الشتاء الثقيلة، تنفذ عميقًا في رأسي.
الرؤية السوداء صارت تتلون بالأبيض والفضة.
لقد كنت في قلب الغابة الفضية.
المكان الملقب بـ “نهاية العالم”.
الغابة التي منحتني قوتي.
الأرض الأسطورية التي إن تمكن ملك أركايا من اختراق عواصفها، نال أمنية واحدة تتحقق له.
موطن حمايتي المقدس.
لكنني لم أرَ نفسي داخل هذا المشهد.
كنت كالشبح، أتسلل داخل الأجواء، أكتفي بالمراقبة.
وهناك، وسط الغابة الفضية الموحشة، رأيت ظهرًا مألوفًا.
<أرجوك…>
رغم أنني رأيت ظهره فقط، إلا أنني لم أُخطئه.
إنه كواناش.
كان مغطى بالدماء.
رداؤه الذي يزين درعه لم يعد بالإمكان تمييز لونه الأصلي.
شعره أطول بكثير وأكثر فوضى مما أعرف.
ظهره المهتز بالتشنجات الصغيرة بدا منهكًا بشدة.
<أرجوك…>
خرج صوته متحشرجًا، وكأنه سينقطع في أي لحظة.
(هل حقًا هذا كواناش؟ لماذا هو هنا؟)
لم أدرِ إن كانت هذه مشاهد من زمن مضى بالفعل، أم أنها مجرد أوهام من حلمي، أم أن الحاكم فاهار تُريني شيئًا بإرادتها.
وأنا أغرق في ارتباكي، سمعته بوضوح أكبر، كأنه عند أذني مباشرة:
“أرجوك…”
“إن كان عليّ ذنب، فليكن العقاب عليّ وحدي. هذا الشخص لا ذنب له.”
صوت ممتلئ بالغضب والذنب في آن واحد.
وصوت مألوف جدًا.
إنه صوت كواناش.
وفور أن أدركت ذلك، بدأ المشهد كله يتشقق.
الأغصان الفضية تفتتت كزجاج مكسور.
ومع تفتتها، اختفت الغابة الفضية من أمامي.
“أه…”
بدأ سقف مألوف يظهر في نظري، باهتًا.
جسدي الذي كان كالشبح، صار ثقيلًا وملموسًا.
رأسي كان غائمًا مثقلًا، حلقي ملتهبًا، وألمي يعم كل جسدي.
عينيّ اللتين ظلتا مغمضتين طويلًا، لم تحتمل الضوء فجأة، فشعرت بألم نابض.
“يوس… فير؟”
اخترق صوت أجش أذني، ليوقظني أكثر.
حينها فقط أدركت موقعي.
(غرفتي… في القصر الإمبراطوري.)
لم أمت.
رغم أنني لا أستطيع تحريك أصابعي بعد، إلا أن جسدي بدا وكأنه صمد أمام السم.
(يبدو أن التحكم في قواي السحرية في اللحظة الأخيرة قد نفعني.)
لقد كانت محاولة أشبه بالمقامرة، لكن لحسن الحظ نجحت.
فالسم الذي تناولته كان مادة تتفاعل فقط مع الطاقة السحرية، وبفضل تقييدي الشديد لها، تمكنت من إبطاء انتشار السم داخل جسدي.
وأول ما وقعت عليه عيناي عند استيقاظي… كان وجه كواناش.
كواناش، ودموعه متلألئة وهو يصرخ مستدعيًا الطبيب.
ثم مد يده الصلبة ليلامس جبيني وخدي مرارًا.
“هل… هل تتعرفين عليّ؟ هل وعيك بخير؟ آه، أيها الحاكم…”
تنهد طويل خرج منه وهو على وشك البكاء.
كان كما أعرفه، كواناش الطيب، الذي يعاملني بحنان.
(الحمد لله… لم أمت.)
جمعت ما تبقى من قوتي، وحاولت أن أنطق:
“كوا… ناش.”
خرج صوتي متقطعًا ضعيفًا، لكن يبدو أنه وصله بوضوح.
توقف فجأة، ثم انهمرت دموعه الثقيلة.
الرجل الذي أرعب القارة كلها، يبكي بهذا الشكل؟
كان الأمر مفاجئًا، لكنه لم يكن منظرًا بغيضًا.
وجه كواناش، الذي بدا قاسيًا وصلبًا حين لقائي الأول به، كان الآن يتهشم ليكشف مشاعره الصادقة.
وكم تمنيت أن أتمكن من مسح دموعه… لو كان بإمكاني التحرك.
لكنني لم أستطع حتى تحريك إصبعي، وغلبني النعاس مجددًا.
سمعت أصوات الأطباء يدخلون الغرفة، وسمعت صوت كواناش الباكي يناديني.
لم أعلم ماذا جرى بعدها…
لكن ما شعرت به بوضوح هو أن يد كواناش التي أمسكت بي، كانت قوية ودافئة للغاية.
—
ولحسن الحظ، لم يمر سوى بضع ساعات قبل أن أستيقظ مجددًا.
قال سيمون إن جسدي دخل مرحلة الاستقرار.
رغم أنني أشعر بالتيبّس من طول الرقود وصعوبة الحركة، إلا أن الحرارة زالت، وكذلك الضغط الثقيل الذي كان يخنق قلبي.
لقد قضيت في الغيبوبة خمسة عشر يومًا.
ولحسن الحظ لم يكن زمنًا طويلًا جدًا.
وما إن أنهى سيمون فحصي وانصرف، حتى طلبت أن أبقى وحدي مع كواناش.
فأبعد كواناش حتى ماريان، وجلس ينظر إليّ بعينيه الحمراوين.
“كواناش.”
شربت بعض الدواء المقوي، فتحسنت حالتي أكثر من ذي قبل، لكنني ظللت مضطرة للبقاء في السرير.
–
جلس كواناش على طرف السرير، يحدّق بي من علٍ.
منذ لحظة استيقاظي، لم يفارقني ولو للحظة واحدة.
“ماذا حدث خلال الخمسة عشر يومًا؟ لا بد أنك… كح كح.. واجهت الكثير.”
لم أستطع إنهاء حديثي إذ تسللت سعالتي فجأة.
فانتاب كواناش الذعر، فوضع يده على كتفي برفق ضاغطًا.
“لا تتحدثي، فقط استريحي. سأجلب لك بعض العصيدة قريبًا، تناوليها أولًا.”
“لكن… عليّ أن أسأل. هل قبضتم على المجرم؟”
فجأة اسودّ وجه كواناش.
“لقد سلّم نفسه واحد… كان طباخ القصر الإمبراطوري.
إن لم أكتشف وجود مثل هذا الحقير بالقرب منك طوال الوقت… فأنا المذنب.”
“لا، ليس عليك التفكير هكذا. من الطبيعي ألا تعلم.”
“ومع ذلك، كل من حضر الحفل محتجزون الآن داخل القصر الإمبراطوري.
لقد جنّدنا جميع المحققين، لكن لم نجد خيطًا كافيًا، لذلك ابتداءً من الغد سأتولى التحقيق بنفسي…”
“ماذا؟ ماذا تعني… كح، كح، كح!”
ارتفع صوتي بحدة من فرط الانفعال، فشعرت بحلقي وكأنه يتمزق، واندفعت نوبات السعال بلا توقف.
ارتسمت على وجه كواناش ملامح ألم عميق وهو يصرخ:
“هل أنت بخير؟!”
“أ… أجل، بخير. حلقي مجرّد مجهد لا أكثر.”
“لقد عدتِ من الموت. أرجوكِ، لا تفكري في أي شيء، فقط تمددي واستريحي.
سأنتزع الحقيقة من كل واحد منهم، حتى لو اضطررت لتعذيبهم واحدًا واحدًا، حتى أعلم من ارتكب هذه الجريمة الشنيعة.”
في تلك اللحظة، تلألأ على وجه كواناش بريق جنون رهيب.
ذلك الوجه الذي لم يُرِني إياه قط من قبل.
وكانت كلماته كلها صادمة تمامًا.
(عدد النبلاء الذين حضروا الحفل ليس بالقليل… كثير منهم يملكون فرسانًا وجنودًا موالين لعائلاتهم. إن أصرّ كواناش على هذا الطريق… قد يؤدي الأمر إلى حرب أهلية.)
لقد كانت لمسته وهو يتفقدني كعادته، رقيقة ومليئة بالحنان.
لكن ما يقوله الآن لم يكن يحمل أي ذرة من العقل.
عليّ أن أهدّئه.
ففتحت فمي على عجل:
“كواناش، تمهّل. لا داعي لذلك. أظن أنني أعرف من هو المسؤول عن كل ما حدث.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 44"