رأيت أخي الأصغر جينر جالسًا في الصفوف الأمامية. كان وجهه قد احمرَّ تمامًا، وعلامات الغضب الشديد مرتسمة عليه. بدا وكأنه يحاول جاهدًا أن يمنع نفسه من الصراخ بوجه “أيها الوقح!”.
أما دياكويت، فكما هي عادته كان يرتدي قناع الهدوء، غير أن تقطيب حاجبيه الخفيف فضح استياءه.
المستشارون الآخرون كانوا على وشك الانهيار من الصدمة. ولحسن الحظ، والدي الذي كان طريح الفراش لم يتمكن من الحضور؛ ولو كان حاضرًا لربما ازدادت حالته سوءًا.
في القاعة المليئة بالذهول والارتباك، دوى صوت كواناش:
ــ “هل انتهت المراسم الآن؟”
ــ “ن… نعم…”
أومأ الكاهن الذي كان يدير المراسم بسرعة مرتجفة. عندها عاد كواناش ليحدق بي من علٍ وقال:
ــ “سمعتم. من الآن فصاعدًا أنت رسميًا زوجتي، يوسفير كاتاتيل رادون.”
لقد ناداني باسم عائلة جديد: رادون.
بعينين سوداويتين متقدتين، لا يمكن التكهن بما يخفيانه في داخله.
—
“كأن الأمر أسرع من حياتي السابقة…”
لم يرد كواناش إقامة وليمة عرس، بل أراد التوجه مباشرة إلى الإمبراطورية فور انتهاء المراسم. ولم يكن هناك من يجرؤ على مخالفة إرادته، لذا سارت الأمور بسرعة خاطفة كما أراد.
مُنحت وقتًا قصيرًا لأودع عائلتي، لكن لم يكن مسموحًا بأكثر من ذلك.
خلعت فستان الزفاف الثقيل، وارتديت فستانًا أخضر اللون كان قد أحضره كواناش. بدا أنه من أحدث صيحات الموضة في الإمبراطورية.
“هل أحضر لي فستانًا أيضًا في المرة السابقة؟”
لست متأكدة، إذ لم أكن أعير الملابس اهتمامًا كبيرًا.
لكن شعورًا غريبًا تملكني:
“الأحداث اليوم تنحرف قليلًا عما أذكره…”
تفاصيل صغيرة تغيّرت… هل هي بشائر خير أم نذير سوء؟ لا أدري.
بمساعدة الوصيفة ارتديت الفستان الجديد. كان علي أن ألبس ثلاث طبقات من التنورة، وقد زُين في كل مكان بالدانتيل الفضي المحبوك بدقة مذهلة.
وحين اقترب وقت ركوب العربة الإمبراطورية، بدأ التوتر الذي كنت أداريه يظهر تدريجيًا على السطح.
اللحظة التي متُّ فيها سابقًا كانت تقترب.
لا بد أنني سأمر بجوار تلك الشجرة التي قيّدتني كروح ثلاثة أعوام كاملة.
ارتديت زينة رأس يغطيها حجاب أبيض نصف شفاف كي أخفي ارتباكي. ثم شددت عزيمتي مرارًا قبل أن أغادر القصر الملكي.
كنت قد زرت والدي قبل قليل لأودعه في فراشه. وقد ذرف دموعًا قهرًا وهو يودعني…
ــ “من أجل شمس رادون!”
ما إن ظهرت حتى علت أصوات فرسان الإمبراطورية بهتاف جماعي. كانوا مصطفين في صفين مهيبين، رافعين سيوفهم نحو السماء.
سرت بينهم حتى وصلت إلى نهاية الصف، حيث كانت تنتظرني العربة وكواناش .
وعندما وقفت أمامه، ألقى عليّ نظرة فاحصة من أعلى إلى أسفل، ثم قال بصوت منخفض مبحوح:
ــ “أبهذا القدر تكرهين الأمر؟”
ــ “ماذا…؟”
ــ “ستجدين أن العيش في إمبراطورية رادون ليس بهذا السوء.”
تجمدت من عبارته المفاجئة، ثم أجبت بعد لحظة:
ــ “أنا لا أكره الذهاب إلى رادون، كواناش.”
ــ “لكن وجهك يوحي وكأنك ستموتين في أي لحظة.”
ــ “هذا فقط من شدة التوتر.”
رمقني كواناش بنظرة غاضبة وقال:
ــ “إذن لا بد أن أركب معك في عربتك.”
لم أتوقع هذا أبدًا، فارتبك تفكيري. الأحداث تسير مختلفة عن المرة السابقة.
ــ “معي؟ لكن… الأعراف…”
كان لديه جواد أسود جاء به بنفسه، وهناك عربة واحدة فقط مخصصة لي.
ــ “أعرف أن في الشمال يُعد من قلة الاحترام أن يركب العريس مع عربة العروس.”
إذن، لماذا يفعل هذا إذًا؟
في كل المرات التي استرجعت فيها أحداث هذا اليوم، لم يحدث أن جلس كواناش في عربتي.
لكن الوضع الآن يتغير في اتجاه لم يخطر لي على بال.
ــ “لكن ملامحك تخبرني أن تركك وحدك أمر مقلق. تبدين وكأنك ستسقطين أرضًا أو… ربما تفكرين بالهرب؟”
ــ “الهرب؟ لا، هذا غير وارد أبدًا.”
ــ “وكيف تضمنين ذلك؟”
ــ “لقد عقدنا للتو قسم الزواج. أنا الآن زوجتك، ومن واجبي أن أعيش كزوجة لك.”
ــ “مخلصة جدًا… هل كل الأميرات يولدن هكذا؟”
كان صوته يحمل نبرة ساخرة فجأة.
أما أنا، فانشغلت بالتفكير:
“هل أوافق أن أركب معه؟”
لا أستطيع استبعاد احتمال حدوث محاولة اغتيال. لقد استعددت لمواجهة الخطر إن وقع.
لم أقلق على نفسي، بل على كواناش نفسه. فلو كان السهم الموجه لي أصابه عن طريق الخطأ…
وبينما غصت في الصمت، قال بصوت أجش:
ــ “هل إلى هذا الحد تكرهين الركوب معي؟”
أفقت من شرودي، وهززت رأسي.
ــ “لا، كنت فقط شاردة بأفكاري.”
ــ “بأي أفكار شاردة هذه؟”
ــ “…”
ــ “يبدو أنك حقًا تعانين. أفهم أنك لا ترغبين بمرافقتي، لكن مع ذلك… سأركب معك. حتى لو وصفتني زوجة منذ يومنا الأول بالوقح، فلا بأس.”
أدركت أن رفضي سيغضبه كثيرًا منذ يومنا الأول.
وأيقنت أني قادرة على حمايتنا نحن الاثنين بسحري إن لزم الأمر.
ــ “لا، لا أكره ذلك. بل يشرفني أن تركب معي.”
ضغط كواناش شفتيه الممتلئتين معًا.
ــ “لا حاجة لأن تقولي إنك لا تكرهين….”
حدقت فيه بدهشة.
“لماذا يظن باستمرار أني أكرهه؟ هل لأنه زواج بلا حب، أشبه بالبيع؟ أم لأنه هو نفسه لا يحبني؟”
كل تلك احتمالات مفهومة. ومع ذلك كان علي أن أحافظ على علاقتنا سلسة، فتابعت بنبرة هادئة:
ــ “أنا فقط متوترة، لا أكثر. لا توجد عروس في يوم زفافها تبدو هادئة.”
ــ “…”
ــ “سأكون ممتنة إن شاركتني عربتي. أتمنى ألا يكون الأمر مزعجًا لك؟”
ــ “لماذا؟”
استغربت حدة رده على جملة أضفتها لمجرد المجاملة.
ــ “أعني… إن شعرت أن العربة ضيقة…”
ــ “أي هراء هذا؟”
فجأة صار صوته خشنًا بعد أن كان محافظًا على نبرة مهذبة.
ــ “ماذا تظنينني بالضبط؟”
أظنه إمبراطور رادون، إمبراطور الفقراء، إمبراطور الشمس. ورجل لا يناسبه إلا تلك الألقاب المهيبة، بما له من جاذبية وسلطة.
مع أن في حياتي السابقة كان العدو الذي سحق وطني.
ــ “لقد كنت عبدًا في الأصل. اعتدت أن أنام مع آخرين في مكان لا يبلغ ربع حجم هذه العربة. ألا تعرفين أصلي؟ هل وافقت على الزواج بي دون أن تعلمي من أكون؟”
قال كواناش ذلك بصوت حار كأنه يهاجمني.
أربكني كلامه. كيف لا يعرف أن الجميع يعلم؟ حتى أطفال القرى النائية يحفظون مآثر كواناخ عن ظهر قلب.
ظننت أنه ربما يختبرني، لكن عينيه كانتا جادتين جدًا.
فتمسكت بأطراف فستاني وأجبته:
ــ “كنت أعلم منذ زمن بعيد، قبل أي أحاديث زواج. أعلم أصلك، وكل بطولاتك أيضًا.”
ــ “بطولات؟”
ضحك بسخرية مرة.
ــ “هل تُعدّين قاتل الملوك بطلًا؟ أعلم أن الجميع يراني همجيًا. لا حاجة أن تتصنعي الكلام اللطيف لمجرد أنك زوجتي.”
ــ “ولماذا تقول ذلك؟”
كلما طال الحديث، ازداد ارتباكي.
في المستقبل الذي رأيته، كان كواناش مجرد مجنون مدمن على الحروب.
لكن الآن… إنه الإمبراطور الذي تُمجده القارة كلها. أنجز إنجازات عظيمة في سنوات قليلة.
صحيح أنه سحق وطني، لكنني شخصيًا أقدّر أمرًا واحدًا على الأقل: أنه أطلق موجة تحرير العبيد عبر القارة.
فلماذا إذن يتحدث وكأنه يحط من قدر نفسه؟
“هل يختبرني؟”
ربما كان يريد أن يستشف رأيي الحقيقي فيه.
لكن هذه المرة لم يكن هناك داعٍ لأن أتظاهر أو أصطنع كلمات منمقة. قد لا أعرف الرجل كواناش كإنسان، لكنني أعرف جيدًا الإمبراطور كواناش رادون.
كنت قد قرأت سيرته المنشورة وعدة مقالات عنه، وما ترسخ في قلبي قلته بصدق:
ــ “مهما قال المتحجرون، فلن يمحو أحد ما أنجزته من أعمال عظيمة.”
حرّك كواناش شفتيه الممتلئتين مرتين كأنه يتردد، ثم قال:
ــ “يبدو أنك سمعت قصصًا مبالغًا فيها عني. لست بذلك الرجل العظيم كما تظنين. وبالتأكيد لست بطلًا.”
ــ “إن لم تكن أنت بطلاً، فلن يستحق هذا العصر أن يُسمّى فيه أحد بطلًا.”
اهتزت عيناه السوداوان قليلًا.
ــ “… يكفي. لننهي الحديث ولنمضِ.”
عاد وجهه إلى صلابته السابقة، ثم استدار متجهًا نحو عربتي. بدا على فرسان الإمبراطورية الارتباك لرؤيته يفعل ذلك.
اقترب أحدهم، وكان على ما يبدو قائدًا ذا رتبة عالية، وقال:
ــ “جلالتكم، جوادكم الأسود قد أُعِد…”
ــ “اغرب عن وجهي.”
ــ “لكن مراسم البروتوكول…”
ــ “قلت اغرب. أم أن لك رأسين؟ هل يضيرك إن قطعت واحدًا منهما؟”
قالها بنبرة سوقية خشنة، وكأنه أحد أوباش الحارات، تختلف كليًا عن صوته حين يخاطبني.
لكن الفرسان لم يُظهروا ذعرًا؛ بدا أنهم معتادون على ذلك منه. وحدي أنا كنت مندهشة.
ففي أكايـا، بلادي، كانت الأعراف والتقاليد مقدسة، ويُعتقد أن سلطة العائلة المالكة لا تقوم إلا على تلك الطقوس.
وقف كواناش أمام العربة، ثم التفت إليّ:
ــ “ما بالك واقفة هكذا؟”
ــ “أه… أنا…”
ارتعشت حاجباه فجأة، ثم عض على شفتيه وقال ساخطًا:
ــ “تبا…”
ــ “كواناش؟”
ــ “إن كنتِ فزعتِ من طريقتي بالكلام، فاعلمي أنها مجرد عادة.”
ومرر أصابعه بين خصلات شعره الأسود المموج.
ــ “وحتى تهديدي بقطع الرؤوس، كان مجرد دعابة. وهم أيضًا يعرفون ذلك. فلا داعي للخوف. لن أتصرف معكِ بخفة أبدًا.”
ــ “أنا لم أخف.”
بل كنت مندهشة فحسب.
رجل لا يحتاج أن يتزين أو يتصنع الهيبة، ورغم ذلك يخضع له الجميع ويُجلّونه. إمبراطور عصر جديد يُطاع كما هو.
ــ “إذًا، لماذا هذا الوجه؟”
مددت أصابعي لا شعوريًا لأتحسس وجهي.
ــ “ما ملامحي الآن؟”
ــ “… لا أعلم. لهذا أسأل. أنتِ أول شخص ألتقيه لا يقرأ المرء مشاعره من وجهه.”
كان الأجدر أن أقول له نفس العبارة.
ــ “اصعدي إلى العربة بسرعة.”
ــ “آه… نعم.”
أمسكت بطرف فستاني الواسع ووقفت أمام العربة. للحظة ترددت، كيف أرتقي هذه العربات الضيقة مع هذه التنورة الضخمة؟
لكن فجأة، انحنى كواناش على ركبته أمامي.
ــ “…؟”
حتى الفرسان الذين لم يهتزوا من نكتة قطع الرؤوس، بدت عليهم الدهشة هذه المرة.
ولهم الحق في ذلك… فالإمبراطور نفسه جثا على ركبته.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 10"