ارتطم الصوت الملهوف لـــ كواناش في أعماق رأسي. ترى ما الذي يخيفه إلى هذا الحد؟
لم يسبق لي قط أن حاولت مواساة رجل يرتجف خوفًا، لذلك تجمدت في مكاني لا أعرف ماذا أفعل. لكن كواناش شدّني إلى صدره بقوة أكبر.
كان حضنه دافئًا للغاية بل خانقًا، ومع ذلك لم أستطع دفعه بعيدًا. فقد شعرت بوضوح بارتجاف جسده بين حين وآخر وكأنه يعاني تشنجات.
بقيت بين ذراعيه فترة طويلة، ثم تجرأت وفتحت شفتيّ بحذر.
“لا أعرف ما الذي يقلقك، لكنني بخير.”
غطت يداه الخشنتان كتفيّ الجانبيين بكاملهما.
“هل لي أن أسأل… هل مررتَ في الماضي بشيءٍ ما؟”
ارتجف كواناش قليلًا، ثم أخرج زفيرًا عكرًا طويلًا. تشبث بظهر فستاني بقوة حتى أصدرت القماشة صوت خشخشة تحت قبضته.
لكنه لم يرد. سألت، غير أن الجواب لم يأتِ. وبينما يخيم صمت ثقيل دبق بيننا، أطلقني فجأة من ذراعيه.
“…لقد أظهرتُ وجهًا مخزيًا.”
امتلأ فكّه بتوترٍ شديد، وعيناه اللتان كانتا ترتجفان قلقًا منذ قليل صارتا فجأة هادئتين وباردتين.
وكأن شيئًا لم يحدث قط.
“فلننهي هذا الحديث عند هذا الحد. انسَي ما رأيتِ.”
ساعدني على النهوض من جلستي المنحنية، ثم تراجع خطوتين أو ثلاثًا مبتعدًا عني.
“لدي عمل لم أنهه بعد، لذا عليّ الذهاب الآن.”
“ها؟ أ… كواناش…”
استدار ومشى مبتعدًا. كان واضحًا أنه يريد تفادي هذا الموضوع.
لابد أنني حفرت في جرحٍ شخصي عميق. لم يسبق أن رأيت كواناه بهذا الجفاء من قبل.
لم أستطع منعه، فبقيت واقفة في الغرفة وحيدة مشدوهة لوقت طويل.
—
“…كواناش لم يأتِ.”
تلك الليلة، تمددت وحيدة في السرير.
انتظرت ساعة أو ساعتين أقاوم النعاس على أمل قدومه، لكن مع حلول منتصف الليل وصلني خبرٌ قصير: “لن أزور حجرة الإمبراطورة الليلة.”
“هل هو يتجنبني؟”
حتى لو كان الأمر لا يتعدى إمساك اليد والنوم على سرير واحد، فقد اعتدت على وجوده بجانبي على ما يبدو. شعرت بأن السرير أصبح أوسع من المعتاد عندما شغلته وحدي.
نادراً ما كنت أعاني من الأرق، لكن تلك الليلة تقلبت حتى الفجر، ثم غلبني النوم أخيرًا. وعندما استيقظت في الصباح، شعرت ببرودة أثقل جسدي أكثر من المعتاد.
وبينما كنت أتناول إفطاري بوجهٍ كئيب بعض الشيء، جاءت ماريان بخبر يبعث على الارتياح.
“جلالتك. لقد اتصلتُ بالبارون إدوين البارحة.”
“آه، حسنًا. هل اكتشفتِ شيئًا؟”
لقد خاطرت ماريان وبدأت تلعب دور العميلة المزدوجة لكشف القوى التي تقف خلف البارون إدوين.
“كل ما قاله هو أن أراقب جلالتك. لا يبدو أن الوقت مناسب بعد لمعرفة من يقف وراءه. لكنه شدد على ألا يفوتني أي رسالة تصل إلى جلالتك.”
“أجل، نيل ثقته سيتطلب وقتًا. تابعي مراقبته، وامنحيه بعض المعلومات الكاذبة عند الحاجة.”
“مفهوم، جلالتك.”
حاولت جاهدة أن أطرد أفكاري عن كواناه وأركز على المشكلات المتراكمة أمامي.
“ربما حان الوقت لأتواصل مع دياكويت…”
كما أن ماريان تلعب دور الجاسوسة المزدوجة، كان عليّ أنا أيضًا أن ألقي ببعض الطُعم الزائف لدياكويت.
بعد الإفطار، سرّحت الجميع وجلست في غرفة نومي وحدي، ثم أخرجت التعويذة السحرية التي أعطاني إياها دياكويت للتواصل.
كانت تبدو كقلادة عادية، لكنها تسمح بالتخاطب مع من يملك النظير المماثل لها.
ما إن ضخختُ فيها قليلًا من الطاقة السحرية، حتى تنشط السحر الكامن بداخلها.
ووووم… ووم… ارتعاشة خفيفة ترددت منها مرارًا.
انتظرت بصبر، حتى انطلقت بعد لحظاتٍ قليلة من القلادة نبرة مألوفة.
إنها دياكويت كاتاتيل. شقيقي بالدم، والرجل الذي أراد قتلي.
ــ “ظننتكِ متِّ بما أنكِ لم تتصلي طيلة هذه المدة.”
كان صوته المتردد عبر السحر أكثر جهارة من الحقيقة، كصدى يتردد.
“كنتُ مشغولة.”
بمجرد أن سمعت صوته، غمرني شعور بالاشمئزاز. بدا لي الماضي الذي اعتمدتُ فيه عليه وتبعتُه بعيدًا للغاية.
ــ “يبدو أنكِ على وفاقٍ جيد مع الإمبراطور.”
“ماذا؟”
ــ “لديّ عيون في الإمبراطورية أيضًا، كما تعلمين.”
“عيون”… تذكرتُ حينها البارون إدوين.
هل أمره دياكويت بمراقبتي؟ ليس لدي يقين بعد.
“وأي خبر وصل إليك؟”
ــ “يقال إن الإمبراطور العبد السابق يعرف كيف يتصرف بأدب أكثر مما توقعت. لا أدري كيف يعاملكِ حين لا يراكم أحد، لكنه على الأقل يظهر حرصًا عليك أمام الناس. كنت قلقًا من أن يتخلى عنكِ.”
اشتعل صدري غضبًا حين سمعت نبرته التي تتحدث باستخفاف عن كواناه.
من يكون هو حتى يزدريه؟ أردتُ أن أردّ وأقول: “زوجي أحنّ منك بأضعاف”، لكنني تماسكت.
لقد تعاهدتُ على مجاراته بالظاهر على الأقل. ولم يكن هناك داعٍ لإظهار أن علاقتي بكواناه جيدة.
“…إنه رجل أقل خشونة مما توقعت. لكن، من هو هذا العَين الذي تعتمد عليه؟”
ــ “ولماذا تسألين؟”
“أليس من الأفضل أن أعرف على الأقل من يقف في صفي؟”
ــ “لا حاجة. يكفي أن تفعلي ما يُطلب منكِ.”
عضضتُ شفتي السفلى بقوة.
“أخي…”
ــ “قلتُ لا تحاولي أن تتدخلي. فتاة مثلكِ ماذا ستفعل في السياسة؟ اهتمي فقط بألا يكتشف العبد أنكِ عاقر.”
كانت كلماته لاذعة مليئة بالتهكم. كان يستمتع بإثارة غيظي عمدًا.
في نظره، بما أنني ابتعدت عن وطني وفقدتُ قوتي، فلا بأس أن يعاملني بهذه القسوة.
وفوق ذلك، كان له أعوان حتى داخل القصر الإمبراطوري. لا أعرف من هي القوى التي تحالف معها، لكن من جرأته الواضحة أستطيع القول إنها قوة ضخمة.
لو رفضت التعاون أو حاولت الخيانة، فقد يسعى للتخلص مني فورًا. كما فعل في حياتي السابقة.
كنتُ آنذاك ورقةً مستهلكة استُغلت كذريعة لإشعال الحرب. ومن يدري، فقد يتكرر ذلك في هذه الحياة أيضًا.
مهما كان الأمر مهينًا، كان عليّ الآن أن أسايره.
“مفهوم. إذن… ما الذي تود مني فعله؟”
ــ “سمعت أن مشروع إصلاح الضرائب يثير ضجة في الإمبراطورية. لا أظنكِ تفهمين شيئًا كهذا.”
“بل أعلم.”
كان البرلمان الإمبراطوري المقرر انعقاده قريبًا الشغل الشاغل في القصر مؤخرًا.
وكان من المقرر أن أشارك غدًا في حفلة شاي مع سيدات الأسر التي تحضر البرلمان. من المؤكد أن الحديث سينزلق إلى هذا الموضوع.
ــ “كنت أظنه مشروعًا متطرفًا سيُرفض، لكن الغريب أن النبلاء المحافظين بدأوا يلينون.”
“حقًا؟”
ــ “اكتشفي ما الحيلة التي استخدموها لإقناع المحافظين. أشك في أنكِ قادرة على ذلك، لكن حاولي.”
“أتأمرني أن أبحث أم تمنعني؟”
ــ “ابذلي جهدكِ فحسب.”
“…حسنًا.”
ــ “إذا أردنا أن نُسقط الإمبراطورية لاحقًا بسهولة، فعلينا أن نثير الفوضى من الداخل منذ الآن. وأفضل طريقة هي شق صفوف النبلاء المحافظين.”
“لكن حتى المحافظين وافقوا على المبادئ الثورية الأساسية لكواناه. قد يختلفون معه في بعض النقاط، لكنهم لن ينقلبوا تمامًا على الإمبراطورية.”
ــ “أتعرفين هذا أم لا؟ قلت لكِ لا تتفلسفي!”
ضغطتُ أصابعي على جبيني. هل حقًا يحكم هذا المتعجرف مملكة أكايا بشكل جيد؟
إن تحققت أمانيه وسيطر على القارة، فقد ينحدر الجنس البشري إلى الهاوية.
تنهدت بعمق وحاولت تهدئة نفسي.
“هل هذه كل أوامرك؟”
ــ “آه، وحاولي أن تكتشفي نقاط ضعف كواناش أيضًا.”
نقاط ضعف…
مرّ بذهني حديث البارحة، والوجه المرتجف المليء بالخوف، وكأنه سينهار في أية لحظة.
“…لا يبدو أن له نقاط ضعف. إنه مثالي أينما نظرت.”
ــ “أتدافعين عنه لأنه زوجك؟ أم لأنكِ ترجينه عند مخدة النوم أن يرسل معونات أكثر لأكايا؟”
“ألم تُرسلوا ما يكفي بالفعل وفقًا لما اتُّفق عليه في المعاهدة؟”
ــ “أقول لكِ دلّليه قليلًا واستخرجي منه المزيد. حتى هذا لا تستطيعين فعله؟”
“ألم تقل سابقًا أن عليّ أن أتجنب الفراش كثيرًا كي لا يكتشف أنني عاقر؟”
ــ “حقًا، لا تتركين كلمة إلا وتجادلين فيها… كفى. الحديث معكِ لا يزيدني إلا صداعًا.”
“حسنًا. إلى اللقاء.”
قطعتُ على الفور تدفق السحر الذي كنت أبثه في القلادة.
كنت أدرك أن عليّ أن أُبدي بعض التعاون مع دياكويت كي أتمكن من معرفة القوى التي تحالفت معه، لكن مجرد تقبّل هذا الغرور المتعالي مؤقتًا كان يثير في داخلي غليانًا شديدًا.
—
بعد الاتصال مع دياكويت، قررتُ أن أُغير مزاجي قليلًا فتوجهتُ إلى الحديقة الزجاجية.
قلت لمرافقيّ إنني أرغب في التجول بمفردي لبعض الوقت، فابتعدوا جميعًا إلى مسافة آمنة.
لاحظتُ أن ماريان تنظر إليّ بوجهٍ يعلوه القلق، لا بد أنها أدركت أنني لست على طبيعتي المعتادة.
كان مزاجي مثقلاً بالهموم بالفعل؛ ليس بسبب دياكويت وحده، بل أيضًا بسبب علاج مرض التصلب .
“أما ثمن دواء إيديث فقد وعد كواناش بالمساعدة فيه، فيُفترض أن يُحلّ الأمر… لكن…”
ومع ذلك، المضي في الأمر منفردة رغم اعتراض كواناش كان خطرًا من عدة وجوه.
قد تتصدع علاقتي به، وفضلاً عن أن لقبي “الإمبراطورة” لا يتعدى الاسم فقط، فإنني في هذه الإمبراطورية بلا أي سندٍ أو جذور.
لو أقدمت على التصرف خفية ثم تورطتُ كما يخشى هو في صراعٍ سياسي على المصالح، فقد تكون العواقب وخيمة…
كنت قد بدأت بدافع الرغبة في فعل الخير للشعب، لكن صدري امتلأ بالانقباض.
“ترى هل ينوي كواناش إبقائي جالسة على عرش الإمبراطورة فحسب؟ ما الذي يخيفه إلى هذا الحد؟”
لكن ما دام صامتًا يتجنبني، فلم يكن أمامي أي وسيلة لمعرفة السبب.
ومع ذلك، كلما سرت ببطء بين أرجاء الحديقة الزجاجية متأملة نضارة النباتات، شعرتُ بأن همومي تتبدد شيئًا فشيئًا. أخذت نفسًا عميقًا وملأت صدري بالهواء النقي البارد.
كنت على وشك أن أقترب من الزاوية التي اعتدتُ محادثة نباتاتها المرة الماضية، حين وقعت عيناي على شيء غير مألوف.
على أحد المقاعد، استلقى جسد ضخم كما لو أنه صاحب المكان.
“…هل هو نائم؟”
رجل غريب كان ممددًا على المقعد كأنه في غرفة نومه الخاصة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 29"