حين رأيته يخطو نحوي بخطوات ثقيلة، سارعت إلى إعادة الكتاب الذي كنت أقرأه إلى الرف. وما إن وصل أمامي حتى اندفع بالكلام دفعة واحدة.
“تتركين الغداء والعشاء معًا، ثم ماذا؟ تبقين هنا تفعلين هذا؟ هل قررتِ أن تنهاري عمدًا؟ بسببك لم أستطع التركيز في عملي. كنت قلقًا! أنا حقًا……! هاه، لا تنظري إلي هكذا. اللعنة. حتى الغضب لا أستطيع إخراجه. هل الجمال يكفي لكل شيء؟”
أطلق كواناش أنفاسًا ساخنة متلاحقة، وصدره العريض يرتفع ويهبط بعنف.
ارتبكت أمام اندفاع زوجي المفاجئ، ونظرت إليه بذهول.
“آه، هل مر الوقت إلى هذا الحد فعلًا؟”
أتراه المساء الآن؟ كنت أظن أن ساعة أو ساعتين فقط قد مرتا.
وحين فكرت في الأمر، بدا لي أن ماريان قد نادتني عند أوقات الوجبات. لكني كنت غارقة تمامًا في التركيز حتى لم أشعر بالجوع، وأعدتها من حيث جاءت.
حرّك كواناش شفتيه كأنه سيقول شيئًا آخر، لكنه لم يخرج إلا تنهيدة طويلة. بدا أني أقلقته من غير قصد.
خرجت تمامًا من بين رفوف الكتب ووقفت أمامه.
“آسفة يا كواناش. لم أشعر بمرور الوقت وأنا أقرأ.”
“……”
“هل أنت غاضب؟”
فجأة انفرج التوتر من كتفيه المتصلبين، وتبدلت ملامح وجهه التي كانت تنضح حدّة، فصار يسري فيها شيء من الليونة. مع ذلك بقيت تقاطيعه قاسية في ظاهرها.
قال بصوت مكسور قليلًا:
“لم أقصد أن أغضب عليك. لكن خرجت كلماتي خشنة. ربما رأسي لم يعد يعمل من كثرة القلق عليك. سمعتِ أنك لم تأكلي شيئًا وبقيتِ هنا فقط…… آسف.”
“لا بأس. الأمر عادي.”
كان رجلًا لم أستطع أن أقرأ ما بداخله في البداية، لكن بعد بضعة أيام من ملازمته، صرت ألتقط شيئًا من مشاعره.
(إنه يبدو كئيبًا).
في النظرة الأولى، وجهه مجرد ملامح مخيفة. لكني كنت ألمح انحناءة طفيفة في أطراف حاجبيه الكثيفين.
أرجعت رأسي إلى الوراء تمامًا لأتأمله بدقة أكبر. وكلما أمعنت النظر، استطعت أن ألتقط آثار مشاعر صغيرة تظهر وتختفي على وجهه.
كان الأمر ممتعًا، أشبه بفكّ رموز لغز، فوجدتني غارقة فيه دون وعي. عندها سعل كواناش مرتين متصنّعًا، وقال:
“هل عَلِقَ شيء بوجهي؟”
“هاه؟ لا، فقط كنت أتأمل لأنه غريب بالنسبة لي.”
“……غريب؟ بأي معنى؟”
“أقصد أن تعابيرك أكثر تنوعًا مما ظننت.”
“هذه أول مرة أسمع مثل هذا الكلام.”
“ربما لأن الناس لا يتأملونك عن قرب. حتى أنا كنت كذلك في البداية.”
توقف كواناش لحظة، ثم أومأ ببطء. واهتزت حدقتاه السوداوان متجهة لا إلى عيني بل نحو منتصف وجهي.
(هل يشعر بالخجل؟)
تفادى نظري بنصف هروب، وارتعش طرف فمه، وتحرك تفاحة آدم لديه بوضوح مرتين أو ثلاثًا. ومع أن الإضاءة كانت ضعيفة، بدا لي وجهه أشد احمرارًا مما قبل.
لم يجرؤ على النظر إلي مباشرة، لكنه مدّ يده نحوي فجأة.
“على كل حال…… لنخرج من هنا. هل أنهيتِ ما أردتِ قراءته؟”
“ما أردت قراءته لهذا اليوم، نعم. سأعود غدًا. وسأحرص على تناول الوجبات من الآن.”
“أرجوكِ افعلي.”
ما إن قال ذلك حتى اجتاحني الجوع دفعة واحدة، حتى شعرت بدوار خفيف.
أمسكت يد كواناش بقوة، وبدأنا نسير.
أمال رأسه قليلًا وهو ينظر إلي، ثم فجأة جذب يدي ليضعها في باطن ذراعه.
“التشبث بالذراع أكثر راحة.”
“حقًا؟”
“……ربما. أو دعي الأمر.”
سدد بصره مباشرة إلى الأمام، وكأنه يخفي شيئًا.
(آه، لقد خجل مجددًا).
ارتعش فكّه القوي. وكلما اكتشفت فيه جانبًا غير متوقع، بدا لي هذا الزوج، الضخم ضعف حجمي، وكأنه……
(لطيف).
يا للغرابة. هذا الرجل الذي لُقِّب بـ”حاكم الشمس”، المشع بالمهابة، بدا لي لحظةً طريفًا ووديعًا.
لكني لم أبوح بذلك، خشية أن يسيء فهمي. احتفظت بالفكرة لنفسي.
سرت بجانبه وأنا متشابكة الذراع معه. حرارة ذراعه الصلبة اخترقت حتى طبقات الثياب.
وفي اللحظة التي خرجنا فيها من المكتبة……
“ما كل هذا؟”
أمام المكتبة، في الحديقة المُلحقَة بها، كان ثمة مائدة مهيبة منصوبة. مزيج متقن بين تقاليد الجنوب والشمال. تفوح منها رائحة طازجة دافئة تسحر الأنف.
قال كواناش:
“ظننتك جائعة، فأمرت بإعداد الطعام هنا.”
“كل هذا الكثير؟”
“سأشاركك أيضًا.”
رافقني بلباقة إلى الكرسي وساعدني على الجلوس. بقيت مذهولة بعض الشيء من رِقته.
“لعل البرد يزعجك قليلًا وأنتِ في الخارج.”
أخذ بطانية سميكة من يد الخادم ووضعها فوق كتفيّ. ثم جلس قبالتي، يحدّق فيّ، بنظرة تنمّ عن شيء من التوتر.
عبثت بأطراف البطانية وقلت:
“كواناش، ألم تتناول طعامك بعد؟”
“لا.”
“لا بد أنك كنت جائعًا وأنت منشغل بشؤون الحكم.”
“وهل لكِ أن تقولي هذا وأنتِ التي أسقطت الغداء والعشاء معًا؟”
“……هذا صحيح.”
“لا يصلح هذا. من الآن فصاعدًا، سنتناول الوجبات معًا في كل مرة. سأجيء إليك حيثما كنتِ.”
“ألن يكون ذلك متعبًا لك؟”
“وأنتِ…… ألا يزعجك أن آتي إليك كل مرة؟”
كان في صوته توتر ظاهر. في البداية كنت أحسب مثل هذا النبر غضبًا، أما الآن فقد بدا لي مختلفًا.
هذا الرجل الذي صعد إلى السرير البارحة يطلب أن ننام معًا، ها هو الآن يتوتر لمجرد اقتراح تناول الطعام سويًا.
ابتسمت وقلت:
“لا. لن يكون مزعجًا.”
“……حقًا؟”
“نعم. أنا بطبيعتي أحب الوحدة. لكن…… لا بأس أن أعتاد وجودك.”
“إن لم تريدي فلا حاجة لأن تجبري نفسك.”
“لست مجبرة. صدقني.”
“هذا يطمئنني. هيا، تناولي. سيبرد الطعام.”
“حسنًا.”
رغم أن الليل كان يرسل رياحه الباردة، إلا أن البطانية كانت كافية، وفوق ذلك أُضرِم موقد صغير قربنا ينفث دفئه اللطيف.
اختلطت في الحديقة روائح العشب الطازج بأريج الأطعمة الشهية. كان عشاءً أعدّه زوجي خصيصًا من أجلي في هذا الليل.
بدأت أتناول الحساء ببطء، وأنا أرمقه بطرف عيني.
(لماذا يعاملني بكل هذا اللطف؟)
حتى لو أعجب بي، فأنا مجرد امرأة لم يعرفها إلا منذ أسبوع تقريبًا.
وكلما أدركت جانبه العطوف الذي لم أعرفه في حياتي السابقة، ازددت عزمًا على أن أمنع ذلك المستقبل الذي يجن فيه ويفقد رشده.
—
بعد أن استمتعنا بالعشاء في حديقة المكتبة، نمنا مجددًا معًا على سرير واحد. وكالعادة، لم يتجاوز الأمر سوى إمساك الأيدي.
ولم أعد أشعر بتوتر كبير من وجوده بجانبي. بل سرعان ما غرقت في نوم عميق، ويدي الصغيرة مستقرة في كفّه القوي.
أنا التي أعشق النوم، استيقظت في الوقت الذي كان فيه كواناش يحضر الاجتماع الصباحي المعتاد. وقد عقدت العزم اليوم على زيارة الحديقة الزجاجية؛ حيث يتركز أكبر عدد من نباتات القصر.
كنت أود الاستماع إلى القصص التي تتناقلها النباتات هناك، ثم البحث لاحقًا في المكتبة عن معلومات حول “إلف الغابة”.
بعد فطور خفيف، رافقتني ماريان حتى بوابة الحديقة الزجاجية. انعكس ضوء الشمس الحاد على زجاجها اللامع فبرق كالألماس.
حتى من الخارج بدت شاسعة بلا نهاية. وحين دخلت، أحسست وكأني في غابة عظيمة.
كان السقف الزجاجي يرتفع عاليًا حتى لا يكاد يُرى. في كل مكان نباتات غريبة لم أرها من قبل.
تحت رعاية بستانيين مهرة، نمت جميعها بكثافة دون ورقة ذابلة واحدة.
لم أحتج حتى إلى محادثتها مباشرة، فقد كان جو السعادة والخضرة يفوح منها ويملأ المكان. ورائحة العشب الكثيف بدّدت عن جسدي كل توتر.
(لا بد أن أزور هذا المكان كثيرًا، حتى ولو لمجرد الاسترخاء، لا لجمع المعلومات فقط).
التفتُّ إلى ماريان، التي كانت تتبعني بصمت خلفي، وقلت:
“ماريان، سأجول وحدي قليلًا.”
فانحنت بانضباط، ثم انسحبت خارج مجال بصري.
كنت أنوي من الآن أن أتحدث مع النباتات، ولم أرغب أبدًا أن يطّلع أحد على ذلك المشهد.
صحيح أن الناس يعرفون بأني “مستيقظة الكاتاتيل” القادرة على إنماء النبات، لكني لم أعلن يومًا أني أستطيع محادثة النباتات.
(فهذه القدرة يكون أثرها أعظم ما دامت مخفية عن الآخرين).
لقد جئت إلى هذا الإمبراطورية بلا سند، وحيدة تمامًا. ليس لي في هذه الأرض بعدُ تابع مخلص أركن إليه. لكن الأزهار والأوراق لا تخون أبدًا. كانت دومًا في صفي.
هم عيناي وأذناي، أصدقائي الموثوقون، العابقون بالخضرة.
صحيح أنني ابتعدت كثيرًا عن “الغابة الفضية” فضعُفَت قوتي، لكن الحديث مع النباتات لم يزل أمرًا يسيرًا.
وقفت أمام نبات لم أره من قبل، ومددت أصابعي بحنو إلى أوراقه الخضراء المائلة للصفرة.
(مرحبًا. يا له من مكان جميل. هل تأذن لي ببعض الحديث؟)
ما إن همست بذلك، حتى دوّى في رأسي صوت رقيق، لا أستطيع أن أميز جنسه.
<إذن لهذا شعرت كأنني ارتشفت ماءً عذبًا حين لامستك!>
(أحقًا؟ هذا يسعدني. أنا يُوسفِر. بشرية كانت تعيش في أقصى الشمال، وقد جئت إلى هذه الأرض منذ أيام قليلة. لكني ما زلت بلا صديق هنا. هل لك أن تحدثني عن هذا القصر؟)
<للأسف، لا أعرف الكثير، أيتها القادمة من الشمال. فأنا غُرِست هنا منذ وقت قريب. لكني أعرف من هو أقدم شجرة جذورًا في هذه الأرض. سأعرفك إليه. اذهبي وقابليه.>
(آه، ممتنّة لك حقًا).
<آه! قد لا يكون هذا ذا فائدة كبرى، لكن……>
(هل لديك ما تخبرني به؟ إن كان من حكمة النباتات فأنا أرحب دائمًا).
<لقد رأيتُ المرأة التي قدمتِ معها قبل قليل هنا مرات عدة.>
(ماريان؟ التي طلبتُ منها أن تبتعد الآن).
<نعم. هكذا كنتِ تنادينها.>
أرسلت نظرة سريعة نحو الاتجاه الذي انسحبت إليه ماريان.
(لماذا جاءت ماريان، وهي برتبة كبيرة كـ”رئيسة وصيفات”، إلى هذه الحديقة الزجاجية؟ ثم تكررت زيارتها غير مرة؟ هذا المكان ليس ضمن مسؤولياتها).
(……هل لي أن أرى ذكرياتك؟)
<بالطبع! عجيب…… أشعر أنني أريد أن أفعل أي شيء لأجلكِ، يُوسفِر.>
(هذا شرف لي).
ابتسمت بهدوء، وأغمضت عيني.
فبدأت ذكريات الروح الكامنة في النبات تتدفق إلى داخلي. المشاهد التي وقعت في هذه البقعة أخذت تتجسد بوضوح في رأسي.
……لكنها لم تكن مناظر مُريحة على الإطلاق.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 21"