بعد يومين تقريباً من ركوبنا المتواصل من الميناء، وصلنا أخيراً إلى عاصمة إمبراطورية رادون.
قال كواناش:
“سندخل بهدوء ودون ضجة.”
كان كواناش قد أمضى الرحلة كلها معي داخل العربة، ويبدو أنّه كان ينوي التصرف بنفس الطريقة حتى في طريق دخوله القصر الإمبراطوري.
قلت مترددة:
“لكن، مواطنو الإمبراطورية كانوا بانتظارك بلا شك… ألا يصيبهم هذا بخيبة أمل؟”
ابتسم بخفة وأجاب:
“سألقي خطاباً عاماً بعد بضعة أيام، فلا بأس. أعتقد أنه من الأفضل أن يروك بعد إقامة حفل زفاف كبير هنا. ثم إنّ الفرسان أيضاً مرهقون تماماً.”
هززت رأسي موافقة:
“نعم… كلامك منطقي. ربما ما زال من الصعب على مواطني رادون تقبّل أنني أصبحت الإمبراطورة.”
كان المرور في العاصمة يخضع لرقابة صارمة.
دخلت القصر الإمبراطوري بهدوء دون أن ألتقي بعد بالرعية الذين أصبحوا حديثاً شعبي.
—
* * *
بمرافقة وصيفات وفرسان، توجهت إلى المكان الذي سأقيم فيه داخل رادون. أما كواناش، فقد افترق عني بعد أيام قليلة ليباشر معالجة شؤون الدولة المتراكمة أثناء غيابه.
كان القصر الإمبراطوري شاسعاً ومهيباً، يجمع بين الاتساع والفخامة. تصميمه أظهر حرصاً على البساطة العملية مع الحفاظ على الوقار.
إن كان قصر أكايا الملكي يركز على البذخ والجماليات، فإن هذا القصر كان على النقيض تماماً؛ الكفاءة والعملية طغتا على كل شيء، ما عكس شخصية كواناش بوضوح.
لكن بين تلك الأبنية، لفت نظري بناء واحد بدا غريباً عن الجو العام. بدا وكأنه جناح فرعي، إلا أن بصري انجذب إليه تلقائياً.
(هذا… يشبه طراز مباني أكايا!)
كان مزداناً بزخارف دقيقة ومنحوتات ناعمة وانحناءات أنيقة. بدا وكأنه نسخة من القصر الذي عشت فيه عمري كله.
سألت الفارس الذي كان يرافقنا:
“ما ذاك المبنى؟”
أجاب:
“آه، إنه جناح فرعي بُني مؤخراً. لم يُفتح بعد، لذا لا نعرف الغرض منه تماماً. لكن يُقال إن حديقته الأمامية غاية في الجمال، يا جلالة الإمبراطورة.”
مررنا بذلك الجناح الواقع شرقاً، واتجهنا مباشرة إلى القصر الرئيسي.
كانت غرفتي تقع في الطابق الثاني من القصر الرئيسي. وقد أخبروني أن الغرف العديدة في ذلك الطابق مخصصة مستقبلاً لأبناء العائلة الإمبراطورية الذين سيولدون.
أمام مدخل جناحي، اصطفت عدة وصيفات يرتدين زياً رسمياً أنيقاً.
إحداهن تقدمت خطوة وقالت بانحناءة:
“تشرفت بلقائكم، يا جلالة الإمبراطورة. اسمي ماريان، وسأتولى خدمتك من اليوم فصاعداً.”
أجبتها بابتسامة:
“تشرفت، وأتمنى تعاونك.”
كانت ماريان تبدو صارمة للغاية. بدت في أواخر العشرينات من عمرها، شعرها البني مرفوع بعناية دون خصلة واحدة سائبة، وعيناها كالكهرمان اللامع، وطولها يفوقني بكثير ما أعطاها حضوراً مهيباً يصعب الاقتراب منه.
ومع ذلك، أعطتني انطباعاً بأنها كفؤة وتؤدي عملها بإتقان.
قالت:
“سأبذل قصارى جهدي لتعيشي في هذا القصر براحة تامة دون أي إزعاج، يا جلالة الإمبراطورة.”
فتحت لي باب الجناح، فدخلت ببطء.
كانت الغرفة أوسع بخمس مرات من تلك التي اعتدت الإقامة فيها في قصر أكايا.
كنت قد ظننت أثناء تجوالي في أروقة القصر أنّ رادون تكره المبالغة في الترف وتركّز على الجمال العملي، لكن… يبدو أن كل ما غاب عن الخارج جُمِع في هذه الغرفة.
لقد بالغوا في إظهار الفخامة هنا، ربما لأنها غرفة الإمبراطورة. لكن لم يكن ثمة داعٍ لذلك برأيي.
كل مكان وقع عليه بصري كان يلمع بالذهب: من أصغر الزخارف، إلى الحواشي والإطارات وحتى سرير النوم. كان العثور على مكان بلا ذهب أصعب من العثور على مكان فيه ذهب.
أما السقف المقبب فكان يتدلى منه ثريا ضخمة مرصعة بالماس حول الشموع، فعكست ضوء النهار نفسه ببريق يخطف الأنظار.
لم أشعر أن هذه الغرفة تناسبني إطلاقاً. بدت كغرفة ضيوف فاخرة مؤقتة، لا كمكان أعيش فيه. والجو المهيب جعلني أشعر بالضغط.
سألت ماريان وأنا أتفقد المكان بتوتر:
“أين تقع قاعة استقبالي؟”
أجابت:
“قاعة استقبال جلالتك تقع في الجناح الفرعي الجديد خارج القصر الرئيسي. ربما رأيتِه في طريقك.”
فتحت عيني بدهشة:
“أتقصدين أن ذاك المبنى كله مخصص لي؟”
قالت بهدوء:
“نعم، جلالة الإمبراطورة. وقد أمر جلالة الإمبراطور أن يكون تحت تصرفك الكامل لأي غرض ترغبين به.”
(يا إلهي… هذا كثير.)
كان المبنى واسعاً بما يكفي لإقامة حفلات راقصة فيه، والآن هو ملكي بالكامل.
لكنني بطبيعتي بعيدة عن الحفلات واللقاءات الاجتماعية، فكيف سأستعمله كثيراً؟
(لا… ربما كواناش منحه لي لأنه يريدني أن أستعمله في مثل هذه الأمور.)
فأنا لم أعد مجرد أميرة منسية تقضي وقتها في غرفتها، بل أصبحت سيدة إمبراطورية فتية لم يمضِ على تأسيسها سنوات كثيرة.
ربما كان كواناش يتوقع مني أن أخوض غمار الصراعات السياسية الدقيقة بين سيدات النبلاء.
فالمكانة التي أحملها الآن مختلفة تماماً، ويبدو أنني سأضطر للانخراط في الحياة الاجتماعية أكثر بكثير مما كنت في أكايا.
(مجرد التفكير في ذلك يشعرني بالإرهاق.)
لاحظت ماريان علامات التعب بادية على وجهي، فانحنت قليلاً قائلة:
“لا بد أن عناء السفر أنهكك، هل آمر بإعداد ماء للاستحمام؟”
قلت ممتنة:
“نعم، سيكون ذلك جيداً. شكراً لك.”
ابتسمت وأضافت:
“سأجهز كميات وافرة من الزيوت العطرية أيضاً. وبما أن هذه الليلة ستكون أول ليلة لك في القصر مع جلالة الإمبراطور، فقد أوصيت الخدم بالاهتمام بأدق التفاصيل.”
تجمدت ملامحي للحظة:
“……ماذا؟”
ارتجف قلبي عند سماعي كلمة “ليلة الزفاف”. وبعد أن استوعبت جيداً جملة “في القصر”، فهمت ما قصدته.
لقد كانت ماريان تظن أننا بالفعل قد قضينا ليلة الدخلة.
لكن الحقيقة أنني، رغم بقائي ملاصقة لكواناش أياماً عديدة، لم أنم إلى جانبه أبداً. كان يقول لي كل ليلة: لا تقلقي بشأني، نامي أولاً.
في البداية كنت متوترة من وجوده، لكن مع مرور الوقت، اعتدت عليه. وفي النهاية كان الإرهاق يغلبني، فأغفو رغماً عني.
وعندما أستيقظ صباحاً، أجده جالساً بجانبي بملامح مرتبة، وكأنه لم ينم أصلاً. يبدو أنه كان ينام متأخراً ويستيقظ قبلي.
أنا أعلم أن علاقتنا ما تزال عفيفة تماماً، لكن من منظور الآخرين…
(طبعاً! لا بد أنهم يظنون أننا قضينا ليلة الزفاف بالفعل، خصوصاً وأنه كان يمكث في غرفتي حتى وقت متأخر كل ليلة.)
ارتفع الدم إلى وجنتي وحرارتي إلى رقبتي. فنحن زوجان الآن، وليس في الأمر ما يدعو للخجل، لكن…
(ماذا عن الليلة؟ هل سيأتي كواناش إلى غرفتي؟)
شعرت بتوتر مختلف كلياً عن السابق. وزاد الأمر حرجاً جدية ماريان حين قالت إنها ستتولى التحضير بعناية لليلة الأولى في القصر.
وكأن ذلك لم يكفِ، حتى عاد إلى ذهني بوضوح ما قاله كواناش سابقاً:
“قلت إنني سأنتظر حتى تكوني مستعدة… لكن لا تفقدي حذرك تماماً وأنا قربك. فلست رجلاً يمكن الوثوق به تماماً.”
(يا ترى… هل ستكون الليلة بخير؟)
—
* * *
غربت شمس اليوم الأول لي في القصر الإمبراطوري.
كانت هذه أول مرة منذ زواجنا أن أفترق عن كواناش نصف يوم.
لقد قال لي من قبل إنه، بمجرد عودتنا إلى القصر، سيكون مشغولاً لدرجة أننا لن نستطيع البقاء معاً كثيراً… ويبدو أن العمل الذي تراكم أثناء غيابه كان بالفعل كثيراً.
أما أنا، فاكتفيت بجولة سريعة في أرجاء القصر برفقة ماريان، ثم عدت إلى غرفتي لأستريح. فقد انحلّ توتري المتراكم في رحلة السفر دفعة واحدة، ما جعلني أشعر بإرهاق شديد.
(إن كنت أنا متعبة لهذا الحد، فكيف حال كواناش المشغول بأمور الدولة؟)
وبينما كنت وحيدة، وجدت نفسي أفكر به مراراً. ربما اعتدت على بقائه بجانبي طوال الأيام الماضية حتى صارت الوحدة غريبة علي.
الآن أجلس في غرفة نومي المزينة، بانتظار عودته. كان الليل قد أرخى سدوله، والثريا فوقي تبعث ضوءاً ناعماً من الشموع.
تناثرت بتلات الورد على السرير، وانبعثت رائحة مثيرة من الشموع العطرية المحترقة، فاشتعل وجهي خجلاً من الجو الصريح.
على الطاولة بجوار السرير، وُضعت زجاجات صغيرة تحوي زيوتاً عطرية. أعطتني إياها ماريان، قائلة ببرود مهني:
“هل شعرتِ بألم أثناء العلاقة؟”
كدت أختنق من الخجل، فأجبتها مترددة:
“آ… الألم؟”
لكنني لم أختبر ذلك أصلاً، فكيف أعلم؟
ويبدو أنها اعتبرت ترددي اعترافاً ضمنياً، فأشارت إلى إحدى الزجاجات ذات اللون الوردي الخفيف وقالت…
قالت ماريان وهي تشير إلى إحدى الزجاجات الوردية اللون:
“إنه زيت عطري يحتوي على تأثير مهدئ وقليل من الخاصية المثيرة . سيكون مفيداً عند العلاقة الزوجية، فلا تخجلي وقدّميه لجلالة الإمبراطور.”
حدّقتُ للحظة بزجاجة الزيت التي خصّتها بالكلام، ثم أطرقت رأسي خجلاً. وضغطت بظهر يدي على وجنتي المشتعلتين من الحرارة والحرج.
في تلك اللحظة، سُمعت أصوات الحراس:
“جلالة الإمبراطور يدخل!”
وانفتح باب غرفة النوم، ليدخل كواناش. ارتجف صدري بقوة وانقبض بشدة تحت وطأة التوتر المفاجئ.
كان كواناش يرتدي كعادته قميصاً حريرياً مفتوحاً عند الصدر، مما أبرز جزءاً من عضلاته المشدودة. كان القماش الناعم يلتف حول جسده الصلب فيزيده جاذبية.
كان فتحة الياقة مائلة وعميقة بحيث انكشف نصف صدره تقريباً. ورغم محاولتي صرف بصري، إلا أنّ مساحة الجلد الظاهرة جعلت نظراتي تنجذب نحوه من غير وعي.
اقترب كواناش مني بخطوات هادئة، بينما كنت جالسة على السرير. وانعكس ضوء الشموع الخافتة على ملامحه الحادة، فزادته رهبة وجاذبية في آن واحد.
كنت متوترة بسبب كلام ماريان عن “ليلة الزفاف”، لكن في الوقت نفسه شعرت بالفرحة لرؤيته بعد نصف يوم من الفراق. أردت أن أسأله كيف كانت أعماله، غير أن الكلمات علقت في حلقي كلما اقترب مني أكثر.
كان وجهه أشد صرامة من المعتاد، ونظراته متركزة عليّ بحدة.
قال باسمي بصوت منخفض وثقيل:
“يوسبيا.”
أجبت همساً:
“ن… نعم.”
تمتم وهو يحدق بالغرفة:
“أجواء غرفة النوم… حقاً…”
لكنه لم يُكمل، وأنا أيضاً آثرت الصمت. يبدو أنه شعر، كما شعرت أنا، بهذه الأجواء المتكلّفة التي بذل فيها الخدم جهدهم لدفعنا دفعاً نحو ما يظنونه “واجب العروسين”.
كلما طال الصمت، ازداد الموقف حرجاً. فقلت مترددة:
“أظن أن الوصيفات أرادت العناية بالأجواء لأنها أول ليلة لنا في القصر.”
رد باقتضاب:
“أها… فهمت.”
ثم عاد الصمت بيننا. ضاق صدري وكأنني لا أستطيع التنفس، فتنحنحت بلا سبب. وللحظة، بدا كواناش كأنه يقلّدني، إذ بلع ريقه وأصلح صوته مرتين.
ثم رفع بصره نحوي وقال:
“إذن… هل هذا هو السبب وراء… طريقتك في ارتداء ملابسك الليلة، يوسبيا؟”
وانزلقت نظراته عليّ ببطء من أعلى رأسي إلى أسفل قدميّ.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 17"