عندما أشار كواناش بيده، تقدّم الخدم الذين كانوا ينتظرون في زاوية قاعة الطعام دفعةً واحدة، وجمعوا الصحون بسرعة. ثم تتابع وضع أطباق الحلوى أمامنا.
أول ما لفت انتباهي كان الكعكة المزيّنة بتوت العلّيق (التوت الأحمر) الذي أحبّه كثيرًا.
رغم أن معدتي كانت ممتلئة، إلا أنني تحمست من دون وعي، وأنهيت نصف قطعة كعكة في لحظة.
“أشعر وكأن معدتي ستنفجر…”
أرض الإمبراطورية خصبة، وكان يُقال إن الزراعة تزدهر فيها، فهل لذلك تبدو المكوّنات بهذه الطزاجة؟ كل شيء من الطعام وحتى الحلوى كان لذيذًا للغاية. بدا أنّ مهارة كبير طهاة القصر الإمبراطوري مذهلة بحق.
كان الطعم الحلو والمنعش الذي يتركه في طرف اللسان إدمانيًا، لكنني إن أكلت أكثر فسأعاني من التخمة، لذا وضعت الشوكة جانبًا.
حينها سألني كواناش، الذي كان يحدّق بي باهتمام من الجهة المقابلة:
“لماذا لا تأكلين أكثر؟ ما زال هناك الكثير.”
“امتلأت معدتي كثيرًا.”
“أم أنّ الطعام لم يُعجبك؟”
لمعت عيناه فجأة بصرامة، وكأنه إن سمع أنّ الطعام سيئ فسوف يطرد كبير الطهاة على الفور. فأسرعت وهززت رأسي نفيًا.
“طعام القصر الإمبراطوري من أطيب ما تذوقت في حياتي، كله بلا استثناء.”
“ولكنك تركتِ بعضه.”
“لا، لقد أكلت اليوم أكثر بكثير من المعتاد.”
“حتى الفراخ الصغيرة تأكل أكثر من هذا.”
“سأحاول أن أزيد الكمية في المرة القادمة. لكن اليوم حقًا لا أستطيع… معدتي ممتلئة جدًا.”
هزّ كواناش رأسه وكأنه متذمر لكنه استسلم للأمر.
فقلت بابتسامة خفيفة:
“كواناش، بما أنّ الوقت مناسب… هل نتمشّى قليلًا؟ سيكون جيدًا للهضم أيضًا.”
وفجأة أسقط كواناه الشوكة التي كان يمسكها.
تَرنن! دوّى صوت ارتطام الشوكة الفضية بالصحن، فأصدر ضجة ملحوظة. كان كواناش يقطّب حاجبيه وهو يحدّق بي.
“تمشية؟ قلتِ لنتمشى؟ معي؟ نحن الاثنين فقط؟”
“…ألستَ تحب المشي؟”
تفاجأت بردة فعله العنيفة على غير المتوقع. كنت فقط أريد أن أمشي قليلاً لأخفف من ثِقل معدتي.
“يمكنني أن أذهب وحدي أيضًا. بدا لي أن أرجاء القصر جميلة ومناسبة للتجول.”
“لا، ليس أنني لا أريد…”
حرّك كواناش شفتَيه الممتلئتين مرّتين وكأنه يريد أن يتكلم، لكنه لم يُكمل. سرعان ما انتشرت حمرة سريعة على وجهه.
خفض رأسه الساخن تمامًا، ولوّح للخادم. فأتى الخادم بهدوء وسكب له ماءً باردًا مع ثلج.
راقبته بدهشة وفضول. كان لون أذنيه قد صار أحمر قانيًا، وأصابعه التي تمسك بجبهته ترتجف برفق.
“توتر؟ لا، كأنه يخجل… ولكن لماذا؟”
بسبب مجرد دعوة للخروج في نزهة؟
ناديتُه بحذر وهو يبتلع الماء المثلج جرعة بعد أخرى:
ثم شرب كأس الماء حتى آخر قطرة، ووضع الكوب الفارغ على الطاولة، وأخذ نفسًا عميقًا ليستعيد هدوءه تدريجيًا.
حرّك شفتيه الحمراوين أخيرًا وقال بصوت مبحوح:
“هذه أول مرة تقولين لي أن نقوم بعمل شيء سويًا نحن الاثنين فقط… فوجئت قليلًا.”
“آه، لستَ متفاجئًا قليلًا فقط، بل كثيرًا.”
“…فلنقل قليلًا.”
ارتسمت على وجهه علامات إحراج، ثم تنحنح واقفًا من مكانه، وتقدّم نحوي.
انحنى قليلًا ومدّ يده الكبيرة باتجاهي بلطف.
“…أرغب في التنزه معكِ، يوسفير. هل تسيرين معي؟”
رغم أنني كنت من اقترح المشي أولًا، إلا أن كواناه بدا متوترًا وهو يطلب مني أن أسمح له بمرافقتي.
“نعم، بكل سرور.”
ابتسمت ابتسامة هادئة، وأمسكت يده لأقف معه.
—
سرنا ببطء داخل أرجاء القصر الإمبراطوري الفسيح، متشابكي الأذرع نُساير خطوات بعضنا. حتى في الليل، كانت النوافير تندفع بالمياه المتلألئة.
الأحجار المحيطة بالنافورة كانت من الحجارة المضيئة، ومع حلول الليل بدا وهجها الناعم أكثر جمالًا.
كان شتاء رادون الإمبراطورية المبكر قد حلّ، ومع ارتداء عباءة فرو قصيرة، كان الجو مثاليًا للمشي. النسيم البارد ورائحة الأعشاب الليلية جعلتني أشعر بالانتعاش.
رفعت بصري فجأة أتأمل جانب وجه كواناش.
كان ضوء القمر ينساب فوق ملامحه الحادة والقوية. ورغم أنني أعرف جيدًا وسامته، إلا أنني دهشت مرة أخرى.
شعر كواناش بنظراتي، فأدار ذقنه نحوي. ساد صمت غريب قليلًا قبل أن يتحدث هو أولًا:
“كيف قضيت يومكِ اليوم؟ سمعت أنكِ ذهبتِ إلى حديقة الدفيئة.”
“كيف عرفت؟”
“لي طرقي لمعرفة كل شيء.”
“تجولت هنا وهناك، وأخذت بعض الكتب من المكتبة أيضًا. وأنتَ؟”
“يوم عادي فقط.”
“لكنك بدوت مشغولًا جدًا. أتسمي هذا عاديًا؟”
“أليس من الطبيعي أن يكون الإمبراطور مشغولًا؟ كم عدد الرؤوس التي تقع مسؤوليتها على عاتقي.”
قالها ببساطة وكأنها لا تستحق الذكر، لكن بالنسبة لي كان الأمر عظيمًا. أيمكن اعتبار أداء الواجب الإمبراطوري يوميًا بإخلاص شيئًا عاديًا؟
أنا على الأقل أعرف حاكمَين لم يفعلا ذلك:
أبي، الذي أهمل شؤون الحكم بعد وفاة أمي.
والوصي دياكويت، الذي لم يُبدِ اهتمامًا كبيرًا بالسياسة.
مقارنةً بهم، كواناش كان إمبراطورًا بالفطرة. مهما قيل عن أصله، ومهما كانت أحداث حياتي السابقة، فهو بالفعل رجل مميز.
“كواناش، أظنك رائع.”
انفلتت الكلمات من قلبي دون قصد.
“…عفوًا؟”
توقف كواناش عن السير فجأة. وعيناه تلوّنتا بتعابير متقلبة وهو ينظر إليّ.
“إنك رائع لأنك لا تُهمل شؤون الحكم.”
“آه، تقصدين ذلك؟ فهذا واجب طبيعي على الإمبراطور…”
“لا، ليس الجميع كذلك. حتى سلالة فيرنين التي خلعْتها لم تكن كذلك.”
“صحيح… لكن…”
تنحنح قليلًا، ثم مال بجسده نحوي حتى صارت عيناه بمستوى عيني. فكّ تشابك ذراعينا، وأمسك بكلتا يديّ بإحكام.
في تلك اللحظة، التفت الخدم الذين كانوا يتبعوننا وأداروا ظهورهم بسرعة، وكأن شيئًا قد يحدث بيننا.
“لماذا يجعلونني متوترة هكذا…”
حرّكت أصابعي الممسكة بين يديه بتململ لشعور غريب بالدغدغة.
قال كواناش وهو يثبت نظره العميق عليّ:
“أظن أنكِ رائعة حين تتحدثين بصدق.”
كان متوترًا، لكنه بدا جادًا جدًا.
“حقًا؟”
“كم من الناس يريدون أن يكونوا صريحين لكنهم لا يستطيعون؟ الصراحة موهبة بحد ذاتها.”
عضضت على شفتي قليلًا، وبقيت صامتة. كان في مدحه ما يُشعرني بالذنب… فأنا أخفيت عنه الكثير: أنني عشت حياة سابقة، وأنني عقيم، وغير ذلك.
وخزني صدري، فأشحت بوجهي نافية:
“أنا أيضًا أكذب أحيانًا. لست صادقة تمامًا كما تظن.”
“إذن كذبتِ عن قصد، لا بد أن وراءه سببًا. ليس بدافع شرير.”
“كيف تجزم بذلك؟ أظنك تراني أفضل مما أنا عليه حقًا.”
وبما أنني بدأت الحديث، فقد قررت أن أطرح التساؤل الذي كان يراودني منذ أن التقيته:
“كواناش، لماذا تعاملني بهذه الطيبة كلها؟”
رغم أنني كنت أشعر بالبهجة والارتباك، إلا أنني دائمًا تساءلت.
لماذا كان هذا الرجل رقيقًا إلى هذا الحد مع امرأة غريبة أخذها مقابل اتفاق سياسي؟
“هل من الخطأ أن أكون لطيفًا معك؟ فأنتِ زوجتي.”
“لكن معظم الرجال لا يعاملون زوجاتهم مثلك.”
“ألم أقل لك من قبل إنني أُعجب بك كثيرًا؟”
“لكن… لماذا؟”
ارتجف قليلًا واقترب مني خطوة أخرى. أصبحنا قريبين حتى شعرت بأنفاسه. يده الدافئة انزلقت بهدوء على جلدي، وأمسكت أسفل ساعدي.
حين لامست أذني نبرته العميقة الممتلئة بالوقع، شعرتُ بارتجاف يسري في مؤخرة عنقي وأسفل ظهري. لم يكن من الممكن أن أتجاهل كلماته، فقد بدا في غاية الجدية.
“حين رأيتكِ للمرة الأولى، أصبت بصدمة لوهلة.”
للمرة الأولى…
تذكرت يوم زفافنا. كان كواناش حينها أكثر تصلبًا وجمودًا مما هو الآن.
أيعني أنه في ذلك الحين رأى أنني جميلة؟
لم يخطر ببالي قط أن ذلك كان ممكنًا. كنت قد افترضت مسبقًا أنه لن يجد فيّ ما يعجبه.
“لستُ أقول هذا مجرد كلام فارغ. من بين كل ما رأيتُه في حياتي… أظنكِ الكائن الأجمل على الإطلاق.”
لم أتوقع أن يجيب بهذه الصراحة البالغة. شعرت بالارتباك، لكنني في الوقت ذاته سررت. فلا أحد يمكنه أن يسمع مثل هذا المديح من دون أن يخفق قلبه.
وقد أحسست بصدق كلماته. ولم تكن مجرّد كلمات عامة، بل انطباع خاص من كواناش نفسه، مما جعلها أكثر خصوصية. كان ثناءً صادرًا من رجلٍ وُصف بجماله لدرجة أنه يُربك الجميع، ولذلك ازدادت قيمة قوله.
وإذا كان رجل جاب القارة بطولها وعرضها يقول إنني أجمل ما رأته عيناه، فإن وقع ذلك لم يكن بسيطًا.
“يبدو أنني على ذوق كواناش …”
ما زلت لا أفهم كيف، لكن الأذواق تختلف. لطالما اعتبرتُ الحب والعلاقات شيئًا لا يخصني، بل شيئًا بعيدًا لا ينبغي لي التفكير فيه أصلًا. ومع ذلك… لم تعد مواقفه الودودة تجلب لي الضيق كما في البداية.
تابع كواناش، وهو يثبت عينيه عليّ مباشرة:
“آه، ولم أقصد الجمال الخارجي فقط. يصعب عليّ التعبير… لكنني شعرت أن شخصكِ كله جميل. أعجبني صدقكِ… ولطفكِ أيضًا…”
كلما طال حديثه، ازداد وجهه تصلبًا. بدت ملامحه القاسية أكثر حدّة، لكن عينيه وحدهما ارتعشتا بوهج لطيف، ما كشف أنه كان متوترًا وحسب.
“هل… هل أعبر بشكل صحيح؟ لا أعلم. لست معتادًا على قول مثل هذه الأشياء.”
قطّب حاجبيه قليلًا وهو يراقب رد فعلي.
فجأة، تذكرت الدببة السوداء التي يُقال إنها تعيش في جبال مملكة أكايا الوعرة. لم أرها بعيني من قبل، لكنها كانت كثيرًا ما تظهر في صور وأساطير بلادي.
وحوش ضخمة وشرسة… مفترسات الشمال.
لكن قيل أيضًا إنه إذا نشأت منذ صغرها في رعاية البشر، فإنها تتعود عليهم، وتصبح وديعة تمامًا أمام أصحابها، كحملان صغيرة.
فهل يعقل أن يكون إمبراطور رادون نفسه… وديعًا فقط أمامي؟
أم أن هذا مجرد وهمٍ متغطرس مني؟
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 24"