بدأت الشجرة فجأة، من غير أي إنذار، تصبّ ذكرياتها في رأسي. لقطات عديدة تدفقت بعنف، تزاحمت وملأت عقلي بالقوة.
هذه الشجرة، حين كانت شتلة صغيرة، بدا أنها نُقلت من مكان آخر إلى هنا. في أقدم ذكرياتها كان هناك ماء جارٍ.
نهر باهار. كانت شجرة نمت عند ضفاف النهر.
ثم ظهرت مشاهد أخرى سبق أن رأيتها في ذكريات نباتات أخرى.
رجل بعيون حمراء يصبّ سحراً مدنساً في مياه النهر.
وهذه المرة، كان وجهه واضحاً تماماً. في مظهره الخارجي، كان يبدو في العشرينات من عمره. شاب وسيم ذو ملامح حادة وحساسة. وأكثر ما لفت الانتباه…
«شعره فضي. شعر فضي… اللون الذي كان مسموحاً فقط لأسرة فرنن الملكية.»
السلالة التي حكمت الجنوب قبل كواناش.
كان يُقال إن شعرهم يلمع فضياً ببركة الحاكم. لكن مع تكرار زواج الأقارب، ازداد الجنون الوراثي في دمائهم شيئاً فشيئاً، وأصبحوا طغاة لا يعرفون رحمة.
وفي النهاية، قضى كواناش عليهم جميعاً بالثورة. لم ينجُ منهم أحد.
«…كنت أظن هكذا. لكن هل هناك ناجٍ؟ وفوق ذلك، أحد أحفاد الأسرة وقد بلغ هذا العمر!»
إنه عامل تهديد واضح. لا، بل كان تهديداً واقعياً بالفعل. لو أن هذا الرجل هو من نشر داء التصلب الحجري (التحجر).
ثم عرضت الشجرة مشهداً آخر: غابة تابعة لملكيات قافلة غيليه التجارية.
في وقت متأخر من الليل، كان التاجر الكبير رومان ومعه عدد من الرجال يجرّون عربة ضخمة مغطاة بقماش، لا يُرى ما بداخلها.
اهتزت العربة فجأة حين علقت بعقبة صغيرة، فانبعج شيء من داخلها واندفع إلى الخارج.
«لا يمكن… أهذا…؟»
كتلة لحم متعفنة تميل إلى اللون الرمادي المزرق.
كان ذراع إنسان.
فجأة، اندفعت إلى عقلي شظايا من صور مبعثرة. كلها كانت ذكريات الشجرة.
جثث مشوهة. كتل لحم لا يمكن التعرف على شكلها. عيون قرمزية. أصوات كئيبة…
المشاهد تقفز وتتبدل بسرعة، بلا ترتيب زمني واضح. بدت كأنها سلسلة لوحات جحيمية مرسومة بالفوضى.
حين توقفت الشجرة عن مشاركة الذكريات، كنت قد استُنزفت تماماً.
«هَهْ…»
كاد القيء يخرج من حلقي.
اقترب مني أحد حراس الشرف واقترح بقلق إن كنت بخير. بصعوبة أومأت له بألا يتدخل، وحاولت أن أتنفس بعمق.
معدتي كانت مقلوبة. وبأصابع مرتجفة تحسست سطح الشجرة وسألتها:
«هؤلاء… هل لهم علاقة بقافلة غيليه؟ ومن هو الرجل الذي أريتني إياه قبل رومان؟»
<ذلك الرجل أيضاً هو رومان.>
«ماذا؟!»
<الرجل ذو العينين الحمراوين.>
«ماذا يعني هذا الكلام؟»
اهتزت الشجرة مجدداً، ثم عرضت لي ذكرى جديدة.
رجل ذو شعر فضي وعيون حمراء يمسك بيد جثة متصلبة، ميتة بداء التصلب الحجري على ما يبدو.
وبعد وقت طويل، ترك اليد. ومع انتهاء سحره، بدأت عيناه القرمزيتان تتغيران تدريجياً.
إلى اللون البنفسجي.
شعر فضي وعيون بنفسجية. لم يكن ممكناً إنكار أنه من دماء أسرة فرنن الملكية.
ولم يتوقف التغيير عند هذا الحد. وجهه الأملس العشريني بدأ يذوب كالطين، يتكتل ويتلوى بمنظر مقزز ومرعب.
وبعد وقت قصير، صار رجلاً عادياً في منتصف العمر. كان الشكل المعروف عند الناس باسم: رومان، رئيس قافلة غيليه.
انتهت الذكرى، وجاءني صوت الشجرة.
<ذلك السفّاح المقزز هو رومان.>
«لا يُصدق…»
لم أسمع قط بوجود سحر تحول بهذه القوة والدقة. عادة لا يتعدى الأمر بعض التغيير في الملامح أو العمر، أو لون الشعر.
لكن أن يتغير المرء كلياً إلى شخص آخر؟!
«ما الذي يفعله رومان متخفياً خلف صورته الزائفة؟»
<إنه يثير غضب الحاكم.>
«غضب… الحاكم؟»
<لقد دمّر هذه الأرض! جعلها مريضة!>
صوت الشجرة صار أعنف فأعنف. لم تكن في حالة طبيعية.
روح هذا النبات كانت ملتوية بشدة.
<لقد أجرى تجاربه بلا توقف. وكل فشله المريع دفنه هنا!>
ومضت في ذهني ذكريات لمحتها منها: موتى بداء التصلب، كتل لحم مسحوقة حتى فقدت شكلها.
أكان رومان يجري تجارب هنا؟ ربما انحراف هذه الشجرة سببه تلك التجارب.
«أي تجارب كان يقوم بها رومان؟ هل تعرف هدفها؟»
<لا، لا أعرف. لا أعرف شيئاً. لكن الأمر بالغ الخطورة. إنه، إنه…!>
ازدادت روح الشجرة جنوناً.
<كل شيء مريض. انتهى كل شيء! نحن هالكون جميعاً!>
كان الأمر كأنني أستمع إلى مجنون يصرخ باللعنات دون توقف.
عندها سمعت خلفي صوت ماريان.
«جلالتك؟»
«آه…»
استفقت فجأة، وأبعدت يدي عن الشجرة. انقطع الصوت المهووس الذي كان يملأ رأسي.
«هل أنتم بخير؟ لون وجهكم شاحب جداً، جلالتك.»
«أنا… بخير يا ماريان.»
حاولت أن أستعيد أنفاسي وأقف بثبات. لم يكن مسموحاً أن أظهر أي اضطراب.
«لقد أطلت الغياب. لنعد.»
كنت أود أن أستقصي أكثر عن الغابة، لكن قوتي العقلية وصلت إلى حدها. كما أن الغياب الطويل قد يثير الشبهات.
عدت أولاً إلى مكان حفلة الشاي. في المظهر كنت متماسكة، محتفظة بوقاري كإمبراطورة، لكن داخلي كان فوضى محضة.
لم يعد كواناش من الصيد بعد. ولم يكن في ذهني سوى أن أسرع بإخباره بكل ما اكتشفته في الغابة.
«رومان… هل هو آخر دمٍ متبقٍّ من أسرة فرنن؟»
لقد حصلت على كمّ هائل من المعلومات دفعة واحدة. كان رأسي في حالة ارتباك شديد.
حين أعيد تتبع خطوات رومان بتأنٍّ، بدت الحقيقة مذهلة لأقصى حد. لقد غيّر هويته بالسحر وسيطر على قافلة غيليه، أكبر قافلة في القارة.
ثم لم يكتفِ بذلك، بل استخدم كل وسيلة ممكنة لتضخيم ثروة القافلة. نشر عمداً وباء التصلب الحجري، واحتكر دواءه ليجني ثروة طائلة.
«لكن لم يكن المال وحده غايته.»
حتى لو لم تعرف الشجرة التفاصيل، فقد كان من الواضح أن رومان يجري تجارب مرتبطة بالداء.
وحين قالت إنه جلب غضب الحاكم، فلا شك أن تلك التجارب كانت ضد قوانين الطبيعة.
«هل ينوي إثارة تمرد؟»
لا أعرف ماهية تلك التجارب، لكنني متيقنة أنها لن تصب في صالح الإمبراطورية.
«يجب إيقاف رومان.»
بل، لو أمكن، يجب القضاء عليه.
لكن لا يمكن التحرك بتهور الآن.
حتى وإن كنت قد كشفت عبر قدرتي خداع رومان وجرائمه التي كانت أقرب إلى الجريمة الكاملة، فلا بد من دليل قاطع للإمساك به.
ثم إننا لا نعلم من يقف خلفه.
«هل كل هذا من فعل رومان وحده؟ أم… له أعوان؟»
ما لم أكتشف نواياه كاملة، فلن يكون من الحكمة أن أزعزع هذا العملاق المسمى قافلة غيليه.
—
عند غروب الشمس، عاد الصيادون. الحيوانات التي اصطادوها ستُطهى في الوليمة التي ستقام قريباً.
كان الصيد آمناً تماماً، فلم يُصب أحد بأذى.
على العشب الواسع، بدأت الطاولات والكراسي المستديرة توضع هنا وهناك.
اقترب مني كواناش مباشرة، متفقداً سلامتي أولاً. كانت تفوح منه رائحة دم خفيفة.
«يوسبيا، لم يحدث شيء؟ هل أعجبك طعام حفلة الشاي؟»
كان كواناش قد أخبر القافلة بأنه سيتولى إرسال الطهاة من القصر الإمبراطوري ليشرفوا على الوليمة.
طهاة القصر هم الأفضل في القارة، فبدت الخطوة ككرم من الإمبراطور، لكنها في الحقيقة كانت دليلاً على عدم ثقته بالقافلة.
ومع كل هذه الاحتياطات، ظل قلقه بادياً، ما دام المكان خارج القصر.
«كان كل شيء لذيذاً. لكن…»
نظرتُ إليه طويلاً.
لقد حملت سراً هائلاً يقطع الأنفاس وحدي، وانتظرته بقلق طوال الوقت.
ورؤيته الآن جعلت أنفاسي تستريح قليلاً. كان عزائي أن هناك من أستطيع أن أفضي له بكل هذا الرعب وأتّكئ عليه.
في اللحظة التي شعرت فيها ببعض الطمأنينة الضعيفة، اجتاحتني العاطفة فجأة كالسيل.
قبل بضعة أشهر فقط. عندما أقيم حفل زفافي في مملكة أركايا، كان كواناش بالنسبة لي مجرد غريب يبعث على الخوف.
عدوّ حياتي السابقة الذي دمّر وطني، وخطيب اضطررت لقبول يده لأجل السلام. لم يكن أكثر من ذلك ولا أقل. كنت أرتجف خوفاً من أن يطلقني، فأكذب وأتظاهر وأتشبث يائسة بالبقاء.
لكن الآن… كنت أعتمد على كواناش أكثر من أي شخص آخر.
«لو فقط، بخلاف حياتي السابقة، لا يفقد كواناش عقله، ويتمكن من منع الحرب. وإن استطعنا بطريقة ما حلّ مسألة الطفل…»
طرأت في قلبي فجأة فكرة: أن أعيش عمري كله مع هذا الرجل ليس بالأمر السيّئ.
في وسط هذا الرعب المروّع، وأنا أواجه تلك العينين السوداوين العميقتين، العيون الوحيدة التي تجلب لي السكينة… اندفعت داخلي ثقة هائلة بكواناش، أوضح من أي وقت مضى.
أمسكت بكواناش بيد مرتجفة قليلاً.
«رأيت شيئاً في الغابة، كواناش.»
كان صوتي مخنوقاً، وكأن شيئاً يسدّ حلقي. لم أدرك إلا حينها أنني كنت طوال الساعات الماضية مسحوقة تحت ثقل خوف عظيم.
«كواناش… لقد كان ما كنا نخشى منه صحيحاً.»
كنا قد افترضنا معاً أن قافلة غيليه هي من نشرت داء التصلب الحجري.
ارتعشت حواجب كواناش الكثيفة.
«لكن ليس هذا فقط.»
لم أستطع أن أروي كل شيء بوضوح الآن، فالناس من حولنا كُثر.
كنا نجلس على المنصات المخصّصة للمدعوين، على مقربة من المنصة المرتفعة الخاصة بنا، ولم يكن بجوارنا أحد مباشر. ومع ذلك، لا أحد يعلم أين يمكن أن تختبئ آذان تتسمّع.
هل كان رومان ليتوقع ذلك؟ أنني سأشهد بأم عيني ما يحدث في غابته الخاصة؟
ثم إن رومان نفسه كان ساحراً. وطالما أنه موجود هنا، فعلينا أن نكون في غاية الحذر.
«ما الذي رأيتِه بالضبط يا يوسيفر ؟»
كانت عينا كواناش تلمعان بقلق شديد.
وفي تلك اللحظة، ظهر رومان. كان قادماً ليُلقي التحية بوصفه صاحب الوليمة.
شعر أشيب فيه بعض البياض. جسد بدين. بدا رومان الآن كرجل في منتصف العمر، عاديٍّ جداً.
أشرت نحوه بعيني وهمست لكواناش بصوت منخفض:
«عليك أن تحذر منه. ما كنا نخشاه ليس كل الحقيقة.»
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 41"